السعودية وصفقة نادي نيوكاسل: عندما يغيب النضج ويحضر العناد
بقلم: توفيق رباحي/ كاتب جزائري
فشل صفقة استحواذ السعودية على نادي نيوكاسل يونايتد الإنكليزي لكرة القدم منطقي وكان منتظرا. وانسحاب السلطات السعودية من الصفقة قرار صائب، نادر، وسط مسلسل من التخبط الدولي وقعت فيه المملكة خلال السنوات الأخيرة بلا داعٍ.
ليس هناك شك في أن السلطات السعودية، ممثّلة في صندوق الاستثمار العمومي، انسحبت من صفقة نادي نيوكاسل من قناعة بأنها ستخسرها لا محالة. كان واضحا منذ اليوم الأول أن الصفقة متعثرة، لأنها انطلقت محاطة بالألغام ووسط أجواء «غير صديقة» للسعودية. كما أنها ترافقت مع، أو كانت على خلفية، أخطاء كثيرة وارتباك كبير من جانب الرياض.
هذا من حيث السياق العام. أما الأسباب المباشرة فحُصرت رسميا في عجز الرياض عن إثبات أن صندوق الاستثمارات العمومي منفصل عن السلطات السياسية. وأيضا ضعف الحجج والبراهين التي ردت بها على الاتهامات الخطيرة بسرقة بث منافسات رياضية دولية، أبرزها الدوري الإنكليزي الممتاز. في الحالتين، سرقة الحقوق وتبعية الصندوق، كانت الرياض أمام منازلة خاسرة لأن العالم كله يعرف أنها فعلا سرقت بث الدوريات، ويعرف كذلك أن صندوق الاستثمار لا يمكن أن يكون مستقلا عن الحكام ورئيسه هو الحاكم الفعلي للمملكة، محمد بن سلمان.
أيضا، إذا وضعنا الموضوع في سياقه، يصبح جائزا القول إن رغبة السعودية في الاستحواذ على نادي نيوكاسل برزت مدفوعة بخليط من الغيرة والتقليد بعد نجاح تجربتي قطر مع نادي باريس سان جيرمان الفرنسي، وأبوظبي مع نادي مانشيستر سيتي الإنكليزي. هذه الرغبة الجامحة جعلت القادة في الرياض يتناسون معطيات أخرى كثيرة في غير صالحهم قادت، في نهاية المطاف، إلى انهيار الصفقة.
لكن الأهم من التفاصيل أن الانسحاب من الصفقة سيحمي السعودية من مزيد من الإزعاج والفضائح. هذه الصفقة لم تفعل سوى أن سلّطت المزيد من الأضواء السياسية والإعلامية على أخطاء وخطايا المسؤولين السعوديين، وما أكثرها. فإلى جانب سرقة بث دوريات أوروبية تعود حقوقها حصريا لشبكة «بي إن سبورتس» القطرية، هناك قضايا حقوق الإنسان والتنكيل بالناشطين والناشطات، التي باتت تلاحق القادة السعوديين حيثما حلّوا.
نحن إذًا، أمام مشهد سعودي يفتقر للنضج والذكاء، ولرؤية تدرك الأبعاد الدولية لأيّ تحرك في هذا الزمن المعقّد. عندما تكون ملوَّثا بكل هذه الخطايا، من الأفضل لك أن تلعب بعيدا عن الأضواء. كان أحرى بالمسؤولين السعوديين انتظار وقت أفضل للخوض في هذه الصفقة المغرية والمزعجة في ذات الوقت. أيضا، وسط الدعاية السلبية الملازمة للسعودية وتحركاتها الخارجية، كان أجدر بحكام المملكة الابتعاد عن الكرة الإنكليزية وأضوائها وصحافتها التي لا تفوتها شاردة أو واردة، خصوصا عندمَّا يتعلق الأمر بالمشاهير والأثرياء وفضائح رموز الكرة من لاعبين ومدربين وملّاك نوادي.
كرة القدم صناعة لا تقل خطورة ونفوذا ودخلا عن الصناعات الحربية وتكنولوجيا المعلومات. ومن الطبيعي ألَّا يتسامح الأوروبيون مع التلاعب بها عندما يكون هدفك الرقي ببلادك إلى مصاف الدول الكبرى الجاذبة للاستثمار الدولي والاهتمام العالمي، وفي الوقت ذاته تُقدِم على قتل صحافي من قامة جمال خاشقجي في تلك التفاصيل المأساوية، دون أن تضع احتمال أنها قد تلاحقك وتُتعِبك طويلا، فأكيد أنك محاط بمستشارين مفلسين، أو أنك أنت ذاتك لم تبلغ بعدُ مستوى النضج الذي يؤهلك لقيادة دولة.
الشيء نفسه يقال عن سجن الناشطات الحقوقيات. القادة السعوديون خلقوا لأنفسهم من حالة الناشطات النسائيات عقدة احتاروا في حلها.. إذ تبيّن الآن أن الإفراج عنهن مشكلة وإبقاءهن في السجن مشكلة أكبر. ولا يختلف الأمر مع رجال الدين وأساتذة الجامعات الموقوفين والمعارضين المطارَدين في الخارج بسبب أرائهم المخالفة لأراء الحاكم، أو رفضهم دعم سياساته.
أن ترفع سقف طموحاتك وطموحات بلادك إلى عنان السماء، ثم ترتكب كل تلك الاعتقالات والتعسف معتقدا أنك فوق المحاسبة، ودون أن تعي أنك حتى لو تواطَأت معك حكومات ودول مثل أمريكا وبريطانيا، وأن العالم فيه صحافة حرة ومجتمع مستقل ومنظمات غير حكومية لا ترحم، فأنت بالتأكيد تعاني من خلل في إدراك حقيقة المشهد الدولي.
وعندما يكون هدفك خدمة نفسك وبلادك دوليا ومزاحمة الكبار، ثم تسمح لأحد من حولك بقرصنة منافسات رياضية دولية يتقاتل الآخرون للظفر بحقوق بثها ويدفعون أموالا طائلة مقابل ذلك، دون أن تستوعب خطورة هذا الفعل، فأكيد أنت تعاني من مشكلة كبرى، وأنك بحاجة لمن يعلّمك أن الدوريات الأوروبية هي إحدى أكبر ماكينات إنتاج الثروة. كرة القدم صناعة لا تقل خطورة ونفوذا ودخلا عن الصناعات الحربية وتكنولوجيا المعلومات.
ومن الطبيعي ألَّا يتسامح الأوروبيون مع التلاعب بها. كان على كبار المسؤولين السعوديين أن يدركوا هذا ويمنعوا بأي ثمن بث «بي آوت كيو» المسروق. لكنهم بدلا من ذلك، غضّوا الطرف وتركوا العنان لطيش جيوشهم الإلكترونية تشتم الآخرين وتتباهى بـ«الإنجاز العظيم».
في «سانت جيمس بارك»، معقل نادي نيوكاسل العريق، لم يكن الحضور السعودي متناسقا مع نفسه ومع الهدف المبتغى. كان على طرف نقيض معه. لذا خسرت الرياض هناك معركة نزاهة وسمعة، قبل أن تخسر صفقة تجارية ومعها 17 مليون دولار هي جزء من العربون المقدّم سلفا. ولتزيد الطين بلّة، وبدل استخلاص الدروس والتحسب للتجارب المقبلة، راحت السلطات السعودية في اليوم ذاته (الخميس الماضي) تعلن الطعن في حكم منظمة التجارية العالمية ضدها في دعوى سرقة حقوق الملكية التي رفعتها «بي إن سبورتس» القطرية. الطريف أن الرياض طعنت في حكم تباهت أذرعها لأكثر من شهر أنه في صالحها! علامة أخرى على الافتقار للنضج؟ بالتأكيد. أما الطعن فهو فقط رسالة عناد ومكابرة لأن الخصم، هو الشقيقة الصغرى، قطر. لو كان الخصم دولة أخرى والخلاف في سياق آخر، لتجاوزت الرياض الأمر ومضت لشؤونها. أما في ظل المزاج الخليجي المتدهور منذ صيف 2017، فمن الصعب أن تستسلم السعودية لحكم في صالح قطر حتى لو كلفها عنادها المستحيل.
المشكلة أن نتيجة النهائية للطعن، إن قُبِل ونُظر فيه، لن تختلف، على الأغلب، عن نهاية صفقة نادي نيوكاسل. فهل في الرياض رجل رشيد يجعل من الطعن الحلقة الأخيرة في مسلسل غير شيّق، والعلامة الأخيرة على غياب النضج؟ هذا النضج هو أكثر ما يحتاجه قادة السعودية الآن ليكفوا عن أنفسهم أذاهم لأنفسهم.
ارسال التعليق