![الحقوق والسياسة في القرآن(حق التقنين)](http://hourriya-tagheer.org/upload_list/source/News/Old/2015-2-4-9-8-38.jpg)
الحقوق والسياسة في القرآن(حق التقنين)
حق التقنين
قدّمنا ـ لحد الآن ـ الاستدلال علی عجز الانسان في أن يکون مقنناً لنفسه، وهنا نريد الاستدلال علی ان الناس لا حقّ لهم أساساً، ولا يجوز ان يضعوا القانون لانفسهم بصورة مستقله، ولهذا الامر لا بُدَّ أولاً من ذکر موضوع کمقدمة، وهو ان المفاهيم الاعتبارية التي يعتبرها الناس ويستعملونها في حياتهم وان کانت اعتبارية ترتبط من الطرفين بالحقائق والامور الواقعية، احدهما من ناحية منشأ الاعتبار والآخر من ناحية هدف الاعتبار.
و للتوضيح، نذکر مفهوم «المالکية» کمثال، فمن الواضح انه مفهوم اعتباري، لانه عندما يکون شخص مالکاً للشئ ـ الکتاب مثلاً ـ بعد شرائه، لا ينشأ أي ارتباط ونسبة تکوينية وحقيقية بينه وبين کتابه، فلا يتعرض نفسه الی تغيير تکويني وحقيقي إثر صيرورته مالکاً، ولا يتغير کتابه إثر صيرورته مملوکاً، إلّا أن هذا المفهوم ناشئ من الواقعيات، لأن منشأ مفوم المالکية الاعتبارية هو المالکية الحقيقية. فان المالکية الحقيقية والتکوينية هي التي تکون ذات آثار حقيقية وتکوينية، کمالکية کل إنسان لاعضائه وجوارحه، فکل انسان يدرک أنه قادر علی التصرف في اعضاء جسمه، أي انه ذومالکية طبيعية بالنسبة لاعضائه.
ينتزع الانسان هذا النموذج من الحقائق والتکوينيات، ويستفيد منه في کلِّ زمان ومکان يحتاج فيه الی الاعتبار ويصوغ مفهوماً ويستخدمه لذلک الاعتبار، فاذا واجه شيئا ليس له ارتباط تکويني معه، ولکنه يملک حق التصرّف فيه فانه سرعان ما يستخدم مفهوم المالکية الاعتباري، ويعتبر نفسه مالکاً لذلک الشئ وذلک الشئ مملوکاً له.
نلاحظ إنّ الواقعيات تصبح منشأ للاعتبارات، وفي کلِّ زمان ومکان نشأت ضرورة للاعتبار يجب ملاحظة الامور الواقعية.
من جهة اخری لا يقوم الانسان بعملية الاعتبار ما لم يکن له غرض حقيقي وتکويني، اي للمعتبر دائماً غرض حقيقي وتکويني من عملية الاعتبار، فهو يعتبر المالکية لنفسه بالنسبة للکتاب حينما يريد منع أي شخص آخر من التصرف فيه، ويقوم بنفسه بکل تصرف يريده. ان القيام باشکال التصرف من قبل نفسه، ومنع الآخرين من اي تصرف، امور حقيقية وتکوينية وآثار حقيقية وتکوينية في حياته وحياة الناس.
باختصار: إنَّ المفهوم الاعتباري ـ کمفهوم المالکية الاعتبارية ـ وان لم يکن في نفسه ذا ارتباط بالنموذج الحقيقي له ـ کالمالکية الحقيقية ـ ولکن بلحاظ منشئه ولحاظ الغرض الذي يقصده المعتبر من عملية الاعتبار يکون ذا ارتباط مع الحقائق والامور الواقعية.
بعد هذه المقدمة نقول: إنَّ الرؤية الاسلامية تقتضي أن نعلم بانّ الوجود کلّه مخلوق لله تعالی وملکه التکويني الحقيقي، فاذا سلّمنا بان کل شئ ـ ومنه الانسان ـ ملک حقيقي لله تعالی ، والله مالک حقيقي لکلِّ شئ له حظ من الوجود وهو الرب التکويني والتشريعي، في النتيجة يجب ان نذعن بان أي تصرف في عالم الوجود يجب ان يکون مسبوقاً باذنه واجازته، اننا لسنا أحراراً بحيث نتمکن من التصرف کما نشاء في الاشياء المختلفة کما نحب ومنها الآخرون من افراد الانسان فهم أيضاً مخلوقون لله ومملوکون حقيقيون له.
علی هذا الأساس لا يحق لنا ـ في الحياة ـ أن نقوم بعمليات اعتبار تتنافى مع مالکية الله الحقيقية، ولکل اعتبار آثار ونتائج کثيرة في الحياة الفردية والاجتماعية للآدميين، وعمليات الاعتبار لا بُدَّ أن لا تکون بشکل تتنافي آثارها ونتائجها الحقيقية والتکوينية مع مالکية الله سبحانه وربوبيته.
و ببيان أوضح: لا يحق لشخص الاعتبار والانشاء والامر والنهي، وحتی اجماع ابناء المجتمع کافة أو جميع البشر في الارض لا يولّد قانوناً، ومن له حق في توجيه الأمر الی الانسان هو المالک الحقيقي له وللعالم بأسره، أي أنه الرب التکويني للانسان، ويجب ان يکون ربه التشريعي والمقنن. له. إذ ان النظام العقائدي ـ في الرؤية الاسلامية ـ لا يفترق عن النظام القيمي والقانوني، بل بينهما ارتباط وثيق ومباشر، والنظام الاعتقادي أساساً هو المنشأ للنظام القيمي.
باختصار: بما ان الاحکام والضوابط ـ الفردية أو الاجتماعية ـ يجب ان تکون منسجمة مع المصالح في هذا العالم والمصالح الاخروية والأبدية، وان العقل البشري عاجز عن کشف وجود هذين الانسجامين وعدمها ـ وخاصة الانسجام الثاني ـ فان البشر عاجز عن وضع القانون.
و من جهة أخری ، بما ان الله تعالی وحده هو العالم بالسر والعلن ومحيط بجميع المصالح الدنيوية والاخروية الابدية للناس، ويعرف أقرب وافضل طرق تحصيلها أوّلاً، ولا يتأثر بأهواء النفس والاغراض الشخصية ثانياً، وهو الخالق لعالم الوجود والمالک والمختار الحقيقي فيه ثالثاً، فهو اذن وحده صاحب الحقّ لجعل القانون ووضعه.
منشأ اعتبار حکم القاضي
يتصدّی القاضي لتطبيق القواعد الاجتماعية علی مواردها الخاصة، وبعد متابعة المقدَّمات يصدر حکماً يکون بموجبه کل طرف من طرفي النزاع مصداقا لأحد الاحکام والضوابط الحقوقية. هنا يطرح هذا السؤال: ما هو الدليل علی اعتبار حکم القاضي، وعلی المتخاصمين الالتزام به عملياً؟ في الاجابة يرد شبيه ذلک الحديث الذي ذکر حول منشأ اعتبار القانون. قال بعض: إنّ دليل اعتبار حکم القاضي هو انتخاب الناس وارادتهم ويستدلون هکذا: اذا اختلف شخصان في احد الامور المشترکة بينهما، فمن الممکن أن يقوما بحل الاختلاف بانفسهما ويتفاهما ويتفقا، فاذا لم يُحلُّ الاختلاف بهذا النحو يمکن أن يتخذا شخصاً آخر حکماً بينهما، أي يتفقان علی الأخذ بکلامه وحکمه ويقضيان علی الاختلاف. من الواضح هنا أنّ اتفاق الطرفين علی أن يکون الشخص حکماً بينهما هو المنشأ لاعتبار حکمه. في المجتمع أيضاً يجب أن يکون الحکم في حقوق الناس وتکاليفهم شخصاً يسلّم جميع الناس لحکميته. إنّ أکثر الطرق طبيعية وعقلائية هو ان يقوم الناس ـ في کلِّ مجتمع ـ بانتخاب شخص ويتخذوه قاضياً. هذا الطريق صحيح منطقاً وعقلاً، کما لا تترتب عليه مشکلة لان الناس هم الذين ينتخبون القاضي، ولذا يتقبلون کلامه عن رضاً ورغبة ويلتزمون به عملياً. يرد هنا أيضاً ما يشابه الاشکالات الواردة في البحث السابق:
الاشکال الأول: لا يحصل اتفاق عامّ علی القاضي لبلد أو محافظة او حتی مدينة، بل انه ينتخب دائماً من قبل اکثرية الناس ـ وليس جميعهم ـ من هنا ربما ينتخب القاضي من قبل خمسين في المائة بزيادة واحد من الناس، في هذه الحالة يحتمل احتمالاً کبيراً ان يکون طرفا الدعوی او احدهما من الاقلية التي خالفت تنصيب القاضي في منصب القضاء، في هذه الحالة لا يری أحد الطرفين ـ علی الاقل ـ القاضي جديراً للقضاء، ولا يثق بکلامه ولا يريد ـ طبعاً ـ التسليم لحکمه، فما ذا يصنع في مثل هذه الموارد؟
و من جهة ثانية فان القاضي الرسمي والقانوني ـ الذي يجب علی الجميع التسليم لحکمه ويعاقب المعارض له ـ ليس قابلاً للقياس مع قاضي التحکيم الذي يرضی به الطرفان دائماً. الاشکال الثاني: في أغلب الموارد لا يعرف الجمهور مرشّحي منصب القضاء جيداً لکي ينتخبوا الاصلح من بينهم، ولذا من الممکن أنْ ينتخب الأسوء من بينهم، من جهة أخری فان هذا الجهل وعدم المعرفة الکاملة بين الناس يمهِّد الارضية للمنتفعين وذوي الصفات الشيطانية لان يرفعوا اشخاصاً معينين الی منصب القضاء ومناصب اخری ويطردوا المرشحين الآخرين من الساحة، وذلک باستخدام أشکال الخداع الاعلامي والاساليب النفسية وخداع الناس. في هذه الحالة ينبغي الاذعان بان الکثير من الانتخابات التي تجری في العالم ليست سوی امور مفروضة غير مباشرة وغير محسوسة. الاشکال الثالث: إنّ هدف الحقوق هو تحقيق المصالح الواقعية للشعب، وهذا الهدف لا يتحقق باستطلاع آراء الشعب، لأن ما يبديه الشعب في الاستطلاع ـ في أغلب الموارد ـ هو ما تقتضيه أهواء نفوسهم ورغبات قلوبهم لا المصالح الواقعية. إذن حتی لو أجريت الانتخابات بصورة صحيحة تماماً وبعيداً عن خداع الشعب والتهديد والترغيب فانه لا يمکن التيقن من ان نتائجها تحقق المصالح الواقعية للشعب. الاشکال الرابع: وهو اشکال اساسي ومبنائي ـ إن طريقة انتخاب القاضي وتعيينه لا تنسجم مع رؤيتنا التوحيدية الاسلامية، ان الموحدين الذين يؤمنون بان الله تعالی هو المفيض للوجود علی کل موجود، وهو المالک المختار الحقيقي للعالم ومخلوقاته يعتقدون طبعاً بان الحاکمية في الأصل له فحسب، والقاضي في حالة کونه منصوبا من قبله أو اعطي اجازة انتخابه ـ علی الاقل ـ الی الشعب يکون کلامه نافذاً وحکمه متّبعا، وبدون هذا الارتباط والانتساب لا يمکن جعل شخص حاکماً علی الآخرين وانتظار اطاعته بدون مناقشة.منشأ اعتبار الحکومة والدولة
يعتقد دعاة الديمقراطية والتحرير ان ارادة الناس هي منشأ الاعتبار في هذه المسألة أيضاً ويقولون: إنّ الجهاز التنفيذي ـ في أي مجتمع ـ يکسب اعتباره من إرادة ابناء ذلک المجتمع. وعلی هذا الأساس لا بُدّ أن يکون منفّذو القانون أي رجال الدولة ومسؤولو الحکومة منتخبين من قبل الشعب. و استدلالهم کالاستدلال الماضي بقولهم: حينما يضع عدة أشخاص رأس مال لتأسيس شرکة اقتصادية ينتخبون بعد وضع ضوابط لإدارة الشرکة ـ باتفاق فيما بينهم ـ شخصاً بعنوان «مدير أعمال» ويطلبون منه تطبيق الضوابط المذکورة ـ ومسؤولية مدير الأعمال هي تطبيق الضوابط التي صادق عليها المؤسِّسون في وقتها المناسب، ويدعونه حرّاً ـ کما هو المعتاد ـ في اتخاذ القرار في الشؤون الفرعية وذات الأهمية القليلة، وطريقة تنفيذ ما صودق عليه، وبهذا يعتبر مؤسِّسو الشرکة ـ بحرِّيتهم وبرأيهم ـ نوعاً من الحاکمية لمدير الاعمال، وعن هذا الطريق يحققون اهدافهم عملياً. و الطريق الصحيح والعقلائي ـ لتحقيق اهداف الحياة الاجتماعية المختلفة ـ في المجتمع هو انتخاب المجتمع شخصاً بوصفه حاکماً، ومطالبته بتنفيذ القوانين الاجتماعية المختلفة بصورة دقيقة، وبما أن مسؤولي التنفيذ والحکومة سيسلطون علی أرواح وأموال وکرامة الشعب، فالحقّ الطبيعي له هو أن يقوم بانتخابهم وتنصيبهم بنفسه، أمّا في انتخابات مباشرة وبدون واسطة او انتخابات غير مباشرة ومع الواسطة. ومن جهة ثانية تکون قراراته واعماله أکثر قبولاً لديهم وطريق حاکميته معبّداً بصورة أفضل. إنّ الاشکالات السابقة ترد علی هذا الاستدلال أيضاً: أوّلاً: من الناحية العملية لا يتفق الناس في آرائهم بالنسبة للحاکم ـ حتی حاکم مدينة او مدير ناحية ـ ولتنصيبه تقبل أصوات الأکثرية قهراً، فما هو الدليل علی قبول حکومته من قبل الاقلية التي لم تدل برأيها لصالحه، أو لم تره لائقاً لأن يکون حاکماً علی المجتمع؟ المؤسسون للشرکة يتوافقون بسرعة وسهولة وينتخبون مديراً للاعمال، ولکن مثل هذا الاجماع غير ممکن بالنسبة للمجتمع. ثانياً: الناخبون في اغلب الموارد لا يعرفون جيداً مرشّحي المناصب التنفيذية ـ من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء حتی حاکم المدينة ومدير الناحية ـ ولذا يحتمل أن لا يدلوا باصواتهم لأصلحهم بل ينتخبون الاردأ في بلدان يبلغ سکانها الملايين، وفي المدن الکبيرة لا يمکن أن تحصل لاغلبية الغالبة من الناس معرفة کاملة بالمرشّح في الانتخابات. ونتيجة عدم المعرفة الکافية هذه ـ إضافة الی ما يعمله شياطين الأنس من خداع الناس والغش ـ هو تحقق حاکمية أشخاص لا تقود حکومتهم المجتمع نحو الصلاح والسعادة أبداً. ثالثاً: لنفرض أنّ جميع أبناء المجتمع أجمعوا علی أهلية وصلاح شخص، وتوفرت للجميع معرفة کاملة به، ولم يسمح لذوي الشيطنة، مع ذلک لا نسلم بان حکومة هذا الشخص تکون في صالح المجتمع إذْ من الممکن ان يکون اعتبار الناس إيّاه أهلاً للحاکمية هو تلبيته أهواءهم النفسية لا تحقيق مصالحهم الواقعية. ولو دققنا قليلاً لفهمنا جيداً بان اغلب الناس في کلِّ زمان ومکان يتبعون أهواءهم النفسية لا المصالح الواقعية الدنيوية أو الاخروية، وبالتالي فانهم يحبون من يلبي أهواءهم النفسية أکثر، ولهذا الدليل واجه جميع المصلحين الحقيقيين علی طول التاريخ فشلاً في الظاهر. ويندر أن ينتخب الناس حاکماً يعمل علی عکس أهوائهم الحيوانية وأغراضهم الدنيوية ويفکّر بمصلحتهم الواقعية. إن اغلب الناس ينظرون الی کلِّ شئ بمنظارهم وباهوائهم النفسية، وعند التقييم والحکم يعتبرون کلّ انسان أو شيئاً يکون اکثر في خدمة رغباتهم هو «الافضل» وکل شخص أو شيئاً مزاحماً لرغباتهم ـ کثيراً أو قليلاً ـ «سيئا». وما أقلّ الذين يکون لهم ملاک آخر للحسن والسوء، ويعتبرون ما کان باتجاه المصالح الدنيوية والاخروية لجميع البشر حسناً وعکسه سيئاً. وکنموذج يکون أفضل رئيس للبلدية عند الناس هو من يوجّه أکثر نشاطه لصالح محلّتهم، وأفضل محافظ هو من يعمل لصالح مدينتهم أکثر من غيره وهکذا ... مع أنّ أفضل رئيس بلدية ـ في الحقيقة ـ هو من يحقق ـ اکثر من غيره ـ المصالح الواقعية لاهالي المدينة کافة، ولو تضاربت مصالح مدينته مع مصالح أهالي مدينة اخری او مدن اخری فانه لا يفکر بمدينته فقط بل يلاحظ مصالح الجميع بحسن نية وواقعية وسعة صدر، لکي يکون قراره بنحو لا يؤدِّي الی ضياع کامل لمصلحة أية مدينة، وهکذا افضل محافظ هو الذي يراعي اکثر من غيره المصلحة الواقعية لاهالي محافظته بل المحافظات الاخری ويسعی لتحقيقها. الخلاصة: نظراً الی ان اهتمام اغلب الناس في کلِّ مجتمع يدور حول اغراضهم ومصالحهم الدنيوية، فمن الطبيعي أن ينتخبوا لتولي المناصب التنفيذية، القضائية والتشريعية اشخاصاً يحققون مصالحهم بصورة أکبر، وإن أضرّوا بالآخرين ولم يراعوا مصلحة المجتمع کله، في حين ان الهدف هو تحقيق مصلحة المجتمع کله. رابعاً: بأي حق يمارس الحاکم المنتخب من قبل جميع أو اکثرية الشعب حکومته علی الآخرين ويدعوهم الی اطاعته واتّباعه؟ مع ان المالکية الحقيقية والاصيلة هي لله فقط، وبدون اذنه لا يحق لأي انسان ان يوجه امراً لغيره. وعلی اساس رؤيتنا التوحيدية والاسلامية يجب ان يکون للمقنن، القاضي ومنفذ القانون نوع انتساب الی الله تعالی ، والاّ لا يحق له التصدي للمناصب المذکورة. هذا الأمر يستفاد جيداً من الکتاب والسنة. و التقنين ـ طبعاً ـ يفْرق عن القضاء والحکومة، فالتقنين يمکن أن يحصل من قبل الله سبحانه ومن قبل الذين اجاز الله لهم ذلک، ولکن القضاء والحکومة لا يحصلان مباشرة من قبل الله تعالی ، بل من قبل الذين اکتسبوا إذناً منه بصورة دائمة. و للتوضيح نقول: من الممکن أن يضع الله تعالی جميع أو بعض القوانين ـ التي تکون أعمّ واکثر دواماً ـ ويوصلها الی الناس عن طريق مبلغ، ومن الممکمن ان يجيز للنبي او الامام المعصوم التشريع ـ علی الأقل لبعض القوانين التي ليست عامّة ودائمة بدرجة ملحوظة ـ امّا القضاء والحکومة فان مباشرة الله تعالی فيهما أمر غير ممکن لعدم سنخية الله سبحانه مع الانسان، وافراد الانسان لا قابلية لهم للّقاء والاتصال بساحته، ولذا فان طرفي الدعوی لا يمکنهما أبداً الحضور بين يديه ورفع الشکوی اليه ودعوته الی الحکم وفصل الخصومة. کما انه ليس من الممکن أن يقوم الله سبحانه ـ کالحاکم الاعتيادي ـ اصدار الحکم والأمر في شؤون الحياة الاجتماعية اليومية، بل ينصب أشخاصاً ليتولّوا أمر القضاء والحکومة، کقوله تعالی : (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) مصدر التقنين إنَّ الأحکام والضوابط الاجتماعية علی ثلاث مجموعات يطلق علی کل منها «القانون»: مجموعة تضم الاحکام والضوابط العامة التي ـ في رأي الواضع لها ـ ستحکم شؤون المجتمع المختلفة لمدة طويلة. و مجموعة اخری تضم الاحکام والضوابط الي لا تتصف بعموم ودوام وشمول وثبات المجموعة الاولی ، بل ادنی منها بمراتب في الجزئية والثبات. و المجموعة الثالثة تشمل التعليمات والنظم التنفيذية والضوابط اليومية والمؤقته. و باتفاق آراء علماء الحقوق تقريباً يجب وضع المجموعة الأولی من قبل السلطة التشريعية والمصادقة عليها، والمجموعة الثالثة يعتقد الجميع انها يجب المصادقة عليها من قبل المسؤولين التنفيذيين في کلِّ نظام، لأنَّه لو أُحيل أمر الوضع والمصادقة عليها الی المجلس التشريعي أيضاً فان الامور لا تنجز بسرعة، وربما يتأخر تنفيذ القوانين لمدة طويلة، ثم ان مضمون هذا القسم من الضوابط يتعلَّق بکيفية تنفيذ القوانين فيکون وضعها والمصادقة عليها من الحقوق المسلمة لمنفّذي القانون، لان من حق کل مسؤول تنفيذي في دائرة مسؤوليته أن يطرح رأيه بشأن طريقة تنفيذ الامور ويقرر ما يراه. اما أحکام المجموعة الثانية فهناک اختلاف شديد في أنَّ وضعها من شؤون السلطة التشريعية او التنفيذية؟ وکنموذج يمکن ان تکون المصادقة علی الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية في بلد مع بلدان اخری في نظام ـ حسب القانون الاساسي فيه ـ بعهدة المجلس التشريعي، وفي نظام آخر من شؤون رئيس الجمهورية او مجلس الوزراء. مصدر التقنين في الاسلام في الرؤية الاسلامية تکون القوانين علی قسمين: القسم الاول: القوانين التي وردت في نص الکتاب العزيز او السنة المعتبرة، وتکون مثل هذه الاحکام ثابتة الی الأبد ولا تتغير ولا يحق لأحد ان يناقش أو يتصرف فيها، هذه الاحکام من ضروريات الدين الاسلامي، وانکارها يوجب الکفر والارتداد لأنه يرجع الی إنکار الربوبية التشريعية الالهية. و هذه القوانين علی قسمين: القسم الاول تم وضعه من قبل الله تعالی مباشرة، والقسم الآخر هو القوانين التي لم تشرع وتجعل بلا واسطة من قبل الله تعالی بل أعطي حق وضعها وتشريعها الی الرسول الاکرم(ص)وخلفاءه من بعده. يستفاد من بعض[الأحاديث] ان حق جعل ووضع قسم من القوانين قد فوّض الی الرسول الاکرم (ص ) في الاحکام العبادية أو الاجتماعية والحقوقية ـ حتی ان بعض [الأحاديث و] الروايات تضمنت عبارة «تفويض» وتعبير «فرض النبي» فيه اشارة الی هذا الامر، يعتقد جميع المسلمين ـ طبعا ـ ان جميع الاحکام العامة والثابتة قد اوحيت الی نبي الاسلام الاکرم(ص) وقام بتبليغها کُلّها ـ بنحو من الانحاء ـ لکن الکلام حول هذا: هل ان ما أوحي الی النبي(ص) قد بُلِّغَ الی جميع الناس، أو ان قسما منها قد اُبلغ إلى اشخاص خاصين لکي يبينوها في ظروفها المناسبة؟ يعتقد بعض الشيعة الشق الثاني هو الصحيح ومستندهم في ذلك بعض رواياتهم [الواردة في] بيان بعض الأحکام الالهية قد فُوّض [التي فُوّض الأمر فيها إلى الخليفة الثاني عشر الغائب من ولد فاطمة كما يعتقدون فمثلاً [يقولون]: تقبل الجزية الی ما قبل ظهوره من أهل الکتاب بخلاف المشرکين الذين لا يُجری بحقِّهم قانون «الذمّة» ولا تقبل الجزية منهم، بينما في عصر ظهوره لا تقبل الجزية من أهل الکتاب أيضاً، وهذا حکم قد وضع من قبل الله تعالی ولکن بيانه قد انيط [إلى الخليفة الثاني عشر من ولد فاطمة الذي يعتقدون بغيبته في الزمن الحاضر]. [أما في عقيدة المسلمين من اهل السنة والجماعة فهم يقولون بالشق الأوّل وهو إنَّ ما أوحي الی النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم قد بُلِّغ الی جميع الناس وقد وصل إليهم بشكل مباشر عن النبي ص أو بالواسطة عن غيره كالخلفاء والصحابة ولا يوجد شيء مما اوحي إلى النبي لم يُبَلَّغ إلى جميع المسلمين. القسم الثاني: هو القوانين الفرعية والمؤقته التي يطلق عليها «الاحکام السلطانية» ففي فقهنا [الإسلامي] يحق للحاكم الشرعي وضع ضوابط محددة بزمان خاص او منطقة خاصة لم تکن واردة في نص الکتاب والسنة. لقد اعطي في الاسلام هذا الاذن والاجازة الی الحاکم الشرعي، أمّا انتخاب القانون ومدته ومنطقته فقد جعل بيد حاکم الشرع. لا شکّ ولا ترديد ـ طبعاً [ لا شك ولا ترديد _ طبعاً_ بين فقهاء الإسلام بشأن خلفاء النبي ص اذا عينهم لادارة امور المسلمين ولكن بشأن خليفة المسلمين من غير المعينين _أو غيرالمعصومين عند الشيعة والمعبر عنه بالولي الفقيه_] وهکذا [بشأن] حدود وموارد الاحکام السلطانية يلاحظ وجود اختلاف في الآراء. و الرؤية الصحيحة هي أنْ نعتبر [صلاحية خليفة المسلمين الشرعي واسعة جدّاً شاملة لجميع الشؤون الاجتماعية، عدا الامور التي يعتبر التدخل فيها من خصائص النبي او من يأمره النبي . إذن لا يعني وجوب انتهاء التقنين بالله تعالی هو ان الله يضع جميع القوانين مباشرة وبدون واسطة، بل يکفي في بعض القوانين تفويض الاذن في وضعه الی الآخرين، وقد أعطي الاذن في وضع قسم من القوانين العامة والأبدية الی نبي الاسلام الأکرم(ص) والحكام في حال ثبت انه عينهم واعطى اذن التشريع لجميع القوانين المرحلية والمؤقته ـ الاحکام السلطانية ـ الی حکام الشرع.
ارسال التعليق