كيف انقلب السحر على الساحر.. وسقط أبو منشار
بقلم: د. رشيد زياني شريف
رغم مرور أكثر من 40 يوما على عملية استدراج واختطاف والغدر بالصحفي جمال خاشقجي، لا تزال قضيته المروعة تتصدر عناوين أخبار واهتمام العالم، ومحل انتظار المجتمع العالمي للقصاص من مرتكبي ومخططي والأمرين بهذه الجريمة، وكل أصابع الاتهام موجهة صوب النظام السعودي الذي رغم اعترافه المتأخر والناقص وتقديمه أكباش فداء للتضحية بهم، من الأجهزة الأمنية من الدرجة الثانية، لم يستطع إقناع لعالم لا بتلك الاعترافات ولا بمستوى المتهمين، في انتظار الحقيقة كل الحقيقة، ليس حول الجريمة التي أصبحت واضحة لا يلفها أي لبس، وإنما إلى تقديم المسؤول الأول في تلك الجريمة أمام العدالة. ومع كل هذه الأحداث، والاعترافات والأدلة، كاد أمرٌ جوهريٌ يغيب عن الأنظار في خضم هول الجريمة.
الأدلة المتوفرة تثبت بأن الخطة الأصلية للتخلص من خاشقجي كانت مُعَدة لإنتاج وضع معاكس تماما لما آلت إليه الأمور، وضعٌ تكون فيه السعودية هي الضحية، وتصوّب أصابع الاتهام بالتهاون والتواطؤ إلى الدولة التركية، ومن ثم الإطاحة بمعصفرين بمنشار واحد.
سرعة كشف أجهزة الاستخبارات التركية ملابسات الجريمة البشعة لاختطاف واغتيال الشهد خاشقجي، أجهضت الخطة الأصلية المعدة للتخلص من خاشقجي دون ترك أثر لها. كانت الخطة تروم، بعد القضاء على خاشقجي داخل القنصلية والتخلص من كل آثار الجريمة، ترويج رواية “اختفاء المواطن السعودي في الأرضي التركية” والتباكي على مصيره، مع توجيه أصابع الاتهام إلى السلطات التركية بالتهاون في ضمان أمنه وسلامته وعدم العثور على جثمانه عقب اغتياله المفترض من قبل عصابات الإجرام”، وبذلك، ينتقم ولي العهد السعودي من النظام التركي، ويجعله يدفع فاتورة باهظة، أمنية ومالية ودبلوماسية وسياسية، لتحقيق ما لم يستطع تحقيقه إثر محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 والمساهمة في الأزمة الاقتصادية بالتعاون من حلفائه وأمريكا، ومن ثم الثأر من أردوغان، خاصة بعد أن أفشلت تركيا عملية حصار قطر. وكانت هذه هي الرواية محبوكة لضرب عصفورين ثمينين بحجرة واحدة (أو منشار على وجه التحديد)، العصفور الأول، القضاء على الصحفي الذي شق عصا الطاعة ورفض الانصياع للرؤية المستبدة لولي العهد، وتحديه له من خلال مواصلته الكتابة في الواشنطن بوست وإلقائه المحاضرات في المنتديات الدولية، بما يقوّض كل محاولات تلميع صورة ولي العهد “المجدد الإصلاح الحداثي”، عن طريق شركات العلاقات العامة مقابل ملايين الدولارات، أما العصفور الثاني، تركيا التي ناصبها ولي العهد العداء ولم يذخر جهدا للإيقاع بها ومحاصرتها وتقويض نموها.
بدت إرهاصات الأولى لهذه الرواية جلية فور شيوع خبر اختفاء خاشقجي حيث انطلقت الآلية الإعلامية السعودية المصرية الإماراتية في حركة منسقة، توجه أصابع الاتهام إلى “مثلت الشر” المتمثل في تركيا وقطر والإخوان!!!! ، وفيه من “المثقفين السعوديين” من قال بالحرف الواحد أن هذا عمل عصابات وعمل دولة مارقة، عندما كانت التهمة موجهة إلى قطر، لكن، ما أن تغير الاتجاه والأدلة والاعترافات، نحو السعودية، لم نسمع لهم صوتا. وبعد أن انهارت الرواية الأصلية (اختفاء خاشقجي في الأراضي التركية) وافتضاح ملابسات العملية وتفاصيلها أمام العالم، وثبوت عدم خروج خاشقجي من القنصلية، قبل أن تتسرب معلومات متطابقة عن قتله داخل مبنى للقنصلية، اضطرت السعودية التعامل مع المستجدات المحرجة، بكثير من التلعثم والاضطراب، وإصدار روايات متتالية متناقضة، لتهتدي في نهاية المطاف إلى الصيغة المعدلة، من “اختفاء خاشقجي” إلى اختفاء الجثة، الأولى كانت تروم اتهام تركيا، أما الثانية تعمل على إبعاد حبل المشنقة من رقبة “شخصٍ مَا” على حد تعبير الرئيس التركي. وثمة نقطة أساسية ضمن الخطة الأصلية، بما يكشف عنصر التخطيط والتدبير للعملية وفق رواية “اختفاء مواطن سعودي في الأراضي التركية”، تتمثل في ضمّ فريق الاغتيال عميل شبيه لخاشقجي، قصد التمويه، وإظهاره وهو يغادر القنصلية، ثم تعقب خطواته عبر كاميرات المراقبة الأمنية المثبتة في شوارع اسطنبول، أثناء تجوّله بعد خروجه المفترض من القنصلية، مرتديا ملابس المغدور به جمال، وبعد ذلك الادعاء بأنه اختفى فور خروجه من القنصلية التي تم قتله فيها وتقطيع أوصاله ثم تذويب جسده بداخلها..
هذا المسعى السعودي الجديد، القائم على المماطلة ورفض الإفصاح عن مكان الجريمة أو ما تبقى منها، من خلال نفيهم أي علم بذلك، بخلاف ما سبقوا الاعتراف به، أي توكيل متعاون محلي للتخلص منه الجثة مثلما صرح به وزير الخارجية الجبير، يبدوا أن هذا المنحى هو آخر ملاذ لهم في محاولاتهم إبعاد لهيب مسؤولية الجريمة عمن أمر بها، بعد أن فشلوا في دفن القضية، أو تحجيم أبعادها. ويتضح أن السلطات السعودية انتهت إلى أسلوب عصابات المافيا، الذين يذوّبون ضحاياهم في الأحماض وما شبهها من مواد، بغية محو كل أثر للجريمة، وإخفائهم الجثة إلى الأبد، عملا بالمبدأ القائل “من دون جثة، فلا جريمة”، لكن كل هذه الخطوات المتتالية المتناقضة والبائسة إن دلت على شيء فهي تدل أولا على ثبوت الجريمة، ثم على تخبط غير مسبوق من طرف الجانب السعودي في محاولة الإفلات من العقاب، ولن يزيد هذا الأسلوب في واقع الأمر سوى في توريط أصحابه وكشف بشاعة صنيعهم وسوء تقديرهم وضحالة تفكيرهم.
البديل أدهى وأمرقد يقول قائل أن مثل هذا الإنكار عبثي بعد أن تورطت السلطات في سلسلة من النفي ثبت كذبها بشكل متتالي، ومن ثم لا أحد يصدق روايتها اللاحقة، والجواب ببساطة، أن البديل عن ذلك هلاك محققٌ، لأنهم يعرفون بالتفصيل ماذا حدث، ومَنْ الذي أمر بذلك والمكان الذي تخلصوا فيه من الجثة، أي يعرفون كافة الأجوبة على الأسئلة المطروحة. ويدركون بشاعة الأمر وروع الموقف لو عُثر على الجثة (أو جسيماتها بعد تذويبها)، مما يضعهم في ورطة لا قبل لهم بمواجهتها وهو ما يفسر تخبطهم الفاضح، كون أن مثل هذا المشهد لو تكشف، من شأنه أن يهز مشاعر العالم برمته من وحشية الجريمة، أكثر بكثير من مجرد السماع عما حدث، لأن الرؤية ليست كالخبر، ولن تستطع السعودية في هذه الحالة فعل أي شيء لتبرير ما وقع أو تقديم أي كبش فداء.
ومن أجل تجنب هذه الطامة تبذل السعودية كل ما بوسعها، المعقول منه وغير معقول (من ذلك تقديم الأموال للدول التي تقف إلى جانبها، والوعود لإسرائيل بالمضي قدما نحو إبرام صفقة العصر)، على أمل إطالة عمر الأزمة قدر المستطاع إلى حين فقدان زخمها، ثم يلفها النسيان، ولا تتبع السعودية هذا المسعى ضمن خيارات متاحة وإنما من باب “مكره أخاك لا بطل”، لأن البديل عنه معناه نهايتها على أكثر من صعيد.
ومرة أخرى يفرض التاريخ مجراه، ويثْبت أن رياح القضية تجري في غير هوى سفن ولي العهد، وأن من حفر حفرة “لشقيقه” سقط فيها. الآن بعد أن أصبحت معظم الأوراق بين يدي الرئيس التركي، الذي تجرع مرارة محاولات محور محمد بن سلمان لزعزعة استقرار تركيا والعمل على محاصرتها بشتى الطرق، للرئيس التركي كل الأسباب والأعذار والأوراق لقلب السحر على الساحر، وكان باديا منذ الوهلة الأولى انه لن يساوم في هذه القضية، أولا انطلاقا من موقف مبدئي، لإحقاق الحق وإنصاف الضحية وأهله، والانتصار لكبرياء تركيا التي تم التعامل معها دون مراعاة قدرها وقيمتها كقوة إقليمية يحسب لها ألف حساب، ثم جعل مَنْ اقترف هذه الجريمة البشعة الغير مسبوقة في تاريخ الدول ونظمها الدبلوماسية، يدفع ثمن جرائمه كلها، الحالية والسابقة التي دفنت دون أن يعلم بها غير منفذيها والآمرين بها، ولن يشفع له في ذلك كل محاولات الغزل والتودد والمهادنة “ المفاجئة”، اتجاه الرئيس أردوغان، بل حتى تقديم أكباش الفداء للنجاة وتحصينه من المتابعة، ومن مصيره المحتوم، لن ينفع، مع ضرورة التفريق بين الحاجة الماسة غلى معاقبة المسؤول الأول على تلك الجريمة وبين الدولة التي لا يرغب عاقل زعزعة استقرارها أو المس بأمنها وأمن شعبها، ولا المساس بالملك الذي لم يكن على علم بذلك، مثلما أكد عليه أردغوان، في وقت لا أحد يجهل بأن شؤون الدولة تسيّر من طرف ولي العهد ومن وضعهم في محيطه الضيق.
ارسال التعليق