كتب حسين ابراهيم: حُكم ابن سلمان لا يستقرّ: المنافسون يتربصون ويشككون بشرعية حكمه بعد أبيه.
التغيير
منذ توليه ولاية العهد قبل أربع سنوات، لم يفوت محمد بن سلمان فرصة لاستهداف عهد الملك الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، سواء بسياساته، وخاصة الاقتصادية، أو بأشخاصه، لأسباب هي خليط بين الكراهية الشخصية للراحل، وبين دواعي ضرب التسلسل الطبيعي للوراثة، والذي كان يجري التحضير له للانتقال من جيل الأبناء إلى جيل الأحفاد. لقد تم دفع عدد من المرشحين البارزين من أبناء الملوك الذين توالوا على الحكم بعد عبد العزيز آل سعود، إلى الصفوف الأمامية للسلطة، بعدما استثمر فيهم آباؤهم الكثير عبر السنوات، ليكونوا شركاء في سلطة تقوم في الأساس على التراضي، وتحافظ على وحدة الأسرة المكونة من عدة آلاف من الأمراء، وعلى استمرارها. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، حصر وزارة الداخلية في بيت نايف الذي تولى ابنه محمد لاحقا ولاية العهد، ووزارة الدفاع في بيت سلطان، ورئاسة الحرس الوطني في بيت عبد الله عبر متعب، وتخصيص مناصب كثيرة أخرى لبعض إخوانهما وأبناء عمومتهما.
لم يكن لمحمد بن سلمان أي حظ في الوصول يوما ما إلى العرش، ولا حتى إلى الصفوف الأمامية، ضمن هذا الترتيب، لولا الانقلاب الذي دبره مع أبيه، بمساعدة دونالد ترامب وصهره جارد كوشنر، ومحمد بن زايد.
هكذا، بدأ ابن سلمان في تحويل المملكة إلى سجن كبير للمنافسين من أبناء العمومة أولا، ثم لعدد كبير من رجال الدين النافذين والناشطين المدنيين، ممن أبدوا رأيا مخالفا في خطبة أو تغريدة أو تصريح، ونالوا عقوبات قاسية للغاية أو حتى جرى إخفاؤهم قسرا، ولو كانوا في الأساس من غير المعارضين لحكم آل سعود، بل حتى ممن قاموا بأدوار رئيسية في مساعدة الحكم على هزيمة تنظيمي "القاعدة" و"داعش" داخل المملكة، من أمثال الداعية سلمان العودة، الذي يواجه احتمال الحكم عليه بالموت، بسبب تغريدة دعا فيها إلى التوافق بين ولاة الأمر لحل الخلاف بين قطر ورباعي المقاطعة السابقة.
هل سيستطيع ابن سلمان المحافظة على تماسك حكمه من دون دعم جزء كبير من الأسرة، وفي ظل صراع مع معظم مكوناتها؟ هل سيتمكن من استمالة جزء منها إلى صفه بفضل موقعه كقابض على السلطة؟ أم أن المواجهة بينه وبين من بقي من أعمامه على قيد الحياة، وأبنائهم، ستطول وستترك آثارها على مؤسسة الحكم في المملكة، وربما على المملكة نفسها؟
ثمة عناصر قوة راجحة لدى ابن سلمان، أهمها اثنان: الأول قدرته على التحكم بمقدرات البلد الهائلة، واستخدامها لشراء الولاءات، ولتأديب المعارضين، وهو يفعل ذلك؛ والثاني خوف الرعاة الأميركيين من تشجيع صراع مفتوح على السلطة في المملكة، ينتج منه دخول أطراف دولية منافسة على الخط سعيا إلى الحصول على حصص، ما يؤثر على مصالحهم سلبا.
في المقابل، أدت حملة القتل والإخفاء القسري والأحكام القاسية بالسجن، والمشفوعة بمدد مماثلة من منع السفر، إلى قيام معارضة قوية ومنظمة، للمرة الأولى في تاريخ المملكة، داخل الأسرة وخارجها، وداخل البلاد وخارجها، لها أحزابها ورموزها ووسائل إعلامها، وهي في جانب منها تحالف موضوعي بين أفراد في الأسرة ومنشقين عنها، وبين بعض أصحاب التوجهات "الإخوانية" و"السلفية"، ممن جمعتهم مصيبة حكم ابن سلمان. واللافت أن ثمة مؤشرات إلى أن المعارضة تتلقى دعما من الدول المضيفة، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، سواء في ما يتعلق بالمعلومات الدقيقة التي يملكها أفرادها، أو بواقع أن عددا منهم يتجرأ على توجيه انتقادات لاذعة إلى سياسات بن سلمان، أو حتى السخرية منه شخصيا، على رغم أن لهم أشقاء أو أبناء معتقلين في المملكة. هذا ما يفعله، مثلا، المعارض عمر الزهراني المقيم في كندا، والذي قال في آخر ظهور له على "يوتيوب" إنه يملك معلومات عن أن الوفد الأميركي الذي زار المملكة أخيرا ضمن جولة خليجية، طالب ابن سلمان بإطلاق سراح محمد بن نايف وأحمد بن عبد العزيز، وابن وابنة سعد الجبري، الذراع اليمنى لابن نايف، متوقعا إطلاق سراح ابني الجبري قريبا. كذلك، يدلي بعض المعارضين بإفادات أمام الكونغرس بصورة منتظمة. لكن التطور الرئيسي في مسار تنظيم المعارضة كان تأسيس "حزب التجمع الوطني" في أيلول/ سبتمبر الماضي، بقيادة الضابط السابق في سلاح الجو، يحيى عسيري، مع آخرين مقيمين في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا، ومنهم مضاوي الرشيد، وعبد الله العودة، والزهراني، وسعيد بن ناصر الغامدي.
في المقابلة الأخيرة، بدا أن ابن سلمان لم يحقق أي تقدم في الحصول على مزيد من التأييد داخل الأسرة، وأن حملة القمع الشرسة التي أطلقها لم تؤد إلى ترويض المعارضين، بدليل استهدافه طوال المقابلة عهد الملك عبد الله، سياسيا واقتصاديا، إلى درجة التهكم عليه بالقول إن بعض الوزراء من عهد الملك السابق لم يكونوا يستحقون عضوية مجلس إدارة في شركة صغيرة. لكن بن سلمان يستفيد من تأييد بعض رموز الأسرة ممن يشاركونه في كراهية الملك عبد الله، ومن بين هؤلاء ثمة اثنان يرتدي دعمهما له أهمية خاصة، وهما بندر بن سلطان وتركي الفيصل. فالأول يؤدي حاليا دورا داعما لابن سلمان في واشنطن عبر ابنته ريما، سفيرة المملكة الحالية، التي عينت خلفا لخالد بن سلمان إثر سحبه بعد مقتل جمال خاشقجي، خوفا من مساءلته عن دوره في استدراج الضحية إلى القنصلية في اسطنبول.
وتستفيد ريما من خبرة أبيها وعلاقاته بوصفه سفيرا لمدة 22 سنة في الولايات المتحدة، وخاصة في خلال ولايات بوش الأب وبوش الابن اللذين كانت العلاقات الأميركية مع المملكة في أيامهما في أفضل أحوالها. ولبندر قصة مع الملك عبد الله الذي أقاله من منصب السفير في واشنطن في عام 2005. فعلى رغم أن الملك الراحل عاد وعينه رئيسا للاستخبارات العامة في عام 2012، وكلفه بإدارة الأزمة السورية، والسعي للحد من الدور القطري فيها، إلا أنه أقاله من منصبه في عام 2014، بسبب ذهابه بعيدا في دعم الإرهابيين في سوريا والعراق بالمال والسلاح، ما أدى إلى تقوية شوكتهم وارتدادهم صوب المملكة والخليج، حيث قاموا بتنفيذ تفجيرات عديدة، ولا سيما بعد إعلان قيام دولة "داعش". وبندر واحد من قلائل دافعوا علنا عن ابن سلمان، بعد رفع السرية عن تقرير الاستخبارات الأميركية بشأن مقتل خاشقجي، الذي اتهم محمد بن سلمان بالوقوف وراء الجريمة. فقد علق في آذار الماضي على التقرير بأنه "مجرد تقييم... والقضية مغلقة".
أما تركي الفيصل، فسبق بندر إلى استنكار التقرير بعد تسريب مضمونه، قبل ذلك التاريخ. ولا تقل كراهية تركي لعبد الله عن كراهية بندر له، فالملك الراحل عزل الأول من منصب السفير في واشنطن في 2007، بعد عامين من تعيينه، ليحل مكانه مستشاره عادل الجبير، كما كان قد عزله من منصب رئيس الاستخبارات العامة في عام 2001 حين كان عبد الله وليا للعهد، تحت حكم فهد، ومثل آنذاك حاكما فعليا بسبب عجز الأخير. أخو تركي، أمير منطقة مكة خالد الفيصل، هو الذي أرسله الملك سلمان للتفاوض مع الأتراك، بعدما بدأت أنقرة بتسريب أخبار اغتيال خاشقجي، ولكنه عاد بخفي حنين، حين رفض الأتراك التغطية على تورط بن سلمان. وابن تركي هو وزير الزراعة عبد العزيز الفيصل، الذي نال إشادة ابن سلمان في المقابلة الأخيرة بسبب "شغفه" بعمله، وهو المسؤول عن إنفاق نحو 1.5 مليار دولار على ما عرف بـ"الغسيل الرياضي"، أي تلميع صورة ابن سلمان من خلال تنظيم أحداث رياضية عالمية. كذلك، تركي هو أول فرد من الأسرة التقى علنا بإسرائيليين، سنة بعد سنة، على هامش "مؤتمر الأمن والتعاون" في أوروبا في ميونيخ. لكنه هو أيضا من هاجم إسرائيل في وجود وزير خارجيتها غابي أشكنازي خلال "مؤتمر حوار المنامة"، في كانون الأول الماضي، غداة تسريب أنباء زيارة بنيامين نتنياهو لمدينة نيوم ولقائه ابن سلمان.
بالنتيجة، يبدو ما يحصل في المملكة مقدمة لصراع مرير وطويل بين محمد بن سلمان ومعارضيه، يتوقع أن يشتد بعد وفاة الملك سلمان، حين سيتمكن أفراد الأسرة من التشكيك في شرعية ابن سلمان، الذي يتغطى في استيلائه على السلطة، بشرعية أبيه.
ارسال التعليق