نحو وطن يتسع الجميع في جزيرة العرب
التغيير
لطالما وصفني المدافعون عن النظام في السعودية بأنني ناكر للجميل، جاحد للنعمة وحاقد على البلاد وكاره لـ"ولاة الأمر" بسبب مواقفي المعارضة للقمع الممنهج ضد المواطنين والأقليات المطالبين بحقوقهم السياسية والمدنية والدينية والظلم الفادح الذي يتعرض له المقيمون بما فيهم شريحة "المواليد".
ولطالما شكك مؤيدو النظام في دوافع اهتمامي بالأوضاع الحقوقية والسياسية في السعودية واتهموني بالعمالة لكل من إيران وتركيا وقطر على الرغم من تنديداتي المتكررة بتلك الأنظمة وانتقاداتي لانتهاكاتها الحقوقية بحق مواطنيها وسياساتها المؤيدة للجماعات المتطرفة كحركة "حماس" وجماعة الإخوان المسلمين والحوثيين و"حزب الله".
ومع وصول محمد بن سلمان إلى ولاية العهد، تنامت ظاهرة التخوين ضد الأصوات التي تطرح آراء مختلفة وتنتقد سياسات الأمير الشاب الداخلية والخارجية، وأصبح أنصاره يستقوون بالسلطة ضد كل من يختلف معهم ويزايدون على مخالفيهم في حب الوطن متجاهلين خطورة غياب الأصوات المعارضة ومغبة التسليم التام لابن سلمان والإيحاء له بأنه معصوم عن ارتكاب الأخطاء ومنزه من القصور والزلل.
وعند تسلم محمد بن سلمان منصب ولي العهد، استبشر المواطنون والمعارضون خيرا وتوقعوا أن يتسع صدره لآرائهم وتمنوا أن يبدأ عهده بإصلاحات حقيقية تلبي مطالب الشعب وأن يحرص على كسب ثقة وتأييد كل شرائح المجتمع إلا أن ما يجري يشير إلى أن الأوضاع تسير في اتجاه معاكس تماما.
لقد بدأ بن سلمان عهده بخلق عداءات مع رجال الدين والأمراء ورجال الأعمال والمثقفين والكتاب والحقوقيين والمعارضين فاعتقل ناشطين وناشطات وأصحاب الرأي وسلط "الذباب الإلكتروني" على المعارضين لسياساته المقيمين في المنافي وجرى استهداف هواتفهم وحواسيبهم ببرامج تجسسية.
إن أي متابع منصف للسياسة السعودية ليتعجب من إصرار بن سلمان على سياسات تكميم الأفواه وقمع المطالبين بالإصلاح وسجن خيرة أبناء الشعب وتحويل العلماء والمثقفين إلى منافقين بسبب خوفهم على أنفسهم من بطش السلطة.
أليس من الأجدى له أن يعمل على احتواء أبناء الوطن بمختلف انتماءاتهم من أجل بناء وطن يسع الجميع؟ وهل يعقل أن يجهل بن سلمان دروس التاريخ البعيد والحديث التي تؤكد أن القمع لن يزيد الشعوب إلا إصرارا على الحرية وأن انسداد آفاق التغيير يزيد حالة الاحتقان ويسرع عملية الانفجار؟
قد يقول قائل إن لدى سلطات آل سعود رؤية تطمح من خلالها ـ بحسب الموقع الرسمي لرؤية 2030 ـ إلى "إنشاء مجتمع نابض بالحياة يستطيع فيه جميع المواطنين تحقيق أحلامهم وآمالهم وطموحاتهم في اقتصاد وطني مزدهر" وبالتالي فإنها تسعى لتنفيذها بدلا من إضاعة الوقت وتبديد الجهد في مناقشة النقاد والمعارضين.
وقد يرى آخرون بأن التحديات التي تواجه البلاد تتطلب حكم البلاد بقبضة حديدية لقطع الطريق أمام القوى الإقليمية التي تسعى لزعزعة الأمن عبر تجنيد أبناء الوطن لخدمة أجنداتهم الخبيثة والعبث باستقرار البلاد.
ولكن بالنظر إلى النهج السياسي لمحمد بن سلمان الذي يتميز بالتسلط والانفراد بالسلطة واستهداف للمعارضين يتضح أن أعداد الحانقين على الأوضاع في السعودية في ازدياد، وأن صورة الإصلاحي التي حاول بن سلمان التسويق لها في الخارج قد بدأت في التلاشي بسبب رعونة سياساته الداخلية وفشل سياساته الخارجية بالإضافة إلى تبعات جريمة اغتيال الكاتب جمال خاشقجي.
في اعتقادي، وعلى الرغم من إخفاقات بن سلمان والتحديات التي تواجهه، لا يزال الأمير الشاب يملك الفرصة لتغيير سياساته وتبني نهجا إصلاحيا حقيقيا يكسب به ثقة الشعب ويحافظ على وحدة البلاد ويحدث التحول المطلوب الذي يلجم الأعداء ويضع البلاد على المسار الصحيح.
ولكن يبدو أن بن سلمان يسرف في مراهنته على علاقة بلاده مع حلفائها في واشنطن والعواصم الأوروبية، الذين وإن ازعجتهم انتهاكاته لحقوق الإنسان إلا أنه من المستبعد أن يتخلوا عنه بسببها، فالمصلحة المترتبة على التحالف مع آل سعود في الشؤون الأمنية والاستراتيجية يحتل مرتبة أعلى في ميزان الأمن القومي الاستراتيجي لأولئك الحلفاء.
ويبدو كذلك أنه يستهين بقدرة الشعب السعودي على الرد على الاستبداد والظلم والفساد وسوء إدارة الموارد بالخروج في ثورة شعبية والمطالبة بإسقاطه. كما يبدو أيضا أنه يقلل من شأن المعارضة السعودية في الخارج على الرغم من اتساع قاعدتها في عهده وتمكنها خلال سنوات قليلة من تسليط الأضواء على الكثير من قضايا الظلم والفساد والتواصل مع المواطنين عبر وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات العالمية.
ومهما تكن دوافع بن سلمان والمبررات التي تجعله يمعن في القمع والظلم والاستبداد بالسلطة ويستمر في تنفيذ السياسات الكارثية، فإنه يخطئ إن اعتقد أن رهانه على علاقاته الدولية سيحميه من السقوط إن نفذ صبر الشعب وثار ضد الظلم والفساد مطالبا بحقوقه السياسية والمدنية والعدالة والمساواة.
أتمنى مع نهاية هذا العام أن يتدارك بن سلمان نفسه ويعمل على تحويل البلاد إلى وطن يتسع جميع أبنائه ويحتويهم بمختلف انتماءاتهم وميولهم الفكرية والعقائدية ورؤاهم السياسية وذلك بإطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات وعقد مؤتمر للحوار الوطني يشارك فيه جميع المهتمين بالشأن العام من كافة شرائح المجتمع لمناقشة القضايا التي تهم المواطنين والتحديات التي تواجه البلاد والخروج برؤية سياسية يكون الشعب هو حاميها والحريص على تنفيذها وخط الدفاع الأول لها.
أتمنى أن يراهن بن سلمان على الشعب وأن يعمل على تعزيز مفهوم المواطنة وتقوية الجبهة الداخلية وذلك بترسيخ مبدأ المساواة بين المواطنين واحترام حقوقهم إن أراد فعلا تحويل البلاد إلى "السعودية العظمى"، وذلك لأن الدول العظمى تستمد عظمتها من شعوبها ومن قوة أنظمتها السياسية والدور الذي يلعبه المواطنون في صناعة القرار فيها وليس عبر القمع والاستبداد والإقصاء والتخوين.
ارسال التعليق