![الحقوق والسياسة في القرآن الكريم ـ المقدَّمة (1)](http://hourriya-tagheer.org/upload_list/source/News/Old/2015-2-4-19-12-55.jpg)
الحقوق والسياسة في القرآن الكريم ـ المقدَّمة (1)
(1)
المقدَّمة
الظاهرة الاجتماعية
يمکن تقسيم بحوث الحياة الاجتماعية للانسان الی مجموعتين رئيستين:
مجموعة البحوث التي تدرس وتطالع الظواهر التي تقع في الحياة الاجتماعية للآدميين من جهة تحقق وقوعها فقط، ولا يهمها ما تتصف به من حسن أو قبح.
المجموعة الثانية هي البحوث التي تصدر أحکاماً قيمية بشأن الحياة الاجتماعية وشؤونها المختلفة، وتقضي بحسن أو قبح کل ظاهرة اجتماعية.
و بعبارة أخری يدور الکلام في بحوث المجموعة الاولی حول «الوجودات والاعدام» وفي بحوث المجموعة الثانية حول «ما ينبغي وما لا ينبغي»
إنّ بحوث المجموعة الاولی تکون غالباً في إطار «علم الاجتماع» و«فلسفة التاريخ» وقد تعرضنا لها في الماضي، بينما تندرج بحوث المجموعة الثانية ـ وهي ما سنتعرّض لها لاحقاً ـ تحت عنوان «الحقوق» في الغالب.
لـ «الظاهرة الاجتماعية» مضمون عام وواسع جداً، حيث يشمل حتی الظواهر التي لها واقعية في الساحة الاجتماعية ـ في أحد معانيها ـ وان کان قوامها نوعاً من الجعل والاعتبار، فمثلاً يکون البحث عن مفردة «الحقوق» أو «الحکومة» بحثاً عن ظاهرة اجتماعية، وان کان قوام مفاهيمها بالجعل والاعتبار، لأنّ عملية «الاعتبار» وآثارها المادية المترتبة عليها تعدُّ من الظواهر الاجتماعية. غاية الأمر يکون الکلام أحياناً عن وجود اعتبارات في کل مجتمع توجد يتصدّی علی أساسها بعض الافراد للمسؤوليات والمناصب المختلفة، ويقال أحياناً ينبغی أن يکون الامر هکذا، أو أن علی الذين يتعهدون باداء عمل ما أن يکون لهم السلوک الفلاني.
يطلق علی أحکام النوع الاوّل: الأحکام الواقعية والتوصيفية وعلی أحکام النوع الثاني: الأحکام الدستورية والتکليفية.
عدم التفکيک بين الأحکام ولا انفصال بين الدين والسياسةتقسم الأحکام القيمية عادة الی ثلاث مجموعات:
أ ـ الأحکام الالهِيّة والدينِيّة: وهي النواهي والأوامر المسندة الی الله تعالی، وفي کلِّ دين يُدعىو الناس للعمل بها کاقامة الصلاة والحج.
ب ـ الأحکام الأخلاقِيّة: وهي الأحکام التي يدرکها العقل الإنساني أو الفطرة الإنسانية أو الوجدان البشري ـ حسب اختلاف التعابير ـ ويری أنّ لها قيمة واعتباراً بغض النظر عن الامر الالهي أو الانساني کحسن الصدق وقبح الظلم.
ج ـ الاحکام الحقوقِيَّة: وهي الاحکام التي توضع من قبل جهة صالحة لتحقيق المصالح البشرية في الدنيا، وترتبط بالعلاقات الفردية المتبادلة في المجتمع. هذه الأحکام بحاجة الی متصدٍ تنفيذي وهي «الحکومة» في الغالب.
و منذ ازمان بعيدة سعت اتجاهات للتفکيک بين هذه الاحکام بصورة کاملة، واعتبرت لکل منها دائرة خاصة، وعليه تتحدد دائرة الاحکام الالهية والدينية بالشعائر والعبادات التي يعتقد بها اتباع کل ديانة في ازمنة وامکنة خاصة، کالمراسم الدينية التي يمارسها الهندوس، أو الآداب الدينية لعبدة الاصنام الموجودين في بعض نقاط العالم.
هذه الشعائر والعبادات لا علاقة لها مع شؤون الحياة الاجتماعية الاخری ، وانما هي ـ حسب معتقدات اتباع کل ديانة ـ اداء لواجب تطلبه قوة او قوى طبيعية أو فوق الطبيعية من الانسان. وعلی هذا فالاحکام الدينية لا علاقة لها بالاحکام الاخلاقية ـ التي يتصدّی الوجدان البشري لتنفيذها ويخضع لها الانسان إرضاءً للضمير ـ کما لا علاقة لها مع الاحکام الحقوقية ـ والتي تدعو الحکومة کل مواطن للالتزام بها بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية واستتباب النظام والامن.
في العالم الغربي أيضاً بعد اعتبار المسيحية ديناً رسمياً لامبراطورية روما أخذ الطغاة والحکام المتجبرون ـ وان اعتنقوا ظاهراً الديانة المسيحية استجابة لمقتضيات العصر ـ لاجل الاستيلاء علی کلِّ القوی في الدنيا، وإدارة البلدان الخاضعة لهم بالشکل الذي يرتأونه يرددون المعزوفة المقيتة في فصل الدين عن الشؤون الدنيوية ـ ومنها السياسة ـ لکي يخرجوا الأوامر والنواهي الإلهية من دائرة الحقوق ـ بمعناها العام ـ ويفعلوا ما يشاؤون بدون أن تقف أحکام الله بوجههم وتصدهم. وفي هذا الطريق لم يدّخروا وسعاً حتی تطاولت أيديهم لتحريف ومسخ الکتب الدينية، حتی اننا نلاحظ الانجيل اليوم يتضمن احکاماً من هذا القبيل:
«سمعتم ما يقال: العين بالعين والسن بالسن، لکني اقول لکم لا تصمدوا أمام الشيطان، بل کل من صفعک علی خدک الايمن أدر له خدک الأيسر، واذا أراد شخص أن ينازعک علی ثوبک فقدّم له عباءتک، واذا اجبرک شخص علی السير ميلاً فسر معه ميلين» «وقال له اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله».
بعد «الثورة الصناعية» استفحلت هذه الاتجاهات، حتی ان فئة کبيرة من المفکرين والکتّاب لم يطالبوا بفصل الدين عن الحقوق تماماً فحسب، بل اقترحوا بکلِّ جدٍّ فصل الدين عن الاخلاق بصورة کاملة وبذلوا جهوداً حثيثة في هذا السبيل. إنّ فصل الدين عن شؤون الدنيا بصورة عامة وعن السياسة بصورة خاصة ـ وهو ما يواصل ترويجه المتغربون عبر نشاطهم الاعلامي في البلدان الاسلامية ـ ليس إلّا ذلک الاتجاه المتسلّط علی عالم الغرب.
إنّنا نعتقد أنّ أيّ دين إلهي وشريعة سماوية ترفض مثل هذا الفصل، وما يلاحظ في نصوص الديانة المسيحية ـ بهذا الشأن ـ وأشيع من قبل رجال الکنيسة ليس إلّا مسخاً وقلباً لتعاليم السيد المسيح(ع) الأصيلة.
في رؤيتنا ان الدين مجموعة من المعارف النظرية والاحکام العملية. والأخيرة تشمل الميادين الثلاث: علاقة الانسان مع الله، علاقة الانسان مع نفسه وعلاقة الإنسان مع غيره، وعليه انها تشمل الأخلاق والحقوق أيضاً.
هناک مجموعة هائلة وزاخرة من الاحکام الاخلاقية والحقوقية في القرآن الکريم والاحاديث الشريفة.
و من جهة اخری فان النظامين الاخلاقي والحقوقي في الاسلام يبتنيان بنحو کامل علی أُسسٍ دينية ـ ومنها الايمان بالتوحيد والمعاد ـ. وبعبارة اخری ان حديث الاخلاق وحديث الحقوق يشکلان جزءين مهمين من الدين کلّه، ولهما جذور في أرسخ المعارف النظرية للدين.
القانون والحقوقرغم ان لکلمة (الحقوق) و(القانون) استعمالات کثيرة في الحقوق إلّا أنَّها لا تفيد معنی محدداً بل تستعمل بمعانٍ مختلفة، فتارة يتسع معناها فيشمل أيَّ حکم عمليّ يلزم تنفيذه في المجتمع، سواء کانت من الحقوق الوضعية أو غير الوضعية کالعادات والرسوم والاعراف الاجتماعية او الشخصية وتبدو کأنها لا واضع معين لها، ومع ذلک فانها معتبرة اجتماعياً ويلتزم بها عملياً.
و استناداً الی هذا المعنی العام يذهب بعض الحقوقيين الی القول بوجود حقوق طبيعية أو فطرية، وهي ـ حسب رأيهم ـ الحقوق التي تعتبر علی أساس الطبيعة، الفطرة والعقل الانساني وليس لها واضع، بل علی القانون أن يسعی لنيلها ويجعلها دليلاً في وضع القانون.
و قد يستعمل المصطلح المذکور في معنی خاص فيشمل الحقوق الوضعية فقط ـ أو کما يقول البوزيتيفيست «حقوق مثبّتة» ـ فلا يصح أبداً ـ وفقاً لهذا المعنى ـ إطلاق لفظ «الحقوق» أو القانون علی الحقوق غير الوضعية، بل ستکون الحقوق الطبيعية والفطرية والعرف الاجتماعي من مصادر الحقوق. وهناک بعض الاضطراب في اطلاق الحقوق والقانون علی الحقوق الوضعية، فمثلاً يقول جمع من فلاسفة الحقوق: لکي ترتقي قاعدة الى رتبة «القانون» ينبغي أن تکون کلية وتتصف بالثبات والاستمرار ـ في منظار واضعها علی الأقل وان کان ثباتاً واستمراراً نسبياً، أي الی الزمان الذي لا ينسخها فيه قانون آخر ـ ولا يمکن إطلاق اسم القانون علی قاعدة لا يتوفر فيها هذا الشرط.
علی هذا الاساس لا يطلق القانون علی القواعد والقرارات الخاصة في مجال خاص لفترة مؤقتة، فمثلا الاتفاقية التي تلزم شخصاً بانجاز عمل ما لشخص آخر تکون قاعدة خاصة تحکم العلاقات المتبادلة بين الطرفين فقط، وهکذا الاحکام الصادرة عن المحاکم والتعليمات التنفيذية والقرارات التي تتخذها الحکومة أو يعمّمها مدير عام علی الدوائر التابعة له فانها ـ لفقدها الخصوصيات الأساسية للقانون ـ لا تعتبر قانوناً.
و إنْ لم نعتبر الکلية والاستمرار من الخصائص الأساسية للقانون ـ کما هو رأي الکثير من فلاسفة الحقوق ـ فان الأمثلة المذکورة تصبح مصاديق للقانون.
و ثمة من يقول: إِنَّ کل قاعدة يتم وضعها ويصادق عليها في المجلس التشريعي تصبح قانوناً، بينما لا يطلق القانون علی ما يعينه ويعلن عنه بعض مسؤولي احدی السلطتين الأخريين (التنفيذية والقضائية)، وعليه فان کُلاً من الاتفاقيات الخصوصِيّة، أحکام المحاکم والتعليمات التنفيذية والقرارات ليست من القانون لأنَّ المجلس التشريعي ليس واضعاً لها.
الفرق بين الاخلاق والحقوقصحيح أن هناک تداخلاً بين الأخلاق والحقوق في بعض الموارد، لکنا نری ثمة فروقاً أساسية بينهما نشير الی اهمها:
1 ـ إنّ الأحکام الحقوقية تتعلق بالسلوک الاجتماعي للانسان فقط في حين تشمل الاحکام الاخلاقية کل سلوک إرادي للانسان ـ سلوکاً اجتماعياً کان أو شخصياً ـ وبعبارة اخری ان الاخلاق ناظرة الی العلاقة بين الانسان وبين الله سبحانه ونفسه والآخرين بينما تهتم الحقوق بالعلاقات القائمة بين الانسان وغيره، اذن ليس للحق ـ بمفهومه الحقوقي ـ مصداق وراء الشؤون الاجتماعية.
2 ـ للاحکام الحقوقية متصدٍّ تنفيذيٌّ في الواقع الخارجي، أيْ إنَّ القوی الاجتماعية من قبيل الحکومة تلزم الناس بالعمل بها وتعاقب المقصِّرين والمخطئين، بينما ليس للاحکام الاخلاقية مثل هذا المتصدي بل لها متصد تنفيذي باطني وهو الضمير.
3 ـ إنَّ (ما ينبغي وما لا ينبغي) في الأخلاق أمور کُليّة وثابتة وخالدة في حين ان (ما ينبغي وما لا ينبغي) في الحقوق عرضة للتغير.
4 ـ إنّ القواعد الحقوقية أمور الزامية، أي إنّ القاعدة الحقوقية إذا أصدرت تکليفاً ما کان الزامياً ويجب العمل به، واذا أثبتت حقاً فانه يستلزم تکليفاً الزامياً وان لم يجب استيفاء «الحقّ» ابداً، وبعبارة بسيطة ان القاعدة الحقوقية إذا کلّفت ـ صريحاً ـ المجتمع کُلّه أو فئات او أشخاصاً بانجاز عمل ما وجب انجازه أکيداً، واذا أثبتت حقاً ما صريحاً، فان صاحب الحق وإن کان مختاراً في استيفاء حقه وعدمه ولايجبر علی ذلک، ولکن بما أن اثبات هذا الحق لصاحب الحق يستلزم توجه تکليف الی الذين فرض الحق عليهم فانهم ملزمون بالعمل به، إذنْ لا فرق بين أن تکون الدلالة المطابقية للقاعدة الحقوقِيّة توجيهاً للتکليف او إثبات حقٍّ، ويکون مدلولها الالتزامي توجيه التکليف، ففي الحالتين يفرض التکليف ويجب الالتزام به.
و لکن في مجال الأخلاق توجد تکاليف الزامية وواجبة، کما توجد تکاليف مرجحة ومستحبة، وهي التکاليف التي يحسن ويرجح الالتزام بها، ولکن ليس من الضروري العمل بها.
5 ـ ان الغاية من (ما ينبغي وما لا ينبغي) في الحقوق هو تحقيق المصالح الدنيوية لابناء المجتمع من قبيل بسط العدالة الاجتماعية، النظام، الأمن والرفاه العام وغايات اخری ، بينما الغاية من الاوامر والنواهي الاخلاقية ـ حسب نظريتنا في فلسفة الاخلاق ـ هي بلوغ الکمال النفسي وليس ذلک سوی القرب الالهي.
6 ـ إنّ القواعد الحقوقية تلاحظ اساساً ظاهر العمل ووزنه ولا تلتفت الی الدافع والنية لدی العامل التفاتاً يذکر، في حين تؤکد القواعد الاخلاقية تاکيداً بالغاً علی الداعي والغاية لدی العامل.
و عليه إذا تطابق فعل خاص مع القواعد الحقوقية تطابقاً ظاهرياً فَإنَّه سيحظى بقيمة حقوقِيَّة ثابتة، بينما لا يکفي التطابق الصوري والظاهري مع الموازين الأخلاقِيّة في أنْ يکون العمل ذا قيمة أخلاقية، فما يکون ذا تأثير فاعل هو النية والدافع لدی العامل فمثلاً: إنَّ أداء الأمانة عمل ذو مکانة في دائرة الحقوق وفي دائرة الأخلاق أيضاً، فمن يردّ الامانة الی صاحبها فان عمله ذو قيمة حقوقية ثابتة ـ سواء کانت نيته وجه الله أو الرياء او الخوف من عقوبة الحکومة أو أي أمر آخر ـ بينما لکي يکون عمله ذا قيمة أخلاقية ثابتة أيضاً يجب أن يصدر بنية إکتمال النفس والقرب من الله.
و لا يفوتنا أنْ نشير الی أنَّ في الحقوق يلتفت أحياناً الی قصد الفاعل لما له من دور في أصل العقوبة أوکمها وکيفها، فالقاضي ـ مثلاً ـ يتحرّی هل ان فعل المجرم صدر عن عمد أو شبه عمد اوخطأ لکي يحدد العقوبة المناسبة إلّا أنّ هذا _بوضوح_ غير النية المذکورة في الاخلاق، فان هذا الالتفات الی قصد الفاعل يکون لتحديد العقوبة وتخفيفها او تشديدها وبالتالي لضمان المصلحة الاجتماعية، وليس للاکتمال المعنوي لدی الانسان کما هو المقصود في الأخلاق.
مفردة الحقوقإنّ مفردة الحقوق ذات معانٍ اصطلاحية عديدة نشير الی اثنين منها:
أ ـ يکون المراد من «الحقوق» أحياناً هو النظام الحاکم علی السلوک الاجتماعي لدی المواطنين في المجتمع، اي مجموعة (ما ينبغي وما لا ينبغي) التي يلزم ابناء المجتمع الواحد بالعمل بها.
في هذا الاصطلاح لا ينظر الی کلمة الحقوق کصيغة جمع للحق بل يتعامل معها ککلمة مفردة، وکأن مجموعة الاحکام والقرارات الحاکمة علی مجتمع ما تعتبر امراً اعتبارياً واحداً اطلق عليه «الحقوق».
إنَّ کلمة «التشريع» في اللغة العربية وهکذا کلمة «الشرع» في اصطلاح فقهاء الاسلام لها هذا المعنى نفسه تقريبا، وتکون کلمة الحقوق مرادفة تقريبا لکلمة «القانون» في المعنى، فمثلا يمکن التعبير عن «حقوق الاسلام» أو «حقوق الروم» بـ «قانون الاسلام» أو «قانون الروم»، وفي الوقت ذاته فان للکلمتين هاتين فروقا في المعنی سنشير الی اثنين مهمين منها:
1 ـ لکلمة «القانون» معنی عام واسع يشمل القوانين التشريعية والاعتبارية والقوانين التکوينية والحقيقية، في حين ان کلمة «الحقوق» ذات معنی أضيق وتشمل القوانين التشريعية والاعتبارية فقط فمثلا يطلق اسم «القانون» علی جميع القوانين الرياضية، المنطقية، الفلسفية والتجريبية، بينما لا يطلق علی اي منها کلمة «الحقوق»، ويستعمل المصطلحان ـ طبعاً ـ في دائرة التشريعيات.
2 ـ إنّ کلمة الحقوق تشمل «القوانين الوضعية» وتعني القوانين التي لها واضع معين وواضح ـ مثل الله سبحانه او جميع الناس او السلطان و.. ـ کما تشمل القوانين غير الوضعية التي يلتزم بها اجتماعياً ولکنها لم توضع من قبل شخص معين مثل العادات والتقاليد، بينما تستعمل کلمة «القانون» في القوانين الوضعية فقط، وعليه فان مفهوم الحقوق من هذه الزاوية أوسع مفهوماً من القانون، فالعرف ويعني دوام القرار العملي لدی الناس علی انجاز فعل ما او عدم انجازه ـ هو احد مصادر الحقوق في اي مجتمع ـ يعد قسما من حقوق المجتمع، ولکن لا يمکن القول انه قسم من القوانين في المجتمع.
ب ـ إنَّ کلمة الحقوق في الاصطلاح الثاني جمع لـ «الحق» ولفهم هذا الاصلاح من الضروري ان نلاحظ أوّلاً مفهوم «الحق» والمفاهيم المشابهة له.
مفردة الحقلهذه المفردة معانٍ متعددة قد لوحظ نحو من «الثبوت» في معانيها اللغوية والاصطلاحية کافة، تکوينياً کان هذا الثبوت وحقيقياً أو اعتبارياً واتفاقياً، وما نتناوله هنا هو معناه المصطلح في الحقوق فقط. والمستفاد من معنی کلمة الحق في دائرة الحقوق مفهوم اعتباري فعندما نقول: حق الخيار أو حق الشفعة أو حق الرجل أو حق المرأة فالمقصود هو هذا المفهوم اعتباري، واعتبارية هذا المفهوم تعني انه ليس لـ «ما بازائه» عين خارجية، ويطرح فقط فيما يرتبط بالافعال الارادية لافراد الانسان، فعلی الانسان الحر والمختار ان يقوم بمجموعة من الاعمال ويحترز من مجموعة اخری ، وفي اطار نظام (ما ينبغي وما لا ينبغي) الحاکم علی سلوک افراد الانسان تتولد مفاهيم نظير «الحق» و«التکليف» وقد أجری فلاسفة الحقوق والحقوقيون دراسات وقراءات واسعة في باب تعريف «الحق» کما کان لفقهائنا بحوث عميقة وواسعة حيث افردوا ـ اضافة الی طرح هذه المسألة في کتب الفقه والاصول ـ رسائل وکتابات مستقلة بهذا الشأن.
و من الطبيعي ان ذکر هذه التعاريف المذکورة عن الحق او التي يمکن ذکرها، ودراستها ونقدها، وبالتالي فرز احدها کتعريف مقبول يناسب شأن البحث الفقهي والاصولي الواسع النطاق، لکنا هنا نأتي بتعريف نعتقد انه الأرجح من بين التعاريف الاخری ونغض الطرف عن الدخول في هذا المبحث الطويل.
«إنّ الحق أمر إعتباري يُجعل لشخص (له) علی آخر (عليه)». هذا الحق قد يکون ذا منشأ واقعي وقد لا يکون، أي لا يلحظ في مفهومه ـ بعنوان أنّه مفهوم اعتباري وحقوقي ـ وجود منشأ واقعي وعدمه.
نحن نعتقد ـ طبعا ـ بان جميع الاحکام الشرعية لها مصالح ومفاسد واقعية ويتم اعتبارها علی اساسها.
و في هذا التعريف نواجه ثلاثة عناصر:
1 ـ من له الحق
2 ـ من عليه الحق
3 ـ متعلق الحق
و من له الحق قد يکون فرداً واحداً کحق الزوج بالنسبة للمرأة، وقد يکون فردين او ثلاثة أو عدة افراد بل قد يکون جميع افراد المجتمع کحق المسلمين جميعا في «الاراضي المفتوحة عنوة» وقد لا يکون «صاحب الحق» شخصاً حقيقياً في الأصل بل حقوقياً کالحقوق التي تمتلکها الحکومة، فصحيح ان العنوان الاعتباري «الدولة» قائم بالحکومة واعضائها أي رئيس الحکومة ومجلس الوزراء، إلّأ أن هذا العنوان لا يستند إلی اشخاصهم، بل الی مقامهم ومناصبهم، فاعضاء الحکومة يتمتعون «الحقوق» الخاصة بالحکومة ما داموا في مناصبهم، وعند فقد هذه المناصب ـ لاي سبب کان ـ فانهم يفقدون حق التمتع بتلک الحقوق الخاصة ويوکلونها الی اعضاء الحکومة الجديدة، ونلاحظ ان حقوق الحکومة لا تتغير ولا تزول بمجيء اعضاء الحکومة او ذهابهم، وما يحدث هو انتقال هذه الحقوق من مجموعة الی مجموعة اخری ، هذا بنفسه دليل علی ان صاحب الحق في «حقوق الحکومة» يتمثل في شخصيات حقوقية لا حقيقية.
في مثل هذه الموارد ـ التي تکون لصاحب الحق شخصية حقوقية يعبّر فقهاؤنا بلفظ «الجهة» ويقولون: «هذا الحق ملک للجهة» وقد لا يکون صاحب الحق انساناً، فمثلا يمکن ان يجعل الحق للمسجد ويقال: لهذا المسجد حريم فلا يحق لأحد أن يزاحمه لعدة أمتار عنه.
هذا الکلام يصدق ايضاً في «من عليه الحق»، فالحق يکون تارة علی فرد واحد، فمثلا في حق المرأة بالنسبة لزوجها هناک فرد واحد فقط وهو الزوج يکون عليه الحق، وتارة يکون الحق علی اثنين او ثلاثة او عدة او جميع المواطنين والمجتمع کُلّه، فمثلاً حينما يعطی لمالک الدار حقّ کل تصرف فيها فان جميع المواطنين عدا مالک الدار يمنعون من التصرف، وتارة يکون الحق على شخصية حقوقية ـ لا حقيقية ـ کحقوق الشعب علی الحکومة او بلد علی بلد آخر.
في ضوء التعريف الذي تم عن «الحق» يعلم ان «الحق» من المفاهيم الاضافية، فالمفاهيم تنقسم الی مفاهيم نفسية واخری اضافية او نسبية.
اما المفاهيم النفسية فلا اضافة او نسبة فيما بينها کمفهوم «الماء» و«الحياة» بينما المفاهيم الاضافية فيها نوع من الاضافة والنسبة کمفهوم «العلم» و«القدرة»، فالعلم يتعلق بشيء ما دائماً، فمالم يوجد ذلک الشئ «المعلوم» لن يتحقق العلم، وهکذا «القدرة» لا بُدَّ ان تتعلق بعمل ما فما لم يلاحظ ذلک العمل فان القدرة لن تتحقق، ومفهوم الحق ايضاً من قسم المفاهيم الاضافية حيث يوجد فيه عدة نسب واضافات، اضافة من له الحق مع متعلق الحق، واضافة من له الحق مع من عليه الحق وبالعکس، التفتوا فان مفهوم الحق ليس في نفسه اضافة بل فيه اضافة. وللحق لوازم أوضحها «الانتفاع»، فمن کان ذا حق بالنسبة لشيء أو شخص امکنه الانتفاع بمتعلق حقه.
و هکذا «الاختصاص» و«الامتياز» من مستلزمات الحق، لان انتفاع صاحب الحق بمتعلق حقه يمنع الآخرين من الانتفاع به، ويمکن القول ان هذا الانتفاع يختص بذي الحق، وبما ان الآخرين ممنوعون من ذلک ويکون الحق لذي الحق وعليهم فيمکن القول ان الحق اوجد نوعاً من الامتياز لذي الحق.
الحق والمفاهيم المشابهةبعد معرفة «الحق» نتطرّق الی بيان فرقه مع المفاهيم المشابهة وارتباطه بها:
أ ـ الحق والملک
هناک حديث واسع حول الفرق والترابط بين هذين المفهومين فلا نستعرض الاقوال المختلفة بل نبين رأينا فقط.
الفرق الأهم بين هذين المفهومين هو وجود اضافة في الحق، بين من له الحق ومن عليه، بينما لا توجد في الملک نسبة بين المالک ومن عليه الملک، فلا تکون مالکية المالک علی شخص آخر، نعم، من أحکام المالکية هو ان يمنع المالک الآخرين من أي تصرّف وانتفاع بمملوکه، وهذه المانعية نفسها حق للمالک، وبعبارة أخری لا يتضمن مفهوم الملک «علی » وان کان أحد مستلزمات المالکية حق المنع الذي يمتلکه المالک بالنسبة للآخرين.
الفرق الثاني بين المفهومين هو أن اصطلاح الملک يستعمل في مورد يتمکن فيه الانسان کل انتفاع بمملوکه انتفاعاً حقيقياً وتکوينياً ـ کالشرب والأکل ـ أو اعتبارياً کالبيع والهبة وليس أبداً أنْ يحق للمالک فقط نوع واحد او نوعان او انواع خاصة من التصرف والانتفاع بمملوکه کأن يستطيع ان يأکل ولکن لا يحق له البيع، او بامکانه السکنى ولکن لا يحق له البيع.
من الممکن ـ طبعاً ـ أن تفرض تحديدات ـ بحکم القانون ـ علی المالک، إلّا أنّ هذا النوع من التحديدات من قبيل الامور العارضة التي تنشأ من العوامل الخارجية، فالطفل غير البالغ ـ مثلاً ـ يمکن ان يملک شيئا ما، إلّا انه لا يحق له التصرف فيه بل يکون ذلک للولي، وفي هذا المورد يکون الولي نائباً عن الطفل ويکون تصرفه بمثابة تصرف الطفل، فی مثل هذا المورد أيضاً يکون حق أيّ تصرف محفوظاً، إلّا أن التصرف يکون تارة مباشرة وبيد المالک، وتارة بواسطة النائب او الولي.
و باختصار: إنَّ المالک قد يُمنع ـ بموجب القانون ـ عن بعض التصرفات، أو يحجر عليه لمدة فلا يتمکن من أی تصرف في مملوکه، إلّا أن هذه الموارد لا تتنافى مع المقتضي الذاتي للملک وهو جواز أي تصرف.
و علی خلاف الملک يکون «الحق» في مورد خاص کحق السکنی وحق الشفعة، فمثلا من ثبت له حق الخيار في معاملة ما فانه لا يحق له أيّ تصرف آخر في المعاملة، حتی عندما يکون لشخصٍ عدة حقوق بالنسبة لشيء، فان کل حق يکون مستقلّاً تماماً عن الحقوق الاخری ، ولا يوجد حق يستتبع الحقوق الأخری تلقائياً.
ب) الحق والتکليف
الحق والتکليف مفهومان متقابلان ووجهان لعملة واحدة، فعندما يثبت الحق لشخص في أنْ يتصرف في ملکه أي تصرف يريده يتوجه تکليف الی الآخرين بان لا يتصرفوا في ملکه أي تصرف، وبالتالي فان الحق والتکليف يجعلان بنحو التقابل، ويعني ذلک: أينما جُعل حق فقد جُعل تکليف أيضاً وبالعکس.
و من الطبيعي أن الجعل الصريح قد يتعلق بأحدهما، ولکن علی أي حال فان جعل الآخر متحقق أيضاً.
و يجب الالتفات الیأنّ الحق امرٌ إرادي والتکليف الزامي، فمن کان ذا حق في مورد فله ان يستفيد منه أو لا يستفيد، ولکن الآخرين لهم تکليف في احترام حقه ولا مفر لهم من ذلک.
ج) الحق والحکم
نقدم أوّلاً توضيحات عن «الحکم» ثم نتحدّث عن علاقته مع الحق.
إنَّ الحکم ـ اضافة الى معانيه الاصطلاحية الکثيرة في الموارد الاخری ـ يستعمل في دائرة الحقوق بمعنيين علی الأقل:
1 ـ معنی مصدري تارة ويستعمل بمعنی الأمر والجعل والانشاء، ومعنی اسم المصدر تارة اخری ، أي الحاصل من إصدار الأمر (= الأمر) وحاصل الجعل والانشاء (= المجعول والمنشأ) ـ فمثلاً ـ في الصلاة نطلق حکم الله علی ايجابها وجعلها واجبة وتارة نطلق حکم الله علی وجوبها وصيرورتها واجبة، ووجوب الصلاة يحصل من ايجاب الصلاة أي يحصل ـ في عالم الاعتبار ـ من جعل الله تعالي وانشائه.
2 ـ القضاء بين متخاصمين
لا اختلاف في المعنی الأول، ولکن بهذا المعنی يتحقق التحاکم بين متخاصمين.
الحکم بالمعنی الأوّل أعمُّ من الحق ـ بمعناه الحقوقي ـ لان هناک احکاماً وضعية وتکليفية کثيرة ليست ناظرة الی السلوک الاجتماعي للناس فتخرج قهراً من دائرة الحقوق، بينما يخصص الحکم بالمعنی الثاني قسما من الحقوق (الحقوق القضائية) بدائرته ولذا يعتبر جزءاً من الحقوق.
ثم ان الحکم بالمعنی الأوّل له مفهوم نفسي، ويکون الأمر والجعل والإنشاء لشخص علی آخر ولکن الحق مفهوم ذو اضافة.
النسبة بين معنيي الحقوقلاستيعاب هذا الموضوع يلزم ان نعرف ان الضوابط الحاکمة علی الحياة الاجتماعية لأفراد الانسان تبيّن بثلاثة أنحاء:
أ ـ تارة بنحو الإحکام التکليفية ـ أعم من الايجابية أو السلبية ـ مثل:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا)
ب ـ وتارة بنحو الأحکام الوضعية مثل: إنْ باع البائع ما لا يملکه فالمعاملة فاسدة أو ان الدم نجس والماء طاهر.
ج ـ وتارة بنحو تعيين الحق مثل: کل مالک له حق کل تصرف وانتفاع بمملوکه عدا الموارد التي يستثنيها القانون، أو إذا دلّس البائع فيثبت للمشتري حق فسخ البيع.
إنّ القوانين والضوابط التي تبين بالنحو الثالث تنطبق بصورة واضحة ومباشرة علی الحقوق بالمعنی الثاني ـ جمع الحق ـ بينما القوانين والضوابط الصادرة بالنحو الأوّل أو الثاني لا تعين الحق مباشرة وبدون واسطة لکنها تستلزم إثبات الحق.
و للايضاح نقول: في الاحکام الوضعية لا يبين التکليف في البداية ولا اثبات الحق، لأنّ الحکم الوضعي لا ينصبّ علی أفعال الانسان وسلوکه مباشرة بلا واسطة، بل يبين اموراً من قبيل الصحة والفساد، الشرطية والمانعية والطهارة والنجاسة والتي لها تاثير غير مباشر علی سلوک الانسان.
فمثلاً: الأحکام الوضعية الخاصة بالعلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة تشرّع بنحو مباشر الترابط الخاص بين الرجل والمرأة، وتلاحظ بنحو غير مباشر سلوک المرأة والرجل وتطلب منهما سلوکا وتعاملا معينا فيما بينهما، أو حينما يقال «إنَّ بيع ما يعجز البائع عن تسليمه باطل إلّا إذا کان المشتري قادراً علی تحصيله» فهذا الحکم الوضعي وان لم يبين تکليفاً بصورة مباشرة، لکنه يستلزم هذا الأمر وهو ان کلاً من البائع والمشتري مکلّفان بان لا يرتّبا أثراً علی مثل هذه المعاملة، وبما ان الغاية من جعل الأحکام الوضعية هو أنْ تکون ذات تاثير علی عمل وسلوک افراد الانسان فليس من المعقول ان يجعل حکم وضعي ثم لا يستتبع حکماً تکليفياً فانه سيکون عملاً لاغياً، لا شکّ إنّ کل حکم وضعي يجعل فقط من أجل أن تترتب عليه نتائج تکليفية.
من جهة اخری کل حکم تکليفي ـ کما قلنا ـ يستلزم حقاً، فمع کل تکليف يثبت حق، ففي الشؤون الاجتماعية والحقوقية أينما ثبت تکليف يثبت حق للذين لم يکلّفوا بذلک التکليف فعندما يقال: «الرجل مکلف بدفع نفقة المرأة» أي يحق للمرأة ان تطالب النفقة من زوجها.
و حينما يقال: «إذ اغصب الانسان شيئا فعليه إرجاعه الی صاحبه» أي ان صاحب المال يحق له مطالبة الغاصب بماله.
و عليه بما ان في الحکم الوضعي دلالة التزامية علی حکم تکليفي، وان هذا الحکم يستلزم ثبوت حق أمکن القول ان الضوابط الحقوقية والاجتماعية التي تبيّن بصورة الاحکام الوضعية أو التکليفية تبين أيضاً حقوق افراد المجتمع، ولذا لا تفترق عن الضوابط التي تعين الحق صريحاً.
و عليه فان الضوابط الاجتماعية وان کانت تبين بثلاثة أنحاء في النظرة الاولی لکنها ـ في النتيجة ـ تبين حقوقاً يمتلکها أفراد کل مجتمع.
الآن وقد توضحت النسبة بين المعنيين الاصطلاحيين لـ «الحقوق» لو نظرنا الی الدلالة المطابقية للأسس الحقوقية فقط فلا بُدَّ من القول: إنّ النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، لأن من بين الاسس الحقوقية کافة والتي يتکون منها النظام الحاکم علی السلوک الاجتماعي لافراد المجتمع يتولی القسم الثالث وحده بيان الحق، أمّا القسمان الآخران فلا يعيّنان حقاً.
و عليه سيکون المعنی الثاني لـ «الحقوق» ـ جمع الحق ـ أخص من المعنی الأوّل ويعني النظام الحاکم علی السلوک الاجتماعي لافراد الانسان.
و لو لاحظنا جميع اللوازم لاساس حقوقي فان اصطلاحي «الحقوق» يتطابقان ولا يوجد بينهما عموم وخصوص، إِذْ أن الضوابط الاجتماعية ـ والتي تمثل النظام الحقوقي ـ تعين الحق مع قطع النظر عن طريقة البيان.
مفردة الحق في القرآن الکريم والرواياتلمفردة الحق في القرآن معانٍ عديدة لا علاقة لها مع القضايا الحقوقية في أغلب الموارد، حيث استعملت 247 مرة تقريباً، 227 منها بلفظ الحق، 17 مرة بلفظ حقاً و3 مرات بلفظ حقّه، ولکن أکثر من 200 مورد لا مفهوم حقوقي لها، فمثلاً استعملت تارة کصفة لله تعالی قال سبحانه:
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ)
وتارة في أفعال الله تعالي کقوله سبحانه:
(مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ)
و المقصود هو أن فعل الله ليس لهواً، لعباً، لغواً وعبثاً بل کله حکمة.
و قد استعمل «الحق» في اربعين موضعاً من القرآن بنحو يعطي مفهوماً حقوقياً، وفي أغلب المواضع استعمل باحدی الصورتين، کقوله تعالي:
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ)
في هذه الآية وصف عمل اليهود ـ قتل الانبياء(عليهم السلام) ـ بانه «بغيرِ الحقّ».
و في اغلب الموارد يوصف عمل شخص ما بانه «بحقٍ صالح ومشروع» حينما يکون ذا حق ـ بمفهومه الحقوقي، بينما يوصف عمل خاص بانه «بغير حقٍ، غير صالح وغير مشروع» حينما لا يکون فاعله صاحب الحق بمفهومه الحقوقي.
فمثلاً: لو کان لشخص حق قتل شخص آخر، ونفّذ حقّه وقتله أمکن القول أنَّ عمله کان «بحق»، علی عکس من يقتل آخر دون ان يملک حق قتله، ففي هذه الحالة يوصف عمله بانه «بغير حق».
و هکذا من سکن في داره أو دخل داراً باذن صاحبها فان عمله «بحق» لان من حق کل انسان ان يسکن في داره، أو يدخل داراً باذن صاحبها.
و عليه ان مفهومي «امتلاک الحق» و«بحق» وان کانا متغايرين وينسب الأوّل الى الانسان والثاني الى أفعاله واعماله لکنهما يتطابقان في اغلب الموارد، فيمکن القول عن شخص يؤدِّي عملاً له الحق في أدائه بانه ذوحق في ان يعمل هکذا أو أن عمله عمل بحق.
الآيات التالية من المواضع التي استعمل فيها «الحق» بهذا المعنی في القرآن الکريم: الآيات 21، 112 و181 من سورة آل عمران، والآية 155 من سورة النساء حيث وصفت قتل أنبياء الله بانه عمل «بغير حق» وهکذا الآية 151 من سورة الانعام، والآية 68 من سورة الفرقان حيث نصّت علی ان من صفات عباد الله الحقيقيين اجتناب قتل النفس المحترمة إلّا بالحق، والآية 33 من سورة الاعراف حيث قال تعالی :
(قل إنّما حرّم ربّي ... والبغي بغير الحقّ)
و الآية 23 من سورة يونس، والآية 42 من سورة الشوري وفيهما اشارة الی (... يبغون في الأرض بغير الحقّ) وقد استعمل هذا التعبير أيضاً في الآيات 146 من سورة الاعراف، و39 من سورة القصص، و15 من سورة فصّلت، و20 من سورة الاحقاف، و40 من الحج، و75 من سورة غافر وقد وصفت بعض الافعال بانها (غير حق)
هذا وان القضاء والحکم ـ بمعنی ـ من افعال الانسان التي وصفت احيانا بانها «بحق» في القرآن الکريم، فالقضاء يکون بحق حينما يکون للقاضي والحاکم حق التحکيم، ويقتضي وفق الموازين الحقوقية، وإِلّا کان «بغير حق» قال تعالي:
(وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ؛ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ)
(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ)
و في مورد القضاء بالحق استعمل في القرآن ـ اضافة الي التعبير «بالحق» ـ تعبيرا «بالعدل» و«بالقسط» مما يشير الي التقارب الشديد بين هذه المفاهيم الثلاثة، ففي الآية 42 من سورة المائدة يتوجّه الأمر الی رسول الله(ص):
(وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)
و في الآية 58 من سورة النساء يقول تعالي:
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)
و في القرآن وصف القضاء الإلهي بـ «القسط» و«الحق» أيضا، قال تعالی :
(قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ)
(وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ)
و ورد القضاء بالحق والقسط مبنياً للمجهول في آيات عديدة، ولکن من المعلوم ان فاعله هو الله سبحانه کقوله تعالي:
(فاذا جاء أمر الله قُضي بالحقّ)
(و قُضي بينهم بالحقّ)
(قُضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون)
و ينبغي العلم بان إصطلاح القضاء الذي يمارسه افراد الانسان يدخل في دائرة «الحقوق» بينما صحة القضاء الالهي خارجة عن دائرة الحقوق الاصطلاحية.
2 ـ استعملت کلمة «الحق» أحياناً بمعناها الحقوقي في القرآن، کقوله تعالي:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ)
نلاحظ في الآية ان المدين ذکر تحت عنوان «الذّي عَلَيهِ الحَقّ».
(وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ؛ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ)
(وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)
(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ؛ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)
(كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)
(وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ)
وفي آيتين استعمل الحق في مورد التکليف، قال تعالی :
(حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ)
(حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ)
في الآيتين وإن تعّينت وثبتت تکاليف علی المتقين والمحسنين، ولکن جاء التعبير بـ «حقاً» عليهم، وهذا يؤيد هذا الأمر: أينما ثبت حق لشخص فان هناک «تکليفاً» أيضا علی شخص آخر.
و من الضروري ان نذکّر بنقطة هي ان کلمة «الحق» قد استعملت في الکثير من الأحاديث في معنی يشبه المعنی الاصطلاحي للحقوق ولکنها لا تکون نفسه، فبدلاً من ان ترتبط بدائرة الحقوق تختص بدائرة الاخلاق، وکنموذج نذکر «رسالة الحقوق» المنسوبة لعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حيث نلاحظ هذه العناوين:
حق الله تعالی علی الانسان، حق الانسان علی نفسه
حق اللسان، الاذن، العين، اليد، الرجل، البطن، والفرج وهي اعضاء الانسان
حق الصلاة، الحج، الصوم، الصدقة، الأضحية وهي من افعال الانسان
واضح ان کل حق من هذه الحقوق لا مفهوم حقوقي له، بل کلها ترتبط بدائرة الاخلاق، ولذا حينما نبحث وندرس «الحقوق في رؤية القرآن» لا ندرس هذه الحقوق وامثالها.
ارسال التعليق