كيف حول العرب القضية الفلسطينية إلى الخليج أولاً
بقلم: جاكي خوجي
قبل بضعة أيام التقيت “ع”، وهو سعودي وصل في زيارة إلى إسرائيل بدعوة من وزارة الخارجية. وهو كاتب رأي وباحث في الثقافة، يقرأ العبرية ويكتبها. نشر بضعة كتب، بينها بحث في نصوص قديمة بلغة عربية يهودية. فاليهود في الدول العربية درجوا على الصلاة بالعربية، ولكنهم كتبوا صلاتهم بأحرف عبرية. ويبدي “ع” اهتماماً بهذه الكتابات. “اليهود كانوا وسيبقون جزءاً من الأمة العربية”، شرح في حديث بيننا.
في إسرائيل كنا سنسميه “رمزاً يمينياً”. بخلاف كثير من العرب، “ع” ليس مستعداً لأن يدفع ضريبة سياسية للفلسطينيين فيقاطع إسرائيل. كما أن فكرة السلام لدى المصريين والأردنيين لا يستطيبها. فبرأيه، مسموح للسعوديين أن يتصلوا باليهود، أينما كانوا، دون أن يعتذروا عن ذلك. وهاجم الفلسطينيين لما يفعلوه من ربط العرب كلهم بكفاحهم الوطني، على حد تعبيره. فلا يعقل أنه بسبب أقلية في الأمة العربية يفوت السعوديون فرصة تطوير العلاقات مع إسرائيل. لقد كانت للفلسطينيين فرصة لدولة في 1947، يقول، ولما رفضوها، لا داعي لشكواهم. أما المصريون والأردنيون فيتهمهم بتشجيع الكراهية، وكان عليهم أن يقدموا إلى المحاكمة منذ البداية كل من يروج لكراهية إسرائيل، إذا اختاروها صديقة لهم. هكذا إسرائيل أيضاً، عليها أن تحاسب كل إسرائيلي يحرض ضد أصدقائها.
قال ذلك عبر الميكروفون، وبثه صوت الجيش الإسرائيلي هذا الأسبوع. ونشرت ذلك مواقع إخبارية فلسطينية وعربية ونالت ردود فعل كثيرة، بعضها هجومية، وأخرى مؤيدة.
يقول الرأي إن المواطنين السعوديين العاديين أرادوا على مدى السنين إقامة علاقات مع إسرائيل رغم القضية الفلسطينية. ولكن إخراج هذا الموقف من الخزانة هو الأمر الجديد. ففي السنة أو السنتين الأخيرتين، وبفضل الشبكات الاجتماعية، ينال هذا الموقف امتداداً علنيا في الخطاب العربي. فبعد سبعة أو ثمانية عقود من العناق، وبعضها في ظل سفك الدماء، يرى بعض العرب أنفسهم معفيين من القلق تجاه الابن المضروب للأمة العربية. ويقولون إن الوقت حان لتوثيق العلاقات مع إسرائيل، حتى لو لم تعد للفلسطينيين حقوقهم.
غداة اليوم الذي التقيت فيه “ع”، زار الملك الأردني عبد الله الثاني نيويورك. وحل ضيفاً على معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. وقال أمام جمهور عاطف، في معظمه مؤيد لإسرائيل، إنه إذا كانت إسرائيل تريد أن تكون جزءاً من الشرق الأوسط فعليها أن تحل المشكلة الفلسطينية. وإذا كان لا بد من الحل، فحل الدولتين فقط. دولة فلسطينية مستقلة، في حدود 1967، إلى جانب إسرائيل.
الخليج أولاً
ها هما زوايتا نظر عربيتان للاتصال بإسرائيل. الجديدة والتقليدية. الجديدة –مثلها- ضيفنا السعودي، والتقليدية عبر عنها الملك. لا غرو أن النهج الجديد يخرج في هذه المرحلة من أفواه الأفراد. ولم تنضج بعد اللحظة التي يعبر عنها الزعماء. فما بالك أن الشارع يقف ضدهم. وهذه الأيام لا يزال الشارع العربي عنصراً مركزياً في اتخاذ القرارات لدى زعماء الخليج، وأكثر منهم زعماء مصر والأردن والمغرب. في المحادثات الداخلية يقولون أكثر. من ناحيتهم، يمكن صنع السلام وتأجيل حل المشكلة الفلسطينية. عشرات السنين من التضامن، بعضها بالدم، أوصلتهم إلى هذا الاستنتاج.
ينبغي أن يضاف إلى ذلك الانقسام الفلسطيني، الذي يبث إحساساً بانعدام الوسيلة من جانب الفلسطينيين أنفسهم، ويعقد كل وصول للسلام؛ ومشاكل العرب أنفسهم التي احتلت رأس سلم الأولويات على مشاكل إخوانهم. ولا غرو أن الملك وأبو مازن بقيا وحدهما في المعركة ضد هجر العرب للمشكلة الفلسطينية. الأردن هو الوحيد الذي يؤْثر مستقبل هذه القضية مباشرة على صورته ووجوده.
تتمنى تل أبيب منذ سنوات مساراً التفافياً لرام الله “بلدان الخليج أولاً”، وحسب هذه الخطة، تقيم إسرائيل علاقات مع إمارات الخليج والمغرب، وبعد ذلك تدفع بالقضية الفلسطينية إلى الأمام. وسيحرم هذا السيناريو الفلسطينيين من وسيلة الضغط الأساس على القدس – الظهر العربي. منذ قامت إسرائيل نجحت م.ت.ف في خلق ضغط سياسي عليها بواسطة المقاطعات واللاءات، وبإسناد من العرب، إذا أعطيتم دولة، فستحصلون على سلام إقليمي، وإذا لم تعطوا فلن تحصلوا. أما انهيار المقاطعة فسيمنع عن الفلسطينيين إمكانية إجبار إسرائيل على التنازلات.
من استمع في السنوات الأخيرة بإنصات شديد لخطابات نتنياهو السياسية، كان بوسعه أن يجد هذه الفكرة منثورة فيها. فرئيس الوزراء يأمل في أن توافق الإمارات على ذلك على أساس المصالح المشتركة. فما هي تلك المصالح؟ الصراع ضد إيران، لأنها تعرضهم هم أيضاً للخطر، والعلاقة الاقتصادية: صناعات أمنية، وتكنولوجيات متطورة، وعلاقات طبية، ومشاريع بنى تحتية ومياه. لإسرائيل الكثير مما تبيعه، ولديهم الإمكانيات للشراء. والآن السؤال هو الثمن، ليس المالي بل السياسي. قال نتنياهو إن القوة الإسرائيلية، السياسية والتكنولوجية، هي مصدر جذب للعرب. لإسرائيل تعاون مع نصف دزينة من الدول العربية، والعدد كفيل بأن يتسع، وألمح بالتعاون الأمني والعسكري مع هذه الدول. لعبت السعودية دور النجم في أقواله. وطرح كمثال شبكة القطارات في أراضيها، التي تلامس الحدود الأردنية. “سنجلب قطاراً من حيفا إلى حدود الأردن، و150 كيلومتراً أخرى فإذا بنا نرتبط بشبكة القطارات السعودية”. وادعى بأن “لأسفنا، هذا المشروع لم يتقدم بسبب البيروقراطية الرهيبة”.
أتى نتنياهو على تلك المعطيات التي جمعتها وزارة الخارجية في الشبكات الاجتماعية عن معدلات تأييد مواطني الدول العربية لإسرائيل؛ “ذات مرة كانت صفراً، أما اليوم فتتراوح بين 25 و45 في المئة”. وفي النقاش الذي بادرت إليه النائبة ميراف ميخائيلي، وعني بالسلام مع الأردن، شرح رئيس الوزراء سبب تعليق الخيار الفلسطيني. فعلى حد فهمه، الجمود مع الفلسطينيين لم يكن نتيجة الإبقاء على المناطق، بل نتيجة صراع وجود. فقد ذكر أحداث 1921 و1929، وأحداث 1936 – 1939، كتعبير تطلعهم لتصفية إسرائيل قبل وقت طويل من 1967. وقال: “منذ العشرينيات رفضوا وجودها”. وعاد وذكر رفض أبو مازن الاعتراف بإسرائيل بأنها دولة الأغلبية اليهودية. “لم ننجح في اقتحام هذا”.
هل يوجد احتمال لسلام تفافي في رام الله؟ السؤال سابق لأوانه. هذه الأيام هي مرحلة ولادة الفكرة. أما تحققها فمنوط بالتطورات الإقليمية. رئيس الوزراء ورجاله يلاحظون البراغماتية لدى جيراننا، وفي أحاديث مغلقة يسمعون تعابير صريحة على ألسنتهم عن الحاجة إلى وضع القضية الفلسطينية جانباً والاندفاع نحو سلام إقليمي. لا يمكن أن نعرف إلى أي مسافة يبدي حكام السعودية، والإمارات، والبحرين وغيرهم الاستعداد للسير في الاتصالات مع إسرائيل. صحيح أن قوة إسرائيل التكنولوجية، والاقتصادية، والعسكرية، والعلمية والدبلوماسية تشكل لهم دافعاً للتقرب، ولكن ثمة شك بأن يخاطروا بسببها بمواجهة مع الشارع والمتطرفين. فما بالك أن الكثير من هذه الأمور يحصلون عليها من إسرائيل منذ الآن، دون أن يقيموا معها علاقات علنية.
من الصعب التقدير ما سيكون مستقبل إيران؛ هل ستنجو الجمهورية الإسلامية من حملة الضغوط الكبيرة التي عليها أم ستضعف، وإذا ضعفت، أو انهارت، فهل سيبقى أي نسغ للعلاقات بين تل أبيب وأصدقائها في الخليج. ولنقل إن الفكرة ستتجسد.. هل سيجلس الفلسطينيون بهدوء؟ فهم يعيشون في أوساطنا، وبوسعهم أن يتمردوا، مثلما أظهروا في الماضي. هذا الأسبوع، بعد أن تلقى حماماً بارداً من إخوانه في أعقاب أقواله عندنا، عدت إلى “ع” كي أسأله عن إحساسه، فقال برباطة جأش من منزله في الرياض: “تلك الهجمات أمر طبيعي، وكثيرون هنا يحملون مواقفي”.
ارسال التعليق