![العلاقات السعودية الإسرائيلية الواقع، المتخيّل، المخاطر](http://hourriya-tagheer.org/upload_list/source/News/Old/2015-2-4-10-46-24.jpg)
العلاقات السعودية الإسرائيلية الواقع، المتخيّل، المخاطر
مازن صوالحة ـ فلسطين المحتلة
قد يثير العنوان تساؤلاً أولياً: هل هناك علاقات سعودية إسرائيلية أصلاً؟ أم أن الموضوع يتعلق بإشاعات تبثها وسائل الإعلام، خاصة الإسرائيلية منها؟ ثم إذا كانت هناك علاقات من نوع ما، فما هي حدودها؟ وما هي أهدافها من الجانب السعودي؟ ولماذا السعودية في الأصل بحاجة الى علاقة مع إسرائيل وهي تعلم أنها (علاقة محرّمة)، خاصة من بلد يحتضن مقدّسات المسلمين، قد تعود بالضرر الكبير ـ ظاهرياً ـ على نظام الحكم السعودي نفسه؟ هل العلاقة مع إسرائيل (ضارّة) فعلاً لآل سعود؟ لماذا إذن تمتلئ المنتديات السعودية، والسلفية على وجه الخصوص، بدعوات لإقامة علاقات مع إسرائيل والتفرّغ لحرب إيران وحزب الله وسوريا على قاعدة طائفية، باعتبار أن هذه الأطراف أكثر خطراً على (السعودية) وعلى (الإسلام) من إسرائيل نفسها؟!
مما لا شك فيه أن الإعلام والسياسة الإسرائيليين يتوقان إلى تطبيع العلاقات مع السعودية والدول العربية والإسلامية عامّة، وإيصال التطبيع إلى القاعدة الشعبية، ولذا فإن الإسرائيليين مدفوعون بأمرين متناقضين: الحاجة إلى كتمان تلك العلاقات من جهة بغرض استمراريتها، والحاجة إلى الإعلان عن تلك العلاقات لصنع مناخ التطبيع. وبالرغم من فوائد الإعلان النفسية التطبيعية والإختراقية للشخصية العربية، فإنه يمثل، في الوقت نفسه، إضراراً باستمرار العلاقة مع تلك الدول العربية، كونه يحرجها ويظهرها بمظهر المتآمر. لهذا اعتادت الصحافة الإسرائيلية على تسريب بعض الأنباء عن العلاقات مع دول عربية عديدة، وفي كثير من الأحيان هي أخبار كاذبة، كما هو الحال مع سوريا مثلاً، فيما تقدم تلك الوسائل الإعلامية الإسرائيلية بعض المعلومات القليلة عن تواصل في العلاقات وتدعيمها بالنسبة لبلدان أخرى كالسعودية، مخفية في نفس الوقت ما تحت قمة الجبل من اتصالات وتعاون.
لهذا ليس كل ما ينشره الإسرائيليون صحيحاً، فكثير منه جزء من الحملة النفسية ضد الشعوب العربية. ولذا هناك حاجة ماسّة للتحفظ على كثير من الأخبار الواردة، سواء تعلق الأمر بسوريا أو السعودية أو إيران أو غيرها، عدا تلك الأخبار المؤكدة والواضحة والتي تجري في كثير من الأحيان في وضع (نصف علني). فليس كل ما يقوله الإسرائيليون دليلاً، إلا إذا جاء مع قرائن أخرى، وأدلّة متوازية. نقول هذا، حتى نضع الصورة كأقرب ما تكون للواقع أمام القارئ، خاصة ونحن نتحدث عن علاقات بلد مثل السعودية مع إسرائيل.
فقد كثر الحديث عن علاقات سعودية إسرائيلية قوية خاصة بعد موقف السعودية من حرب تموز 2006م المضاد لحزب الله و(مغامرته) وكيف أن السعودية أوصلت إلى إسرائيل رأيها بضرورة مواصلة الحرب حتى (إنهاء قوة الحزب).. ثم جرى الحديث عن لقاء بين الأمير بندر ـ مستشار الأمن القومي السعودي ـ ورئيس وزراء إسرائيل إيهود أولمرت وذلك في ضيافة الملك عبدالله الثاني، ملك الأردن، إضافة إلى لقاءات أخرى بين السعوديين والإسرائيليين على مستوى المخابرات. وهي لقاءات لم ينفها أولمرت بشكل قطعي في مؤتمر صحافي، بل أكّدها بإشاراته وهو يبتسم بأنه نفى ما نفاه، وأنه يحق للصحافيين بأن لا يصدّقوا نفيه!
هل هناك علاقات سعودية إسرائيلية؟
في رده على الأخطل الصغير (بشارة الخوري)، كتب الشاعر العربي الكبير سليمان العيسى قصيدة بعنوان (يا شاعر الأرز) جاء فيها:
كم أقسموا بالدم المثئار لو طُرفت عين على القدس في ساحاتها قُتلوا
ومـزّق القـدس أشـلاءً مـروّعـة فاسئل ولو خجل التاريخ ما فعلوا
هم الأولى سلبـوا الأجيال لقمتـها وبالحـريـر على أشـلائهـا رفلـوا
هم لعنة الشعب والتاريخ ما برحت رجلُ لمستعمرٍ في الأرض تنتقلْ
كانت فلسطين تحت الانتداب البريطاني، الذي قاومه الشعب الفلسطيني بسلسلة ثورات احتجاجاً على السياسة الاستعمارية البريطانية في فلسطين، ومنها ثورة 1936، حيث أعلن عن عصيان مدني وإضراب شامل دام نحو نصف عام، واستعملت قوات حكومة الانتداب البريطاني كل وسائلها القمعية لكسر الإضراب، وزجّت بالمئات من الشعب الفلسطيني في السجون إلى جانب عمليات النفي والتشريد، ولكنها فشلت في تحقيق مأربها، خصوصاً وقد فشل لجنة التحقيق التي أوفدتها الحكومة البريطانية في 8 مايو من العام نفسه للوقوف على أسباب الثورة ووضع الحلول المناسبة، الذي لم يحدث أدنى تغيير في عزيمة الثوّار الفلسطينيين الذين واصلوا الإضراب والثورة.
طلبت بريطانيا عبر مندوبيها في المنطقة بتدخّل حلفائها من القادة العرب (وهم بالمناسبة أنفسهم قادة معسكر الاعتدال اليوم)، وبعد أن عجز حاكم الأردن، الأمير عبد الله، عن إقناع الثوّار، تدخّل الملك عبد العزيز، ملك السعودية وحليف بريطانيا الأقوى، حيث كتب برقية باسم القادة العرب لإنهاء الثورة ووقف الإضراب، إلى الحاج أمين الحسيني ووجهوا النداء التالي للشعب الفلسطيني:
(حضرة رئيس اللجنة العربية العليا -إلى أبنائنا عرب فلسطين
لقد تألمنا للحالة السائدة في فلسطين، فنحن بالاتفاق مع إخواننا ملوك العرب والأمير عبد الله ندعوكم إلى الإخلاد إلى السكينة حقنا للدماء معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل، وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم).
فاضطرت اللجنة العربية العليا، بعد أن خذلها الإجماع العربي ومواقف القيادات العربية، إلى الإعلان عن فك الإضراب ووقف الثورة المسلحة ابتداء من يوم 12/10/1936 الذي كان يصادف ليلة الإسراء والمعراج، فيما اضطر قادة الثورة مثل الشهيد عبد الرحيم الحاج محمد (أبو كمال) قائد الثورة، والقادة عبد القادر الحسيني وحسن سلامة وحسن خلف وعبد الحليم الجيلاني وعبد الرحيم محمود فقد لجأوا إلى سورية ولبنان والعراق تجنبا لغدر بريطانيا، فيما عاش أبو كمال في قرية من قرى لبنان لاستئناف الثورة والكفاح المسلح. فكان تقرير لجنة (بيل) الذي نصّ على تقسيم فلسطين شرارة ثورة أخرى، حيث أعلن الجهاد مرة أخرى لحمل بريطانيا على وقف مسلسل الاضطهاد للشعب الفلسطيني والتآمر على أرضه، وتسليمها لليهود، فيما ذهبت وعود الملك عبد العزيز والناطق باسمهم من القادة العرب مع الريح، فيما عاد قادة الثورة الى الميدان لمواجهة المؤامرة الدولية والتواطؤ السعودي والعربي الرسمي بصدورهم وإمكانياتهم المتواضعة.
لم يتوقف عبد العزيز عن إرسال البرقيات إلى قادة الثورة الفلسطينية من أجل إخلاء الساحة أمام الإنجليز لتنفيذ ما عدوا به اليهود بإقامة كيانهم على أرض فلسطين، بل قام بإرسال إبنه فيصل بن عبد العزيز، نائباً عنه، إلى فلسطين للاجتماع بقادة الثورة وإقناعهم بإيقاف الثورة والاحتجاجات، وقال فيصل في الاجتماع:
(حينما أرسلني والدي عبد العزيز في مهمتي هذه إليكم فرحت فرحتين: الفرحة الأولى، كانت من أجل زيارة المسجد الأقصى والصلاة في بيت المقدس، أما الفرحة الثانية فكانت فرحتي بلقاء هؤلاء الثوار لأبشرهم أن جهودهم لم تذهب سدى وان ثورتهم قد أثمرت بإثارة اهتمام صديقتنا بريطانيا العظمى التي أكدت لوالدي ـ حينما رأت اهتمامه بفلسطين ـ أنها لن تخيّب آمال الفلسطينيين، وبناء على ما عرفته من صدق نوايا بريطانيا أستطيع أن اقسم لكم بالله أن بريطانيا صادقة فيما وعدتنا به وان بريطانيا تعهدت لوالدي أنها عازمة على حل القضية الفلسطينية).. الخ.
وكانت النتيجة، كما عبّرت عنها مجلة (آخر ساعة) المصرية سنة 1968 بما نصّه (إن هذه البرقية ـ أو ـ النداء، وهذه الزيارة ـ السعودية ـ هي التي استطاعت أن تجهض الروح الكفاحية العالية للشعب الفلسطيني التي سادت طوال السنوات السابقة كرد طبيعي وثوري على محاولات تهويد فلسطين وذلك حين تمكن من أن يبدّل الأسلوب الثوري بأسلوب المساومة والتنازلات بالاعتماد على نوايا الدول الاستعمارية وهي نفسها التي خلقت إسرائيل… أجل… لقد كان هذا ″النداء″ بمثابة المحاولة الأولى لسحب القضية الفلسطينية من تحت أقدام أبنائها ودفع النضال الفلسطيني بعيدا عن مرتكزاته الفعلية).. وتضيف المجلة (ويمكن التأكيد بأن إجهاض ثورة 1936 الفلسطينية كان بمثابة نقطة البدء والمقدمة المنطقية لتزايد فعالية العصابات الصهيونية فيما بعد، ثم أخيرا لقرار التقسيم الذي انتهى إلى اعلان قيام الدولة العنصرية.
والذي حدث في ثورة 1936 حدث أيضاً في عام 1948 أي بتبني الاقطار العربية للقضية الفلسطينية وعزل الشعب الفلسطيني بمعظم فئاته عن فلسطين وكان ″النداء من أجل حقن الدماء″ وسيلة للمزيد من الدماء والبؤس)!…
في زيارة الأمير سعود إلى فلسطين عام 1936 برفقة المستشار البريطاني لابن سعود جون فيلبي، بهدف دعوة الثوّار لفك الإضراب ووقف الاحتجاجات، وقف شاعر الثورة الفلسطينية الشهيد عبد الرحيم محمود الذي تنبأ بنكبة فلسطين، قبل نشأة الكيان الإسرائيلي، ونعى فيها كرامة القادة العرب الذين شاركوا في ذبح القضية الفلسطينية، فقال مخاطباً فيصل بأبيات حملت دلالات كبيرة:
يا ذا الأمير أمام عينك شاعــر ضمّت على الشكوى المريرة أضلعه
المسجد الأقصى أجئت تزوره؟ أم جئت من قبل الضياع تودّعه؟
حـرم تبـاع لـكـل أوكـع آبـقٍ ولكلّ أفّاق شريد أربعه
وغدا وما أدناه لا يبقى سوى دمع لنا يهمي وسنّ نقرعه!
وما قاله الشهيد محمود مجازاً، سجّله الشهيد الفلسطيني الآخر الشاعر غسان كنفاني بقوله (السعودية وراء كل خيانة.. وإذا وقعت خيانة في أي مكان فابحثوا عن السعودية)..فقد عاد فيصل ومعه فيلبي من فلسطين وبدأ مسلسل ضياعها، فيما كانت الثورة الفلسطينية تشتعل تباعاً بسواعد أبنائها المقاومين ومعاونة القوى الممانعة في الأمة..
قال مؤسس دولة إسرائيل عزرا وايزمن في مذاكرته أنه في 11/3/ 1942 ـ ابان وداع وايزمن للسيد جون مارتن سكرتير تشرشل، الذي كان السكرتير العام للجنة بيل ـ: (قال تشرشل لي: أريدك أن تعلم أنني وضعت مشروعا لكم وهو لا ينفذ إلاّ بعد نهاية الحرب، انني أريد أن أرى ابن السعود سيّدا على الشرق الأوسط وكبير كبراء هذا الشرق على شرط أن يتفق معكم أولاً، ومتى تم هذا فعليكم أن تأخذوا منه ما تريدون أخذه وليس من شك في أننا سنساعدكم في هذا، وعليك أن تحتفظ بكتمان السر، ولكن انقله إلى روزفلت، وليس هناك شئ يستحيل تحقيقه حين أعمل لتحقيقه أنا وروزفلت وبر الرجل بوعده… بل الرجلان بالوعد وتعاونت بريطانيا وابن السعود وأمريكا على دعمنا بأشياء أعلنت وأشياء أهمها لم يعلن).
في العام 1946 جاء عدد من قادة الثورة الفلسطينية إلى الجزيرة العربية والتقوا بالملك عبد العزيز وطلبوا منه توزيع (منشورات) على (الشعب السعودي) لإطلاعه على مصير القضية الفلسطينية، فغضب عبد العزيز لأنهم استعملوا عبارتي (منشورات) و(الشعب السعودي)، في إشارة إلى إنكاره رواج (المنشورات) في مملكته، وتغيير صفه المحكومين من (رعيّة) إلى (شعب). ثم قال لهم (الرعيّة السعودية فاهمة مصير فلسطين بدون منشورات)، ثم طلب من مستشاره يوسف يس، رئيس تحرير جريدة (أم القرى) الرسمية بإحراق المنشورات. وأقفل الوفد عائداً إلى فلسطين، ليعود ثانية في العام التالي للقاء الملك عبد العزيز، في محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من فلسطين، ولكن دون جدوى، فبعد مناشدته بنجدة فلسطين، ردّ قائلاً (مالها فلسطين؟)، والتمسوا منه قطع البترول عن الولايات المتحدة للضغط من أجل وقف الدعم عن اليهود، فرد عليهم عبد العزيز بطريقة ساخرة (وما علاقة الزيت بفلسطين؟). وانتهى اللقاء بوعد جديد من عبد العزيز بتداول الأمر مع الأميركيين. ولكن سبق السيف العذل، فقد صدر قرار تقسيم فلسطين عام 1948، فيما كان رؤوساء الوفد العربية في هيئة الأمم المتحدة يلحّون على الملك عبد العزيز إطلاق تهديد، لفظي، بقطع البترول إذا صوّتت أمريكا على قرار التقسيم واعترفت بالكيان الإسرائيلي. ولكن ما فعله عبد العزيز كان عكس المرجو منه، فقد أكّد على أن المصالح الأميركية في السعودية محمية، (وأن الأميركيين هم من ″أهل الذمة″، وأن حمايتة وحماية مصالحهم واجبة بنص القرآن الكريم). وكانت نتيجة ذلك، أن تم تقسيم فلسطين، وإقامة دولة إسرائيل التي حظيت باعتراف فوري من الولايات المتحدة.
الملك فيصل وبداية ضياع القدس
سافر فيصل الى انجلترا سنة 1919 وكان عمره 13 عاماً، أي بعد عامين من إطلاق وزير الخارجية البريطاني بلفور وعده بتحويل فلسطين إلى وطني قومي لليهود. ثم شارك في مؤتمر المائدة المستديرة في لندن المنعقد في الفترة ما بين 7 فبراير ـ 17 مارس من سنة 1939 بوصفه وزيراً للخارجية، حيث تمت دعوة العرب لمناقشة القضية الفلسطينية، بعد ثلاثة أعوام على إخماد ثورتها بقرار عربي صاغه الملك عبد العزيز في رسالة إلى قيادة الثورة الفلسطينية.
يحاول بعض الكتّاب إخفاء مجريات اللقاءات السرية والعلنية التي دارت بين الوفد اليهودي وعدد من ممثلي العربية من بينهم الأمير فيصل بن عبد العزيز وفؤاد حمزة. وفيما يتم استبعاد اسم فيصل من المشهد وتكثيف حضور فؤاد حمزة، كونه فلسطيني الأصل، ولكنه يعمل مستشاراً لملك عبد العزيز، فإن الخلاف حول الأسماء لم تغيّر من حقيقة الموقف السعودي المتفق عليه، فقد كان الوفد اليهودي يتلقى المقترحات السعودية عبر أحدهما. وفيما رفض الوفد العربي الجلوس مع الوفد اليهودي على طاولة واحدة، تحدّثت وثائق بريطانية عن لقاءات جمعت الوفدين الإسرائيلي والسعودي في 7 مارس 1939، بين رئيس الوزراء الإسرائيلي لاحقاً دافيد بن غوريون، ووزير الخارجية موشيه شرتوك، وأول رئيس لدولة إسرائيل حاييم وايزمان، مع مندوب الملك عبد العزيز الشيخ فؤاد حمزة بحضور اللورد هاليفاكس. وكان موضوع اللقاء هو الاعتراف بدولة إسرائيل حال قيامها. وقد ذكرت الوثيقة المدموغة بعبارة (سري جداً) والمؤلّفة من ثماني صفحات محفوظة في أرشيف دار السجلات في مكتب الخارجية البريطانية تحت رقم (FO371/23228/E1875/6/31) بأن اللقاء كان من ضمن لقاءات أخرى جرت في مكان انعقاد المؤتمر في قصر سنت جيمس. وفيما اقترحت بريطانيا تأليف دولة تضم العرب واليهود، فإن وايزمان رفض الاقتراح، وأكد وايزمان على الحق اليهودي في فلسطين وقدم دعوة لممثل السعودية ومصر والعراق لزيارة فلسطين والاطلاع على ما يقوم به اليهود لناحية إنشاء وطن قومي لهم على أرض فلسطين، فيما طرح بن غوريون اقتراحا بتأسيس دولة يهودية في كامل فلسطين الغربية. وفيما فشلت الاجتماعات العلنيّة، تم التعويض عنها باجتماعات سريّة بين ممثلين عن الوفود العربية واليهودية تحت رعاية الحكومة البريطانية لناحية تقريب وجهات النظر حول الهجرة اليهودية في السنوات الخمس التالية، وقد أبدى الجانب السعودي موافقة ضمنية على هجرة أعداد من اليهود إلى فلسطين في تلك المدة بحسب وثيقة رقم (FO371/23228/E1913/6/31).
وفيما تجاهل الجانب السعودي وعد بلفور في مؤتمر الطاولة المستديرة، فإن الحكومة البريطانية عقدت اجتماعاً في 9 مارس 1939 مع أعضاء الوفد اليهودي في قصر سنت جيمس بلندن، وتمت مناقشة التعليمات الرسمية المبلغة للقائد هوجارث في يناير 1918 بشأن الرد على احتجاج الشريف حسين على وعد بلفور (أنظر الوثيقة رقم (FO371/23228/E1874/6/31). وتنص التعليمات على أن خيار تقسيم فلسطين هو الحل المناسب وعودة اليهود إلى فلسطين والاعتراف بالوضع السياسي والاقتصادي للعرب في فلسطين.
ورغم محاولات إبعاد رئيس الوفد السعودي الأمير فيصل بن عبد العزيز (الملك لاحقاً) عن مشهد اللقاءات العلنية، فإن رسالة فيصل إلى أمين الريحاني في 3 مارس 1939، أي خلال مشاركته في اجتماعات مؤتمر لندن، تكشف خلاف ذلك بما نصّه (منذ وصولنا إلى هنا لم نسترح مطلقا، فمن اجتماع إلى آخر ومن مقابلة إلى مقابلة ومن حفلة إلى حفلة أخرى..)، فهل كانت هذه الاجتماعات والمقابلات والحفلات المتعاقبة تجري في مكان آخر خارج قصر سنت جيمس؟. أما ما يقال عن تعليمات الملك عبد العزيز لابنه بخيارات الاستقلال ومنع الهجرة اليهودية واستقلال فلسطين، أو ما قاله فيصل للريحاني بأنه وباقي ممثلي الوفود العربية نجحت في إقرار أسس للتفاوض من بينها: تحديد الهجرة اليهودية، والإقرار باستقلال فلسطين، وغيرها تكذّبها وثائق المؤتمر نفسه، والتي تحدّثت عن رفض إسرائيلي لمقترح بريطاني ولكل المقترحات العربية.
لقد بدا واضحاً في السنوات اللاحقة بأن السعودية لم تقدّم ما يثبت مدّعيات الدفاع عن فلسطين ولا بيت المقدس، فقد رفضت السعودية مطالب السوريين بقطع البترول عن الولايات المتحدة بعد إعلان قيام دولة الكيان الإسرائيلي في العام 1948.
وقد التقى فيصل في العام 1966 مع رئيس إسرائيل (زلمان شازار (1936 ـ 1973) بحجة هبوط الطائرة (السعودية) اضطراراً في مطار (لشبونة) عاصمة البرتغال حيث جرى لقاء سري بينهما، لم تكشف تفاصيله. وفي العام التالي 1967 قام الملك فيصل بزيارة إلى لندن، فيما كانت القوات الإسرائيلية تستعد لتنفيذ مخطط الهجوم على مصر وسوريا، وبعد عودته إلى المملكة كان سلاح الجو الإسرائيلي قد بدأ قصف المطارات السورية والمصرية، فيما كانت فرق من الجيش الإسرائيلي تتقدم لاحتلال الضفة الغربية وسيناء والجولان. في ذلك الوقت بالتحديد كانت أجواء أخرى تسود المملكة، حيث تمت مشاغلة الناس باحتفال جماهيري أقيم في ملعب السباق في الرياض في 7 يونيو 1967 بمناسبة عودته من بريطانيا، فيما ظهرت شعارات تردد الموت لأميركا وللمعتدين، والمطالبة بقطع البترول. ويذكر الملك حسين في كتاب (حربنا مع إسرائيل، تأليف فيك فانس، بيار لوبر، دار النهار، بيروت، 1968) صفحة 32 عن الملك فيصل: (إن الإمدادات السعودية دخلت الأردن بعد الحرب وحين انتهى كل شيء)، وقال بأن فيصل لم يسارع إلى وقف الزحف الإسرائيلي في العام 1967، وحمّله مسؤولية إبادة المقاومة الفلسطينية عام 1970 حين كانت تشتبك مع الإسرائيليين في أغوار الأردن. وما جرى لاحقاً يكشف عن أمر خطير، حين مارست السعودية تحت قيادة الملك فيصل ضغوطاً هائلة على الملك حسين لوضع يده على المقاومة الفلسطينية، ومن هناك بدأت السعودية تروّج لفكرة الاعتراف بدولة إسرائيل على حدود 1967. وهذا ما كشفته وثيقة نشرت في مجلة الهدف (اللبنانية) في 15 نوفمبر 1975 عن لقاء جمع وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر وفريق من الصحافيين ورجالا اعلامال الأميركيين بدعوة من صحيفة (ذي التايم) اللندنية، وقال فيه بأن (الملك فيصل يقول لي الآتي بوضوح: انّه على استعداد للقبول بحدود إسرائيل سنة 1967) ثم يعلّق كيسنجر قائلاً: (عندما نأخذ بعين الاعتبار أنهم لم يجرأوا قبل ذلك على الموافقة بقبول وجود إسرائيل… نراهم يصرحون بذلك وعلى تم استعداد للاعتراف بإسرائيل في حدودها الحالية حدود 1967).
العلاقات مع تل أبيب في عهد الملك خالد
بعد اعتلاء الملك خالد بن عبد العزيز العرش في 16 يونيو 1975، عقب مقتل أخيه الملك فيصل على يد الأمير فيصل بن مساعد، تنامى الاعتقاد بأن السعودية تتجه نحو استعلان علاقاتها بالكيان الإسرائيلي، في سياق مؤشرات متواصلة تؤكّد أن الرياض لم تعد في وارد خوض أي حرب مقبلة مع هذا الكيان، بل بدأت تحركاتها نحو مزاولة نفوذها بعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر. وقد صرّح الملك خالد إلى صحيفة (واشنطن بوست) بأن السعودية على استعداد تام للاعتراف بإسرائيل، ولكن على إسرائيل أن تحل مشاكلها مع جيرانها وتدبّر أمرها مع الفلسطينيين). وقد تسبّب التصريح بردود فعل غاضبة في الشارع العربي والفلسطيني، وعبّرت صحف لبنانية مستقلة عن استيائها من الموقف السعودي غير المسبوق على المستوى العربي، ووصف قادة فلسطينيون التصريح بأنه تجاوز للحد، فيما اعتبره آخرون نهاية منطقية لسياسة سعودية ثابتة.
وقد عقدّت قمة عربية في بغداد في 2 نوفمبر 1978 وشارك في المؤتمر عشر دول إضافة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وكان من أهم قراراتها:
- عدم موافقة المؤتمر على اتفاقيتي كامب ديفيد.
- توحيد الجهود العربية من أجل معالجة الخلل الاستراتيجي العربي.
- دعوة مصر إلى العودة عن اتفاقيتي كامب ديفيد.
- حظر عقد صلح منفرد
- دعم الجبهة الشمالية والشرقية ومنظمة التحرير الفلسطينية مادياً.
- نقل مقر الجامعة العربية وتعليق عضوية مصر.
- تطبيق قوانين المقاطعة على الشركات والأفراد المتعاملين في مصر مع إسرائيل، والتمييز بين الحكومة والشعب في مصر.
- إلغاء القرارات التي اتخذها مجلس الجامعة العربية بمقاطعة اليمن.
وكان للسعودية موقف مختلف تماماً، حيث قررت عم الالتزام بمقررات المؤتمر فلم تقم بدعم منظمة التحرير ولا سوريا. على العكس تماماً، بدأت السعودية بالتحرّك لصوغ مبادرة مضادة، جرى تقديمها أول مرة من قبل ولي العهد السعودي حينذاك فهد بن عبد العزيز (الملك لاحقاً) في قمة فاس في 25 نوفمبر 1981 ، شاركت فيها جميع الدول العربية باستثناء مصر، وقررت سوريا الانسحاب من المؤتمر بعد أن تعرّفت على بنود المبادرة التي تنطوي على اعتراف ضمني بالكيان الإسرائيلي، الأمر الذي أدى إلى فشل الاجتماع بعد خمس ساعات من انعقاده. فقد انطلقت المبادرة السعودية من منطلق اتفاقيات كامب ديفيد والتي ظهرت في قمة فاس في 6 سبتمبر 1982 والتي جاء فيها- إقرار مشروع السلام العربي مع إسرائيل، وأهم ما تضمنه: إنسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967، وإزالة المستعمرات الإسرائيلية في الأراضي التي احتلت بعد عام 1967 وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وتأكيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وتعويض من لا يرغب بالعودة. وهي نفس المبادرة التي أعلن عنها ولي العهد عبد الله بن عبد العزيز (الملك الحالي) في فبراير 2002 في مقابلة مع توماس فرايدمان الصحافي في (نيويورك تايمز).
الملك فهد: لهاث وراء الاعتراف بإسرائيل
بمقتل الملك فيصل، والذي يشير الى يد لفهد في اغتياله، تصاعد حجم الاتصالات مع إسرائيل، ويعتبر عهد فهد عهد الطفرة في العلاقات معها، ذلك أن الحواجز الدينية والأخلاقية والسياسية قد رفعها فهد عن نفسه، ويمكن ملاحظة تلك السمة في معظم سياساته التي اتخذها طيلة حكمه. وقد أثبت عهد فهد، أن الدولتين: السعودية وإسرائيل تعتمدان في بقائهما على بعضهما البعض، لا من جهة ارتباطهما بالولايات المتحدة الأميركية فحسب، بل لأن ال سعود نظروا الى المخاطر التي تهدد إسرائيل هي ذاتها التي تهدد حكمهم. في البداية كانت القومية العربية وعلى رأسها مصر، ثم ما سمي بالدول الراديكالية: سوريا والعراق والى حد ما الجزائر، ثم إيران وسوريا وحزب الله وحماس. وبالتالي فإن ضرب هذه القوى وإضعافها يصب بصورة مباشرة في خدمة إسرائيل، والعكس صحيح أيضاً.
منذ إعلانه عن مبادرته للسلام في قمة فاس 1982 بدا واضحاً أن الملك فهد، الذي كان يمارس السلطة المطلقة في عهد أخيه الملك خالد، سعى إلى الوصول بالقضية الفلسطينية إلى حتفها، عبر كامب ديفيد عربي تقوده السعودية.
ومن المصادفات المثيرة للدهشة، أن يتزامن إعلان المبادرة مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وكأن الإسرائيليين باتوا مطمئنين إلى خياراتهم السياسية والعسكرية في المنطقة، بعد أن تم تحييد مصر والسعودية. ويمكن القول، بأن الكيان الإسرائيلي شعر بقدر كبير من الارتياح منذ عهد الملك فهد، الذي كان على استعداد للسير حتى نقطة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي.
في مذكرة سريّة إلى الرئيس الأميركي بيل كلينتون في بداية عهده والجهات المعنيّة في الإدارة الأميركية، من قبل لجنة تابعة لوزارة الخارجية ولجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي جاء في مقدمة المذكرة: تعتبر السعودية حجر أساس هام لسياستنا القومية والدولية. ونعتقد دائماً بأن سياسة حماية إسرائيل وإبقائها قوية يمكنها أن تتعزز من خلال بقاء النظام السعودي، الذي برز مؤخراً في المشهد العربي باعتبارها قوة فاعلة. وكان مشروع فهد للتسوية مع إسرائيل نقطة البداية التي ننطلق منها لكسر جبهة الرفض العربية وتحقيق التسوية، والتي تقترب الآن من نهايتها.
بدون النظام السعودي، والسياسة المصرية التي تبنّاها الرئيس مبارك في اتخاذ خطوة عملية، لم يكن بالإمكان تدمير العراق وإزالته من معادلة المنطقة) وورد في الصفحة الرابعة من المذكرة تحت عنوان (النظام ـ السعودي ـ على المستوى العربي): بعد نشوء إسرائيل وبروز تيارات فكرية راديكالية وقومية في المنطقة، بدا النظام السعودي هاماً بدرجة كبيرة في كبح طموحات هذه القوى، لأنها كانت تهدد أمنها ومستقبل إسرائيل). وتضيف المذكرة (وجرياً على عادة عدم إدراك أبناء آل سعود، فقد فهم فهد من حديث مع الرئيس جورج بوش، بأن إقامة علاقات علنية وقوية مع إسرائيل سيضمن الأمن في المنطقة. وفسّر فهد الأمن في المنطقة بمعنى أمنه الشخصي.
ولهذا السبب ذهب بعيداً في إقامة علاقات اجتماعية مع إسرائيل على المستويين السياسي والعسكري. وبالرغم من مشاركة السعودية في تمويل الدعم العسكري لإسرائيل خلال حرب العراق، في سبيل إبقائها خارج مجال الفعل لتفادي النزاع مع الشعب العربي والإحباط من أهداف قوى التحالف، بناء على اتفاقنا مع الملك شخصياً، فإنه ينظر لا يزال ينظر إلى ذلك الآن كونه مبدأ أساسياً أو حكماً بالهيمنة على دورة المفاوضات العربية الإسرائيلية).
وتعلّق اللجنتان على موقف الملك بالقول (لسوء الحظ، فإن هناك قوى في إسرائيل قد تفيد من هذا لمصالحها الخاصةـ وهي حقيقة قد تهدد عملية السلام برمتها وكذلك أمن السعودية، وخصوصاً في حال تسرّبت وثائق محددة تتعلق بذلك. ومن المحتمل غالباَ أن يتم ذلك على يد الإسرائيليين في حال لم يستجب النظام إلى بعض المطالب الإسرائيلية. فالنظام السعودي يزوّد إسرائيل بخطط مالية وتنسيقية ضمن إطار المشاريع المشتركة، في كل من داخل وخارج السوق الشرق أوسطية).
تضيف المذكرة (إن التحركات الإسرائيلية ـ السعودية غير المحسوبة تسبب لنا مشاكل عدّة ولن تنتج علاقات أمنية صحيّة خصوصاً بين فهد واسرائيل خارج سياق سياستنا. وقد أفصحنا عن ذلك بوضوح لكلا الطرفين. ولكن فهد يحاول أن يوجد عذراً، بمعنى أنه يريد هذه العلاقة كاستمرارية للعمل المشترك في اليمن في الستينيات في ضوء الأحداث المتشارعة بين الحكومتين في اليمن).
وفي جانب خطير من العلاقات السعودية ـ الإسرائيلية، تضيء المذكرة على ما جرى بعد حرب الخليج الثانية بما نصه(تمكّنا من وقف العمل المشترك السعودي ـ الإسرائيلي باختراق الجيش السوري، وذلك أن أي خطأ في هذه العملية المريبة ستقضي على كل جهود التسوية السلمية وقد تفضي إلى نزاع شديد بين العرب، الذي قد يكون راديكالياً في الشكل الذي يأخذه).
من الصعب نفي الحجم الهائل والمستمر من الأخبار والتصريحات على مدار عقود طويلة، والتي تؤكد أن هناك تواصلاً بين السعودية وإسرائيل سياسياً واستخباراتياً واقتصادياً، إلى حد خشيت الولايات المتحدة من انكشافه للرأي العام العربي.
يلاحظ مما قيل أعلاه بأن العلاقات السعودية الإسرائيلية قديمة، وأن التنسيق بينهما موجود منذ الستينيات الميلادية، أي منذ حرب اليمن (حسب الوثيقة) على الأقل. ففي تلك الفترة رأت السعودية وإسرائيل مصلحة مشتركة بينهما في إشغال عبد الناصر وإضعافه، وحين سقط في حرب الـ1967م، لم يكن أحدٌ فرحاً بتلك الهزيمة كفرح الأمراء السعوديين، فقد تخلّصوا أخيراً من عنصر التهديد الأول لحكمهم.
تجدر الإشارة إلى أنه لم تكن (حرب اليمن) 1962-1970، بداية العلاقة بين آل سعود والكيان الإسرائيلي، ولكن يمكن اعتبارها (بداية الانطلاقة)، فلأول مرة يلتقي مسؤولو البلدين اتصالاً رسمياً عبر جوليان إيمري، عضو مجلس العموم البريطاني من المحافظين الحاقدين على مصر، وعبر الوزير دنكان سانديز. إيمري ذكر في كتابه: (الصراع على اليمن) بأنه أخبر الملك فيصل بأن نجاح عبد الناصر في اليمن يمثل خطراً على الاحتياطات النفطية وينذر بالشر، ولذا على جميع الأطراف مقاومته، وقال بأنه هو الذي اقترح على فيصل جعل اليمن مصيدة لعبد الناصر كيما تستنزفه في حرب أهلية، وهذا يتطلب تشكيل إطار سياسي لمواجهة الناصرية، من خلال إعطاء دور لإسرائيل وتخفيف العداء السعودي الهاشمي، وهو ما تمّ فعلاً.
ويقر ايمري في كتابه بأن عدنان خاشقجي ـ الذي أصبح مقرّباً من فهد ـ بأنه كان قبل ذلك التاريخ على علاقة مع الإسرائيليين قبل أن تتوضح تماماً في السبعينيات والثمانينيات الميلادية، وأنه هو الذي وفر ميزانية لشراء أسلحة واستقدام مرتزقة إسرائيليين وبريطانيين وفرنسيين وبلجيكيين وجنوب إفريقيين تم إرسالهم لليمن لدعم وتسليح القبائل اليمنية الموالية للسعودية والملكيين والمناهضة لعبد الناصر. ولكي يتم التواصل بشكل مستمر، افتتح مكتب ارتباط سعودي ـ إسرائيلي في بيروت تحت غطاء تجاري.
علاقات سابقة مع الكيان الإسرائيلي
الخبير العسكري الإسرائيلي هيرش غودفان، كتب للجيروزاليم بوست (12/10/1980) أن تفاهماً غير مكتوب أبرم بين إسرائيل والسعودية في الفترة الواقعة بين النكسة وحرب أكتوبر 1967-1973، يتيح لإسرائيل التدخل مباشرة وبالنيابة عن أميركا والسعودية لصالح الأخيرة في حال قررت مصر التحرّش بالسعودية المتخمة بالمال والمؤيدة من قبل الغرب.
ويتحدث السعوديون عن علاقات سابقة مع إسرائيل ومع الزعماء اليهود حتى قبل قيام الدولة اليهودية على أرض فلسطين، تشير إلى ذلك بعض الوثائق البريطانية التي نشرها د. تيسير كاملة في كتابه: (وثائق فلسطين، الصراع السعودي الهاشمي). كان الصراع المرير بين الهاشميين الذين طردوا من الحجاز وبين آل سعود قد سبب تنافساً في من له الزعامة على الشام، وكان الملك عبد العزيز يعدّ ابنه فيصل (ملكاً) على سوريا بدل الملك الهاشمي المطرود فيصل بن حسين الذي أعطي عرش العراق فيما بعد. الملك عبد الله، ملك الأردن حينها، كان على علاقة وثيقة باليهود وبالإنجليز على حد سواء. وكذلك فعل مثله الملك عبد العزيز آل سعود، الذي أرسل أبناءه بين الفينة والأخرى ـ في منافسة مع الملك عبدالله ـ لتوثيق عرى العلاقة مع الإنجليز في فلسطين وقادتهم الصهاينة.
وحين بدأت ثورة فلسطين الكبرى (1936-1939) كان الفضل الأكبر لإخمادها للملك عبد العزيز، وهناك عدد كبير من الوثائق توضح الدور السعودي المتآمر نشر بعضها خير الدين الزركلي في كتابه (شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز) كما تجد وثائق أخرى في كتاب د. كاملة، وأيضاً في كتب فلسطينية أخرى اعتنت بالوثائق البريطانية.
قبل تلك الفترة بسنوات، عرض مستشار ابن سعود، الإنجليزي العميل جون فيلبي على عبد العزيز التنازل عن فلسطين إغاظة للهاشميين من جهة، ومن أجل تحصيل بعض المال الذي يعاني من شحته، وأبلغه بعرض قدّمه حاييم وايزمان من أنه مستعد لدفع عشرين مليون دولار، على أن يتحمّل الملك السعودي بعض اللاجئين الفلسطينيين، وكاد الملك أن يوافق لولا أن أحد مستشاريه (يقال أنه كان الدرزي فؤاد حمزة) حذّره من أن ذلك سيؤدي إلى اهتزاز سلطته بين شعبه وقد تضيع بعض أملاكه الشمالية المحاذية للأردن بسبب قراره، فتراجع.
ودلّت الوثائق اللاحقة للانتفاضة الفلسطينية الكبرى، أن ابن سعود ينسق مع البريطانيين لإخماد أي توجه مقاوم للإنجليز، متجاهلاً حقيقة التهويد والاستيطان قبل أن تقوم إسرائيل، وكان الملك السعودي كما هو معروف يمنع الحجاج الفلسطينيين من تبليغ العالم الإسلامي بقضيتهم في موسم الحج، وكثيراً ما صادر مخبروه المنشورات والكتب التي يوزعها الحجاج وثم يكون مصيرها النار! ثم إن عبد العزيز كان شديد الكرة للحاج أمين الحسيني، واستطاع فيما بعد أن يستقطب بعض رموز القيادة الفلسطينية لدعم شرعيته ومثله فعل الملك سعود، فجاء لخدمته ـ مثلاً ـ جمال الحسيني، وأحمد الشقيري أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية.
إن وجود السعودية بسياساتها المعروفة يدعم إسرائيل. ليست هذه رؤية نرجسية، بل هي حقيقة تقرها الولايات المتحدة وخبراؤها الإستراتيجيون؛ وكثيراً ما تردد قول معاكس: إن وجود إسرائيل يخدم السعودية، باعتبار أن إسرائيل تعمل ضد القوى الراديكالية.
المسألة واضحة إذن، بأن هناك عنصر مصالح مشترك، يلحظه الغربي الأميركي، والإسرائيلي الصهيوني، والسعودي بطريقته الخاصة وإن كانت قاصرة. هناك دور وظيفي للنظام السعودي يشابه الدور الوظيفي الذي يؤديه الكيان الصهيوني، وعنصر (البقاء) يعتبر محرّكاً لدى الطرفين: بقاء الدولة الصهيونية، وبقاء آل سعود على رأس الدولة التي أقاموها بالتعاون مع البريطانيين بادئ الأمر.
سنرى أنه في عهد فهد تتكرر الاتصالات وتتصاعد مع إسرائيل بشكل لافت غير معهود، وسنرى أن فهد نفسه قد تأكد لديه أهمية (المصير المشترك) وهو شعور ينتاب النخبة النجدية العلمانية اليوم، فلكي تبقى الدولة السعودية لا بدّ من التفاهم مع إسرائيل مباشرة، ولا بدّ من التعاطي مع اللوبي الصهيوني الأميركي، ولا بدّ أيضاً تحمّل (الابتزاز) الإسرائيلي الذي يظهر بين الفينة والأخرى.
فيما يلي (بعض) محطات العلاقة وتفاصيلها حسبما جادت به الصحف المختلفة:
ـ في 8 يونيو 1978 قالت صحيفة لوماتان الفرنسية أن وزير الدفاع الإسرائيلي حينها، عزرا وايزمن، التقى سراً بولي العهد السعودي (الملك فهد فيما بعد) أثناء زيارة الأخير لأسبانيا قام بها.
ـ مجلة التايم الأميركية نشرت في (14/8/1978م) تحت عنوان (موعد إسرائيلي في المغرب) نشرت خبراً يفيد بأن الملك الحسن الثاني المعروف بعلاقاته الوثيقة بإسرائيل، رتّب لقاءً بين الأمير فهد (ولي العهد) بإسحاق رابين. ولم توضح المجلة تفاصيل اللقاء أو الموضوعات التي نوقشت.
ـ أجرت صحيفة الجيروزاليم بوست في 23/6/1994 لقاءً بضابط مخابرات اسرائيلي (رافي سينون) حول كتابه (الفرص الكبرى المبدّدة) والذي أشار فيه إلى لقاءات اسرائيلية مع مسؤولين عرب. في ذلك اللقاء أكد ما نشره في كتابه بأن فهد حين كان ولياً للعهد أجرى اتصالات سرية مع إسرائيل للتوصل إلى تفاهم بين البلدين، وأنه أرسل مبعوثاً من قبله للقاء موشي ديان، وزير الخارجية الإسرائيلي. الصحيفة قالت أن المبعوث هو الصحافي الفلسطيني (ناصر الدين النشاشيبي) الذي قال في مقابلة مع الصحيفة نفسها أنه التقى بالكولونيل (سينون) في عام 1976م، ثم قابل ولي العهد فهد الذي سلّمه رسالة شفهية منه إلى دايان، وأضاف النشاشيبي بأن الإسرائيليين احتفوا به في القدس، وأنه التقى بعد ذلك التاريخ بستة أعوام أي في حدود 1982م، وهو عام احتلال بيروت، وعام تولي فهد كرسي الحكم كملك، التقى بشيمون بيريز في نيويورك، وانه استلم من الأخير رسالة إلى الملك فهد نقلها إليه ولم يعرف محتوياتها.
ـ ألكساندر بلاي، الباحث المعروف، كتب مقالاً في مجلة جيروزاليم كوارترلي الفصلية، تحدث فيه عن عمليات بيع النفط السعودي لإسرائيل، وذكر أن ناقلات النفط تغادر الموانئ السعودية، وما إن تصل إلى عرض البحر حتى تزيف أوراقها وتحول حمولتها إلى الموانئ الإسرائيلية.
ـ في عام 1976، حمل وزير الخارجية التونسي محمد المصمودي رسالة سعودية إلى إسرائيل. وقالت مجلة (هغولام هزة) الإسرائيلية في 26/10/1980م، أن الرسالة السعودية تتضمن تعويضاً مالياً سعودياً بمليارات الدولارات لإسرائيل مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967م وقيام دولة فلسطينية، على أن تعترف جميع الدول العربية بالدولة العبرية في المقابل وتطبّع العلاقة معها.
ـ في عام 1980م، تخلّت إسرائيل عن معارضتها بيع أميركا للسعودية طائرات الأواكس، شريطة الحصول على كامل المعلومات التي توفرها تلك الطائرات، وفي العام التالي هاجمت إسرائيل المفاعل النووي العراقي مارة بالأجواء السعودية والأردن.
ـ منذ بداية الثمانينيات تزايدت الخروقات الإسرائيلية للأجواء السعودية، التي أخذت بالتحليق فوق قاعدة تبوك والمدن الشمالية، وكانت تلقي بخزاناتها الإضافية الفارغة تحدياً. ولم تقم السعودية طيلة التاريخ حتى اليوم إلا بالاعتراض مرة واحدة لدى الأمم المتحدة! كان ذلك عام 2005.
ـ عام 1982م، تبنّت القمة العربية في فاس، مشروع الملك فهد للسلام، الذي يعترف لأول مرة بإسرائيل، وقد سبق الإعلان ضغوط سعودية على سوريا والفلسطينيين، ومحاولات تسويقه في اتصالات عديدة بين مسؤولين سعوديين وإسرائيليين. عدنان خاشقجي قدّم نسخة من المشروع قبل إقراره لضابط المخابرات يعقوب نمرودي الذي يقيم معه إضافة إلى آل شويمر علاقات ذات صلة بتجارة السلاح، ونشاطات استخبارية.
ـ في عام 1986، دبّر بندر صفقة مع الصين للحصول على صواريخ بعيدة المدى، سميت حينها (رياح الشرق). كانت الصفقة موجهة لإيران، حيث لا تزال الحرب قائمة مع العراق، وقد سارع بندر ـ حسب نوسمي مايلو ـ كاتب سيرة بندر، إلى طمأنة الإسرائيليين بأن الصفقة ليست موجهة ضد إسرائيل، وتلقى وعداً من الإسرائيليين بأنهم لن يهاجموا تبوك.
ـ كشف النقاب مراراً على أن عدنان خاشقجي، رجل الأعمال السعودي، ورفيق فهد في دربه، ومستثمر أمواله، كان أحد أهم القنوات مع الإسرائيليين، إضافة إلى الأمير تركي الفيصل الذي كان يتولى رئاسة الاستخبارات العامة. وبالنسبة للخاشقجي الذي تضعضعت مكانته في الثمانينيات بسبب مشاكل قانونية في أوروبا أدت الى حجز أمواله، فإنه كان على صداقة مع العديد من القيادات الإسرائيلية مثل شيمون بيريز، وكان كثير التردد على إسرائيل بطائرته الخاصة. ومشهور عن الخاشقجي أنه هو الذي حمل عرض تقديم مليارات من الدولارات للإسرائيليين مقابل رفع العلم السعودي على الأماكن الفلسطينية المقدسة، منافسة من السعوديين للنفوذ الهاشمي قبل فك الارتباط بين الضفة والأردن. وكان شارون قد اعترف بهذا الأمر في لقاء مع الإذاعة الإسرائيلية في 20/2/1898م.
ـ في عام 1986م، رتّب وزير الداخلية المغربي لقاءً في المغرب بين شخصيتين إسرائيليتين مقرّبتين من شيمون بيريز، مع مبعوثين (2) سعوديين. قيل أن الإسرائيليين سلموا السعوديين معلومات عن مخطط اغتيال أمراء من العائلة المالكة.
ـ في 18/11/1991، التقى السفير السعودي في واشنطن بندر بن عبد العزيز مع زعماء الجالية الصهيونية في أميركا، في لقاء علني مكشوف تحدثت عنه معظم وسائل الإعلام الغربية والإسرائيلية وعدد من وسائل الإعلام العربية، وذلك في منزل المليونير اليهودي تسفي شلوم في نيويورك. في ذلك اللقاء، تحدث بندر ـ وبدون تفويض الدول العربية المعنية ـ من أن تلك الدول ستلغي المقاطعة الاقتصادية وتوقف الانتفاضة الفلسطينية إذا جمدت إسرائيل الاستيطان! وقال بندر بأنه يتحدث باعتباره ممثلاً للملك فهد، وأن السعودية (لا تعتبر نفسها طرفاً في النزاع الشرق الأوسطي) وأن دورها بمثابة (قابلة تعمل على توليد المسيرة السلمية) وينحصر في إقناع الأطراف مختلفة بالسلام (سمسار)!، وتمويل مشاريع اقتصادية بين إسرائيل والعرب. رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، هنري سيغمان، الذي كان حاضراً لقاء بندر، قال بأنه هو (أي سيغمان) الذي اقترح على بندر عقد اللقاء، وأكد عقد اجتماعات كثيرة سابقة مع زعماء يهود خاصة خلال حرب الخليج الثانية (تحرير الكويت). وقالت شخصيات حضرت اللقاء لصحيفة معاريف في 19/11/1991، أن بندر قال بأن بلاده لا تعترض على سياسة إسرائيل لمواجهة العنف الفلسطيني، وأن بلاده تضغط على منظمة التحرير لتعترف بإسرائيل.
بندر وتركي: لقاءات سرية مع العدو
ـ ذكرت الصحافة الإسرائيلية، وبينها صحيفة (حداشوت) في 20/5/1991م، أن الأمير السعودي تركي بن عبد العزيز، شقيق الملك فهد، والذي اختار القاهرة كمنفى اختياري له، أرسل برقية لحجز جناح له في فندق بالقدس، ولكن الأمير تراجع عن الزيارة بعد تسرب خبرها.
ـ أشرف بندر في أكتوبر 1992م على ترتيب زيارة قامت بها شخصيات يهودية أميركية وإسرائيلية إلى الرياض، حملت تلك الشخصيات جميعاً جوازات سفر غربية، وكان على رأس الوفد ديفيد كيمحي، الذي اشتهر بأن له علاقات واسعة مع الأمير بندر، وأصبح فيما بعد أحد كبار وزارة الخارجية الإسرائيلية.
ـ في 8/2/1993، التقى رئيس اتحاد غرف التجارة الإسرائيلية داني جيرلمان مع وزير المالية السعودي محمد أبا الخيل في سويسرا، وذلك لمناقشة مستقبل العلاقات الإقتصادية المستقبلية بين البلدين.
ـ في أواخر ديسمبر 1993، عقد رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك إسحق رابين اجتماعاً مع سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي، ورجح أن الاجتماع الذي دام نحو ثلاث ساعات قد تمّ في العاصمة الفرنسية، تلاه بأيام اجتماع آخر بين خمسة ضباط أمن سعوديين يتبعون الاستخبارات التي يرأسها الأمير تركي الفيصل، آنذاك، وبين نظراء لهم من الإسرائيليين، وقد عقد الاجتماع في العاصمة اليونانية.
عناق استراتيجي: مواجهة المقاومة
إذا كان مؤتمر مدريد 1991 يعدّ محطّة فاصلة في العلاقات السعودية الإسرائيلية، كونها وفّرت الغطاء الشرعي للاتصالات شبه العلنية بين البلدين، فإن حرب تموز 2006 أعطت زخماً أعظم للتواصل والتنسيق الإسرائيلي السعودي ضد المحور السوري ـ الإيراني إضافة الى حزب الله وحماس. أي أن العلاقات السعودية الإسرائيلية صار لها هدفاً إقليمياً واضحاً، مدعوماً بغطاء أميركي غربي، ويشارك فيه مصر والأردن والسلطة الفلسطينية. ما يميز المرحلة هذه، هو إعادة رسم خارطة الأعداء والحلفاء، فقد أسقطت عداوة إسرائيل، وهذا ما قاله الملك السعودي عبد الله في اجتماعه مع حماس قبيل توقيع اتفاق مكة 2007، والذي أشار فيه بدون لبس بأن: (عدوكم إيران)!
لم يعد الموضوع اليوم قضية فلسطين، بل قضية إيران، والغطاء: صراع سنّي شيعي، تخوضه السعودية نيابة عن العرب والمسلمين. أما الصراع الإسرائيلي العربي فمؤجل، لأن أهميته تضاءلت كثيراً، وحبّذا لو حلّ بأي طريقة للتفرغ للعدو الأكبر!
يعبر عن هذه الانطلاقة الجديدة في العلاقات، بل (العناق الإستراتيجي) الكاتب الصحافي سيمون هيرش في مقالته (إعادة التوجيه) في مجلة نيويوركر (5/3/2007) بقوله:
(إن التحول في السياسة دفع السعودية وإسرائيل إلى ما يشبه العناق الإستراتيجي الجديد، لا سيما أن كلا البلدين ينظر إلى إيران على أنها تهديد وجودي، وقد دخل الطرفان في محادثات مباشرة حيث يعتقد السعوديين أن استقراراً أوسع في إسرائيل وفلسطين سيعطي لإيران نفوذاً أقل في المنطقة، ومن ثم أصبح السعوديون أكثر تدخلاً في المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية. وخلال العام الماضي 2006، توصّل السعوديون والإسرائيليون وإدارة بوش إلى سلسلة من الاتفاقات ـ غير الرسمية ـ حول توجههم الإستراتيجي الجديد، وقد شمل هذا الأمر عناصر أهمها: طمأنة إسرائيل إلى أن أمنها هو الأمر الأسمى، وأن واشنطن والسعودية والدول الخليجية الأخرى تشاركها قلقها حول إيران. ولقد بدأت الرياض اتصالاتها مع الإسرائيليين والجمعيات اليهودية المؤيدة للدولة الصهيونية في الولايات المتحدة منذ أكثر من عقد، وهو تقارب حظي بمباركة الإدارة الأمريكية على طول الخط، ولكنه لم يكن علنياً بل ظل مقتصراً على القنوات الدبلوماسية المفتوحة بين الجهتين، وكان مهندس هذه القنوات الأمير بندر بن سلطان السفير السعودي الأسبق لدى واشنطن، الذي اعتبرته الصحف الإسرائيلية صلة الوصل بين الدولة الصهيونية وجيرانها).
وإذا كان مؤتمر مدريد انطلاقة متقدمة للقاءات سعودية إسرائيلية، ظهر فيها السفير السعودي في واشنطن الأمير بندر، ونائبه الذي يمثل يده اليمني: عادل الجبير (السفير الحالي في واشنطن)، فإن الرجال لم يتغيروا، فمفاصل الارتباطات مع إسرائيل يديرها بشكل أساس بندر، ثم عادل الجبير، وتركي الفيصل، الذي رغم استقالته كسفير لازال فاعلاً في ذات الاتجاه. لقد كتب الكثير عن دور بندر بشأن اتفاق مدريد، وكيف أنه كان دائم التردد أيام أوسلو على السفير الإسرائيلي في واشنطن هكتيفو نيبار راماتي، وأيضاً كيف أن بندر كان يعمل أمام كل مأزق يعترض المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية على أساس الضغط على الطرف الأضعف الفلسطيني للتنازل.
أما السفير السعودي الحالي في واشنطن، عادل الجبير، فكان اليد الضاربة لبندر، ثم أصبح مستقلاً بعد أن صار سفيراً.. فقبل نحو عام مثلاً، أي في مارس 2007، رتّب ديفيد وولش، رئيس قسم الشرق الأوسط في الخارجية الأميركية لقاءً بين الجبير وإفرايم سنيه، نائب وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، وكان اللقاء قد تمّ قبيل انعقاد قمة الرياض التي أكدت من جديد على (المبادرة العربية للسلام) أي المبادرة السعودية التي سوقها توماس فريدمان الصحافي الأميركي الصهيوني أثناء زيارته للرياض ولقائه بالملك عبد الله (كان ولياً للعهد).
وكان الجبير قد نظّم مرات عديدة زيارات لأعضاء كونغرس يهود للرياض ليقابلوا مسؤولين سعوديين، خاصة بعد هجمات 11/9/2001، شملت إحداها توماس فريدمان، اليهودي الذي شغل مدير مكتب الواشنطن بوست في إسرائيل لعشر سنوات، وهناك أطلعه الملك عبد الله على مبادرته للسلام قبل أن يطلع عليها العرب المعنيين بالقضية ويوافقوا عليها في مؤتمر بيروت 2002.
وينظر الإسرائيليون ـ حسب صحافتهم ـ إلى الجبير بأنه كان منذ التسعينيات الميلادية الماضية على اتصال وتنسيق مع الجماعات الصهيونية في واشنطن بما فيها منظمة أيباك، وأنه أقام علاقات واسعة مع مسؤولين إسرائيليين كيوسي بيلين، الذي شغل منصب وزير العدل.
وبالرغم من تركه منصبه، فإن تركي الفيصل، لازال على علاقة وثيقة مع الإسرائيليين، وكان ظهوره في يناير 2007 في حفل استقبال أقامه ويليام داروف، مدير مكتب واشنطن للتجمعات اليهودية المتحدة، حدثاً غير مسبوق.
أما بندر، فالأهم هو دوره فيما جرى بعد قيام حرب تموز 2006، فما ان انتهت الحرب التي أدان فيها آل سعود حزب الله (المغامر) وشجعوا إسرائيل على مواصلتها، حتى التقى بندر بأيهود أولمرت في العاصمة الأردنية، في سبتمبر 2006، وهو أمرٌ كتبت عنه الصحافة كثيراً، وتحدثنا عنه مطولاً وتفصيلياً في أعداد سابقة من (الحجاز).. ذلك اللقاء اعتبره السفير الإسرائيلي في واشنطن دانيال ايالون، الأعلى مستوى في تاريخ العلاقات السعودية الإسرائيلية ـ حسب علمه.
كان ذلك اللقاء استفتاحاً للقاء جرى في نفس الشهر، وبالتحديد في 18 من سبتمبر 2006، حين استضاف الملك الأردني في قصره بالعقبة، وفداً اسرائيلياً ترأسه رئيس الموساد مائير داغان، ومسؤولين آخرين: يوران تربويتز، وجادي شاماني، وهما مستشاران لدى أولمرت، فيما رافق بندر ثلاثة مساعدين من جهاز الإستخبارات السعودي، أما الملك الأردني فحضر بمعية رئيس المخابرات الأردنية الجنرال محمد الذهبي، والسفير الأردني في تل أبيت علي العايد.
الأهداف والأرباح
اعتاد آل سعود التحالف مع الأقوياء لحماية ملكهم. تلك هي القاعدة. بدأت بهم من بريطانيا وانتهت بهم إلى إسرائيل. لقد تأكدوا بأنه لا يمكن التفريق بين أميركا وإسرائيل، وبالتالي فإنه لا معنى لعداء الأخيرة، اللهم إلا إذا أرادوا منازعة الولايات المتحدة الأميركية حامية عرشهم.
لكن الملك فهد لاحظ أنه بالإمكان الاستفادة من إسرائيل في صراعاته الإقليمية، وليس فقط كفّ شرّها عن السعودية، إن كانت هناك شرور مضمرة، في حال قامت السعودية بدعم الحرب ضد إسرائيل. ومن هنا، رأى ملوك السعودية، أنه لا بدّ من التخلّص من الملف الفلسطيني بأية وسيلة حتى يمكن لإسرائيل أن تستخدم كافة طاقاتها في الصراع الدائر بين (الأخيار) الموالين لأميركا، و (الأشرار) الذين يعادون إسرائيل.
والنفاق السعودي مسألة طبيعية، فهم لا يجرؤون تماماً على فتح علاقات علنية بالكامل مع إسرائيل ويقيموا علاقة دبلوماسية معها مثلما فعلت الأردن ومصر، وموريتانيا. فشرعية آل سعود قائمة داخلياً على الدين، والدين الذي طوّعه آل سعود في قضايا أخرى، لم ينجحوا في تطويعه في هذا الموضوع، رغم فتاوى ابن باز المؤيدة للسلام مع الصهاينة. وفي الحقيقة فإن هناك دولاً أقلّ تقيم علاقات شبه طبيعية ولكن بدون سفارات لذات السبب: الخوف من غضب الجمهور كما هو الحال مع النظام المغربي والتونسي والقطري وغيرهم.
السعودية من الناحية النظرية ليست بحاجة إلى علاقة مع إسرائيل. وبإمكانها أن لا تقيم أية اتصالات، مع محافظة على مستوى العداء الذي لا يصل إلى دعم أعداء إسرائيل: سوريا، حزب الله، حماس، وكل الأطراف التي تقاوم الاحتلال. غير أن آل سعود يطمعون فيما هو أكبر، وهو استخدام إسرائيل في الصراع الإقليمي بعد تطبيع وضعها بين العرب، بل وحتى قبل ذلك، كما توضح في حرب تموز 2006. وهذا النوع من السياسة يعتبر (مغامرة) لو كان الوضع العربي الشعبي معافى، ولو كان هناك قدر من الحريات العامة يعبر من خلالها الشارع العربي عن مكنوناته. لكن الأنظمة الديكتاتورية ترى في دعم إسرائيل بقاءً لها واستمراراً لسيطرتها. إنه الثمن الذي يدفعه الديكتاتوريون في الحكم.
ارسال التعليق