هكذا أسست السعودية التطرف العالمي ثم تبرأت منه
لم تكن 11 سبتمبر/أيلول نقطة تحول بالنسبة لتنظيم القاعدة وحده، ولكن للعالم كله وفي القلب منه السعودية، حيث تسببت الأحداث وتداعياتها في تنامي المشاعر المناهضة للولايات المتحدة بشكل كبير، ونظر الكثير من المسلمين إلى الأحداث بوصفها حلقة في سلسلة تآمرية طويلة تقودها الولايات المتحدة لتبرير توسيع وجودها العسكري في العالم الإسلامي.
يحكي هذا التقرير قصة تساؤل كبير عن دور السعودية في صناعة الحالة الجهادية العالمية، بالتنسيق مع الاستخبارات الأميركية في الثمانينات والتسعينات لمواجهة النفوذ السوفيتي بأفغانستان، كما يعرج على تجارب جهادية تورطت فيها المملكة بالدعم والتمويل في البوسنة والصومال والشيشان وغيرها. ويقرأ التقرير ابتداءً قصة التدين السعودي الوهابي الذي بدأ بصيغة محلية كركيزة لتثبيت حكم آل سعود في المملكة، لينتقل بعدها لصيغة تم تصديرها من جهة لمواجهة المد الإيراني عقب الثورة عام ١٩٧٩، ومن جهة أخرى لتوجيه الطاقات الجهادية خارج حدود المملكة. وتعد الجهادية الحديثة خاصة "تنظيم الدولة والقاعدة" متأثرة لحد كبير بفتاوي "النجديين" والعلماء الوهابيين التقليديين بالسعودية، كما يعرج على تحولات الصحوة الدينية بالتسعينات وأثرها المحلي والإقليمي، ويناقش في النهاية الأسباب التي تدفع المملكة العربية السعودية للتملص من كل هذا الإرث. نص التقريرلا يُعرف بالتحديد ما السبب الذي دفع قوات الأمن السعودية إلى الاشتباه في مركبة من طراز "تويوتا" متوقفة على طريق جانبي في قرية "تربة" الصغيرة بمحافظة حائل شمال غربي المملكة. لم يكن هناك أمر مريب بشكل خاص بشأن تلك السيارة بالذات، ولكن قوات الأمن اشتبهت في سائقها ومرافقه ما دفعهم إلى إيقافها وطلب هوية السائق الذي سرعان ما فر هاربا، سالكا طريقا صحراويا، لتبدأ عملية مطاردة غير معتادة بالنسبة لتلك القوات في تلك المنطقة الهادئة من البلاد.
أثناء المطاردة، قام الهاربان بإلقاء قنبلة يدوية على القوات المطاردة ما أسفر عن مقتل جنديين، ولكن عملية الملاحقة استمرت على أي حال، وفي نهاية المطاف تمكّن الجنود من قتل أحد الرجلين والقبض على الآخر، وكانت المفاجأة حين كشفت التحقيقات عن هوية القتيل: "يوسف صالح العييري"، المطلوب الأول وقتها على القوائم السوداء الرسمية بالمملكة.
كان العييري أحد الآلاف من أبناء الطبقة الوسطى ميسورة الحال الذين اندفعوا للجهاد في أفغانستان بضوء أخضر من السلطات السعودية منتصف الثمانينيات، لكنه سرعان ما احتُجز حين عاد للمملكة، حيث اتهمته السلطات بالتورط في تفجير ثكنات الجنود الأميركيين في "الخبر" عام 1996، قبل أن يرجح لديها لاحقا أن التفجير كان من صناعة جماعة شيعية عُرفت بـ "حزب الله الحجاز". مكث العييري في السجن قرابة ثلاث سنوات قضاها في رحلة تعلم ذاتي للعلوم للشرعية، رحلة عززت مكانته لاحقا في أوساط "الإسلاميين"، كما تعرض خلالها لتعذيب شديد، يبدو أنه لعب دورا في تحويل توجهه فيما بعد بشكل كامل.
قبل أسبوعين فقط من مقتل العييري، كان عرض الألعاب النارية القاتلة في المملكة قد بدأ للتو حين انطلقت (1) سيارات مفخخة مقتحمة مجمع "درة الجداول" المملوك لشركة "إم بي آي" الإنجليزية، ومجمع شركة "فينيل" الأميركية، إضافة إلى مجمع "الحمرا". أسفرت التفجيرات عن سقوط 39 قتيلا إضافة إلى 160 مصابا، وكانت بمنزلة إعلان كُتب بلغة الدم بأن "تنظيم القاعدة" الشهير قرر أن ينقل نشاطه إلى قلب بلاد الحرمين.
لم يكن نقل النشاط المسلح إلى المملكة عملا سهلا خاصة بعد أن سجنت السلطات معظم الناشطين الجهاديين الذين عادوا من أفغانستان على مدار سنوات، ولكن "العييري" نجح في إدراك ما فشلت فيه القاعدة حين حاولت نقل ميدانها إلى المملكة للمرة الأولى عام 1998. وكان اثنا عشر شهرا فقط كافية للرجل لتأسيس شبكة من المقاتلين ومراكز التدريب والمخابئ وخطوط الإمداد وطرق التمويل، شبكة أذاقت المملكة جحيما مستعرا حتى مقتله عام 2003.
وقعت أنباء اندلاع العنف المسلح في قلب المملكة كالصاعقة على رؤوس حكامها، كانت تلك هي المرة الثانية التي تنفجر فيها التدابير الأمنية ذاتها في وجوه أصحابها، حيث لا يزال الملك المريض فهد وقتها يذكر تلك اللحظة العصيبة (2) التي عاشتها بلاده حين كان وليا للعهد، بعدما استولى مسلحون متطرفون، من تلامذة رجال الدين المقربين من العائلة المالكة، على المسجد الحرام بقوة السلاح. كان فهد، "سيد الحداثة المدلل"، نفسه هو من قرر أن الحكم في بلاده بحاجة إلى مزيد من الدين بعد أن تآكلت شرعيته بفعل عملية التحديث البطيئة، مقررا حقن حكمه بجرعات مكثفة من التدين كما رآه.
حينها، قرر فهد أن ينفق أربعة مليارات دولار سنويا على آلاف المساجد والمدارس والخطباء والطلاب والكتب والمراكز الإسلامية حول العالم، من أقصى جنوب أفريقيا لأقصى شمال أوروبا، ومن أقصى الشرق الآسيوي لحافة غرب العالم بأميركا. ومن وجهة نظر فهد، كانت تلك إستراتيجية أثبتت فاعليتها قبلا، فلطالما كانت الشرعية الدينية أمرا لا غنى عنه لتوحيد القبائل المتمردة في جزيرة العرب، وهو درس تعلمه من تجربة (3) والده وأجداده قبل أن تعرف بلاده تدفق النفط، وقبل أن يعرف هو شيئا عن الحداثة، وقت أن كانت بلاده لا تزال تلك الهضبة القاحلة التي تتوسط جزيرة العرب مستمتعة في رضا بعزلتها التقليدية عن العالم، قبل أن ينفجر كل شيء.
رغم مساحتها الشاسعة التي تتجاوز ثلاثة أمثال مساحة فرنسا، وموقعها المتوسط في شبه جزيرة العرب، كانت نجد في أواخر العشرينيات إحدى أكثر بقاع الأرض انعزالا وجدبا على الإطلاق، حيث طوّقتها الصحراء من ثلاثة جوانب، بينما حدّها الحجاز على الجانب الرابع، وهو منطقة أكثر حيوية بقليل بحكم إطلالته على البحر الأحمر. ومع هذا الانتقام الشرس للجغرافيا، استحقّت نجد عن جدارة وصف المستكشفة الإنجليزية ليدي آن بلانت أنها "مرتفعات من الحصى الشاسعة تقطعها مستوطنات عرضية تبدو وكأنها قادمة من عالم آخر".
لم يكن هناك سوى الصحراء، والصحراء فقط، مع القليل جدا من الماء الذي لا يكفي لظهور أي شبح للون أخضر. غير أن ذلك الفقر الشديد قد منح تلك البقعة من العالم الثالث ميزة نادرة وفريدة، حيث ظلت إحدى البقاع القليلة في تلك المنطقة من العالم التي لم تتعرض للاستعمار، ليس بسبب فرط قوتها أو تنظيمها، ولكن لأنها كانت ببساطة فقيرة للغاية لدرجة لا تجعلها تستحق أي جهد.
كانت نجد ببساطة أرضا لم يكن أحد يريدها، كما أنها كانت موطنا لعقيدة لم يكن أحد يريدها أيضا، حيث كانت المدرسة الحنبلية في الفقه الإسلامي، وهي مدرسة دُفعت لفترة طويلة بعيدا عن الحواضر الإسلامية لهامشها، ليتلقفها في القرن الثامن عشر واعظ متجول يُدعى "محمد بن عبد الوهاب".
لم يكن "ابن عبد الوهاب" سياسيا بحال، لكنه كان لاهوتيا خالصا، وتركز جُلّ إسهامه على مفهوم التوحيد وتنقية العقيدة الإسلامية من الشرك بالعودة إلى المصدرين الرئيسين للتلقي: "القرآن والسنة"، موسعا مفهوم الشرك بأنواعه لـ "أي شخص أو عمل يصرف انتباه العقل عن التركيز على الإله الواحد، سواء كان التبرك بشفيع أو قديس، أو التوسل بقبر أو ارتداء تميمة، أو مبالغة في الزخرف".
ومن أجل ضمان استمرار دعوته، سعى "ابن عبد الوهاب" في عام 1744 لتحصيل الحماية من "محمد بن سعود"، وهو زعيم قبلي قوي ذو طموحات واسعة، حيث أنشأ الرجلان تحالفا تاريخيا قام على تبادل بسيط للمنافع. كان ابن عبد الوهاب بحاجة إلى حماية دعوته، وفي المقابل، كان ابن سعود بحاجة إلى غطاء ديني لطموحاته. وبدعم من البدو المتدينين والمتحمسين، نجح ابن سعود أخيرا في تأسيس دولته.
لم تدم "إمارة الدرعية"، أو ما عُرفت لاحقا باسم "الدولة السعودية الأولى"، طويلا، حيث سقطت على يد العثمانيين بعد 70 عاما، لكنها عادت وقامت من جديد على يد "تركي بن عبد الله آل سعود" وتوسعت للرياض، لكن الخلافات الداخلية تسببت في تمزيقها لفترة طويلة، قبل أن تسقط في نهاية المطاف على يد آل رشيد حكام إمارة جبل شمر عام 1891، لتؤول الراية إلى الشاب عبد العزيز آل سعود، من بدا عازما على استعادة أمجاد أسرته مستغلا تهاوي الإمبراطورية العثمانية، وباسطا سيطرته على نجد ثم حائل، عاصمة آل رشيد، قبل أن يسيطر على الحجاز، ويؤسس ما صار يُعرف بـ "الدولة السعودية الثالثة" عام 1932، وهي المملكة العربية السعودية التي نعرفها إلى اليوم.
ورغم الأمواج المتتالية من الصعود والهبوط، ظل تحالف آل سعود مع أبناء عبد الوهاب راسخا عبر القرون، لكن "عبد العزيز بن سعود" تعلم من تجربة أسلافه أن تثبيت حكمه يتطلب ما هو أكثر بكثير من مقاتلين أشداء وغطاء ديني، وأنه لا غنى له أيضا عن الدعم الخارجي، دعم قدّمته بريطانيا في البداية، ثم الولايات المتحدة بعد أن آلت إليها قيادة العالم في نهاية المطاف.
منذ اللحظة الأولى إذن، قامت دولة "ابن سعود" على توازن دقيق بين الشرعية الدينية وبين الدعم الغربي الأجنبي، وهو توازن سيصبح أقل دقة وهشاشة مع نهاية الثلاثينيات واكتشاف النفط وتدفق الأجانب للمملكة، حيث صار على رجال الدين وأتباعهم الذين ضربوا (4) يوما ما خادما للملك بسبب ركوبه دراجة وصفوها بـ "عربات الشيطان"، صار على هؤلاء أن يتعاملوا مع تقانة كانت أشبه بالشعوذة بالنسبة إليهم، من تقانة الثلاثينيات، وصولا إلى تكنولوجيا الستينيات، والسيارات الـ "رولز رويس" والـ "لاند روفر"، وكذا مراكز التسوق، وفي وقت لاحق التلفاز وحتى مذيعات الأخبار من النساء.
في البداية، كانت تلك نقلة كبرى بالنسبة لدولة بدوية عرفت الحداثة توًّا، وبالأخص بالنسبة لرجال الدين. وتمثّل ذلك يوم جمعة في مسجد الرياض الكبير، حين وقف إمام المسجد (5) "الشيخ ابن نمر" ملقيا خطبته على الحضور ومن بينهم "ابن سعود" نفسه، حيث قرأ "ابن نمر" قول الله تعالى: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله أولياء ثم لا تنصرون"، معارضا بسماح "ابن سعود" للأميركيين بالتنقيب عن النفط في البلاد، وهو ما تسبب في استشاطة الأخير غضبا طالبا من "ابن نمر" أن ينزل، وبدأ هو في قراءة آية سورة الكافرون: "لكم دينكم ولي دين".
بعد أشهر قليلة من تلك الواقعة، تم توقيع الاتفاقات الرسمية بين الدولة السعودية وبين شركة "ستاندارد أويل" في كاليفورنيا، أو "سوكال" الأميركية للتنقيب عن النفط في البلاد بمباركة من رجال الدين أنفسهم، بعد أن صار واضحا منذ اللحظة الأولى مدى محدودية القوة الحقيقية التي يتمتعون بها في دولة "ابن سعود". وقد مكّنت عائدات النفط في السنوات التالية آل سعود من إغداق الأموال على القبائل ورجال الدين، وفي وقت لاحق على مواطنيها، لتتركّز السلطة المطلقة في يد الأسرة الحاكمة في نهاية المطاف، ويتحول رجال الدين بشكل كامل إلى هيئة بيروقراطية في الدولة الجديدة.
وقف المال السعودي الوفير أيضا سدا منيعا أمام أي حركة اجتماعية ثورية مناهضة للنظام أسوة بأماكن أخرى في العالم الإسلامي في ذلك التوقيت. وفي غياب أي ملامح لمثل ذلك الحراك الاجتماعي الثوري، وفي ظل (6) الطابع اللاهوتي لحركة ابن عبد الوهاب، التي لم تكن يوما حركة ثورية ترغب في تغيير نظام الحكم أو حتى حركة وحدوية راغبة في توسيع أيديولوجيتها، في ظل ذلك ظل الدين السعودي مهادنا ومستأنسا وراضيا بمساحته المحددة في ظل الحاكم إلى حد كبير.
أخذ ذلك الطابع الفريد للنموذج الديني السعودي في التحول مع نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات. كانت الملكية قد سقطت في مصر منذ فترة ليحل محلها نظام عسكري علماني يقوده جمال عبد الناصر، وكانت (7) القومية العربية العلمانية هي أداة ناصر المختارة لنشر نموذجه السياسي واكتساب سلطة إقليمية، ومع تزايد التنافس وصولا إلى العداء بين مصر والسعودية، كانت المملكة بحاجة إلى "دعوة تبشيرية" لمواجهة قومية ناصر العربية، وكانت "الوحدة الإسلامية" هي النبوءة المختارة للتبشير السعودي الجديد.
وبهدف الدعوة إلى تلك الوحدة، أنشأ الملك فيصل عددا من المؤسسات بهدف "تعزيز الوعي الديني والتعاون الإسلامي"، أبرزها رابطة العالم الإسلامي التي تأسست في مايو/أيار عام 1962، ومنظمة المؤتمر الإسلامي التي دُشّنت بعد ذلك بعدة أعوام. وقد تأثرت رابطة العالم الإسلامي على وجه التحديد بـ "جماعة الإخوان المسلمين"، حيث تمتع أعضاء الجماعة الذين فرّوا من القمع الأمني في مصر وسوريا بنفوذ قوي بالرابطة، وفي حين كانت هي أقرب إلى مؤسسة اجتماعية، كانت منظمة التعاون الإسلامي المكافئة منظمة سياسية دولية عملت على تنسيق السياسة الخارجية للدول الإسلامية، كما امتلكت صلاحية تشكيل مؤسسات مالية وخيرية عملت أذرع نفوذ لها.
وباستثناء تقديم الدعم متنوع الأشكال للقضية الفلسطينية، ركّزت المنظمات السعودية الناشئة على العمل الإغاثي والخيري وصناديق الإنماء، واتخذت طابعا غير سياسي في معظم الأحوال. لكن نهاية السبعينيات كانت حبلى بعدة أحداث فارقة: في يناير/كانون الثاني، هرب شاه إيران بالطائرة إلى مصر، مما مهّد الطريق لعودة "آية الله الخميني" لطهران بعد أسبوعين وتأسيس نظام ثوري إسلامي شيعي على مقربة من المملكة. ومع اقتراب العام الحافل من نهايته، وتحديدا في نوفمبر/تشرين الثاني، سيطر مجموعة من المسلحين على المسجد الحرام في مكة لمدة أسبوعين، قبل أن تجد الحكومة السعودية نفسها مضطرة لطردهم عبر السماح بمعركة دامية بمساندة قوات أجنبية في بيت الله الحرام.
كانت واقعة اختطاف الحرم صادمة بشكل خاص بالنسبة للعائلة الحاكمة السعودية، فسرعان ما تبيّن أن المختطفين كانوا من تلامذة رجال الدين الرسميين، حتى إن "جهيمان العتيبي"، قائد الهجوم، كان قد درس على يد المفتي الأكبر للمملكة وأشهر علمائها قاطبة "عبد العزيز بن باز". بدا في تلك اللحظة أن الغطاء الديني التاريخي الذي التحف به آل سعود على مدار العقود الماضية لم يكن كافيا لمنع قيام حركة ثورية دينية على أراضيهم، حيث كان نموذج جيهمان وأتباعه بمنزلة ناقوس خطر، في وقت كانت فيه أشباح ثورة الخميني لا تزال تحوم في الأفق.
من أجل حماية أنفسهم، وجد آل سعود أن عليهم أن يقدموا (8) حكمهم كـ "دولة إسلامية" لا تقل نضالية أو ملحمية عن النظام الديني الثوري الجديد في إيران، ولكن بصبغة سُنية هذه المرة. كان السوفييت قد غزوا أفغانستان في العام نفسه، ما دفع واشنطن إلى الموافقة على برنامج لتدريب وتسليح المعارضين الأفغان ومعظمهم من "الإسلاميين"، وجاء ذلك متزامنا بشكل كبير مع تكثيف غير مسبوق للمنظمات الإسلامية المدعومة من السعودية لخطاب تضامن إسلامي سرعان ما اكتسى بلهجة ثورية غلفتها "الدعوة إلى الجهاد لطرد المحتل السوفييتي".
مثّل ذلك الأمر نقلة جديدة (*) في خطاب التضامن السعودي من مجرد مقاربة إنسانية ودبلوماسية إلى مقاربة أمنية وعسكرية لقضية "الوحدة"، وكانت تلك المقاربة مدفوعة بالأساس بسعي المملكة في تنافسها على مقعد الزعامة الدينية والثورية العالمية مع الملالي في طهران من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه كان يهدف لتوجيه أي طاقة ثورية داخلية من السعوديين أنفسهم نحو قضية خارجية كبرى، وكانت أفغانستان نموذجا مثاليا جدا لتحقيق كلا الهدفين، وسرعان ما بلغ الدعم السعودي للمقاومة الأفغانية مدى وعمقا لم يسبق لهما مثيل حتى بالمقارنة مع الدعم الذي قدمته المملكة للفلسطينيين، وهو دعم لم يكن للرياض أن تقدم مثله للفلسطينيين، غير راغبة على أفضل الأحوال، وغير قادرة واقعيا.
يمكننا أن نقول إذن، ولن نكون مخطئين في ذلك على الأرجح، إن الدعوة الوهابية التقليدية في السعودية، والدعوة الوحدوية التي ظهرت في الستينيات وتطورت في أواخر السبعينيات والثمانينيات، هما ظاهرتان منفصلتان لحد كبير، حيث كانت الأولى عملية محلية صرفة وأسهمت في صبغ المملكة بطابع محافظ، وكانت للثانية ارتدادات دولية أثمرت تشددا سياسيا في المقام الأول، رغم أن الدعوتين تداخلتا معا بنسبة ما في الداخل، وأثمرتا في نهاية المطاف عن ارتداد سريع لموجة التحديث الداخلي التي واكبت الطفرة النفطية في البلاد، حيث يبدو أن حكام آل سعود تواطئوا جميعا بشكل ضمني أن الحل لأزماتهم السياسية، الداخلية منها والخارجية، يكمن دوما في الاستثمار في إثبات جدارتهم بالزعامة الدينية.
حتى منتصف الثمانينيات، ظل الدعم السعودي للجهاد الأفغاني مقصورا على الدعم السياسي والإنساني بالأساس تماما كفلسطين، حيث وظفت المملكة منظمة المؤتمر الإسلامي من أجل حشد الدعم للمقاومة الأفغانية وعزل النظام في كابول. أما على المستوى الأفغاني الداخلي، فقد مارست الرياض نفوذها على فصائل المجاهدين من أجل الاتحاد وربطت الكثير من دعمها بذلك. وتم توجيه هذا الدعم المالي بشكل رئيس من خلال منظمتين هما "جمعية الهلال الأحمر السعودي" و"اللجنة الشعبية لجمع التبرعات"، أو اللجنة السعودية للإغاثة كما عُرفت لاحقا، التي ترأسها حاكم الرياض آنذاك، الأمير سلمان بن عبد العزيز، الملك الحالي للسعودية.
بالتوازي مع ذلك، كانت جهود الدعم غير الرسمي التي شجعتها الحكومة أو غضّت الطرف عنها قد بلغت مستويات أكثر تطورا بكثير، وتخطّت مجرد الإسهام المادي والدبلوماسي إلى حشد المتطوعين والمشاركة بشكل فعلي في القتال. بدأت تلك الحكاية بشكل فعلي في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1980، حين أوفد "عمر التلمساني"، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، مبعوثه "كمال السنانيري" في رحلة دامت أكثر من شهر إلى باكستان لتقييم المشاركة في الجهاد الأفغاني. كان الإخوان المسلمون بدورهم يحملون أجندة "وحدوية" أكثر مثالية ورثتها الجماعة عن مؤسسها حسن البنا، وهو التلميذ المقرب لرشيد رضا أبرز دعاة الوحدة الإسلامية في أعقاب سقوط الخلافة العثمانية عام 1924. وكان الإخوان قد أقاموا بدورهم صلات وثيقة بالإسلاميين الأفغان الذين قدموا لمصر للدراسة في الأزهر الشريف.
في طريقه من باكستان إلى مصر، عرّج السنانيري على السعودية لأداء فريضة الحج، حيث التقى (9) في مكة المكرمة بمحض المصادفة بصديق أردني فلسطيني الأصل يُدعى "عبد الله عزام"، وتحدث السنانيري لعزام بشكل مفصل حول الجهاد الأفغاني، وأقنعه بمرافقته إلى هناك بعد أن يحضر أسرته من مصر. ولكن السنانيري اُعتقل بمجرد وصوله إلى مصر حيث قضى نحبه بسبب التعذيب في السجن، غير أن عبد الله عزام قرر الالتزام بتعهّده حازما أمتعته إلى إسلام أباد أواخر عام 1980.
كان عبد الله عزام قد سافر إلى السعودية مطلع العام نفسه عقب خسارة منصبه الجامعي في الأردن لأسباب سياسية، حيث حصل على منصب في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، قبل أن يلتقي بالسنانيري، ليسافر بعدها إلى إسلام أباد للتدريس في الجامعة الإسلامية الدولية هناك براتب مدفوع من رابطة العالم الإسلامي. وهناك في إسلام أباد، قسّم عزام وقته بين وظيفته في التدريس وبين عمله في دعم الفصائل الأفغانية عبر مكتب الخدمات الذي أسسه. وفي عام 1983، أصدر عزام فتواه الشهيرة حول فرضية الجهاد الأفغاني والتي قرأها (10) بحضرة مئة عالم في مركز التوعية العامة في منى، بحضور "عبد رب الرسول سياف" أحد أكبر قيادات الجهاد الأفغاني، وجادل خلالها أن الجهاد في أفغانستان واجب عيني على كل مسلم قادر في جميع أنحاء الأرض.
أثارت فتوى عزام جدلا دينيا واسعا حين طرحها لأول مرة بسبب اختلافها عن التصورات الكلاسيكية للجهاد عند العلماء المسلمين، حتى المنتمين منهم إلى حركات الإسلام السياسي مثل يوسف القرضاوي في مصر وحسن الترابي في السودان، وحتى عن تصور معظم الحركات الإسلامية المسلحة التي كانت منهمكة في صراعاتها الثورية مع النظم المحلية كما في مصر وسوريا، لكن عزام نجح في استغلال زخم القضية الأفغانية من أجل أخذ موافقة العلماء في نهاية المطاف، محدثا بذلك تحولا غير مسبوق في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي. وفي نهاية المطاف، نجحت جهود عزام الفكرية والتعبوية في فرض رؤيته، وسرعان ما بدأ المتطوعون في التوافد.
كان أحد هؤلاء المتطوعين هو شاب سعودي يبلغ من العمر 27 ربيعا، وهو نجل لرجل أعمال سعودي من أصل يمني يدعى "محمد بن لادن"، من يُعدّ أحد أهم أقطاب قطاع المقاولات في المملكة. وسرعان ما أثبت الشاب الجديد "أسامة بن لادن" جدارته، ليصبح خلال وقت قصير الراعي الرسمي لمكتب الخدمات الذي أسسه عزام عام 1984 لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المتطوعين العرب الذين قدموا لأرض الأفغان، حيث أنفق الشاب السعودي الوجيه وقتها جُلّ دخله السنوي البالغ ثلاثمئة ألف دولار على تمويل وتجهيز المتطوعين، كما خاض رحلات مكوكية بين السعودية وأفغانستان من أجل القيام بمهام التجنيد وجمع الأموال للجهاد.
لكن عملية تجنيد السعوديين ظلّت بطيئة جدا خلال مراحلها الأولى، رغم أن الحكومة السعودية غضّت الطرف عنها بشكل كبير، قبل أن يتصاعد الدعم السعودي الرسمي لقضية الأفغان إلى مستويات درامية غير مسبوقة في أواسط الثمانينيات، وكان ذلك مرتبطا بشكل كبير باتفاق سعودي أميركي (*)، تدعم فيه الرياض نسخة الجهاد الكلاسيكي بتلك الدراما الهائلة، وتسهم بمبلغ مماثل للميزانية التي أقرها الكونغرس لدعم المقاومة الأفغانية، مبالغ تولّت وكالة المخابرات المركزية الأميركية "سي آي ايه" مهمة توزيعها في المقام الأول. وبخلاف ذلك، سمحت الرياض للسي آي ايه باستخدام أراضيها كمعبر لشحن الأسلحة إلى باكستان.
ولكن المملكة قررت الذهاب إلى مدى أبعد من الدعم، حيث جيّشت مؤسساتها كروافد لشحن المتطوعين من سائر أنحاء العالم الإسلامي، وفي مقدمتهم السعوديون أنفسهم، إلى باكستان وأفغانستان، لدرجة أن الخطوط الجوية السعودية أعلنت عن خصومات بنسبة 75% للمتطوعين المسافرين للجهاد على متنها.
نتيجة لذلك، فإن أعداد المتطوعين السعوديين في أفغانستان شهدت زيادة درامية من بضعة عشرات في عام 1984 إلى عدة آلاف عام 1987، وتحديدا ما بين 12 ألفا إلى 20 ألف سعودي، رغم أن معظم هؤلاء لم يخض أي قتال من قبل على الإطلاق. وبرغم الانسحاب السوفيتي من أفغانستان عام 1989، ظلت ساحة الجهاد الأفغاني تستقطب المتطوعين من العرب والسعوديين خلال الحرب الأهلية بين "المجاهدين" ونظام الرئيس "نجيب الله الشيوعي"، قبل أن يصل عصر الجهاد الأفغاني إلى خاتمته عام 1992 حين استولى "المجاهدون" على كابول.
بحلول ذلك التوقيت، أدرك الجميع أن بساط الجهاد الأفغاني بدأ ينسحب من تحت أقدام الجميع، وكان المجاهدون من الأفغان العرب يبحثون عن الساحة القادمة لجهودهم، فيما لم يتوقع أحد منهم أن يكون موطئ قدمهم القادم هو إقليم يوغوسلافيا الذي لم يعرفوا أبدا كيف دخله الإسلام ومتى كان ذلك. حينها اجتمع وفد مكون من أربعة من الأفغان العرب قدموا من بيشاور، على رأسهم السعودي عبد الرحمن الدوسري الملقب بـ "برباروس"، وتوجهوا إلى البوسنة لاستكشاف آفاق المشاركة العربية. وفي غضون أسابيع كان المقاتلون العرب يتدفقون، وعادت عجلة جمع الأموال للعمل في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
وعلى طريقة مكتب الخدمات الأفغاني قام برباروس بمساعدة من الشيخ المصري أنور شعبان المقيم في إيطاليا بتأسيس لجنة البر الإسلامية في زغرب (*)، عاصمة كرواتيا المجاورة التي عملت مكتب خدمات للجهاد البوسني، وبحلول نهاية عام 1992 كانت البوسنة قد آوت 500 من المقاتلين العرب معظمهم من السعوديين، في وقت كان برباروس فيه يكثف جهوده لإقناع العلماء بأن الوضع في البوسنة كان جهادا مشروعا يستحق توجيه الدعم المالي والعسكري.
لم تكن مهمة برباروس صعبة بحال بالنظر إلى مناخ التضامن الوحدوي السائد في المملكة، فسرعان ما كانت المنابر في البلاد تصدح بمظالم المسلمين في البوسنة والهرسك، وجمعت التبرعات من المتعاطفين، وتم تجهيز عشرات المجاهدين. لكن موجة الجهاد البوسني شهدت تباطؤا سريعا بحلول عام 1995 حيث لم يُقدّم الغرب الدعم الذي قدمه للعرب في أفغانستان، حيث لم يكن السوفييت والشيوعية حاضرين في المشهد هذه المرة. وبحلول نهاية العام مع توقيع معاهدة دايتون، كان معظم المقاتلين السعوديين قد عادوا إلى المملكة.
غير أن البوسنة لم تكن هي ساحة الجهاد الوحيدة التي اجتذبت المجاهدين العرب، والسعوديين منهم على وجه الخصوص، خلال عقد التسعينيات، حيث تفرق مجاهدو بيشاور بحثا عن فرص متاحة للجهاد سواء في الجزائر في أقصى الغرب (رغم أن الجهاد الجزائري لم يجتذب أعدادا كبيرة لأنه لم يكن جهادا كلاسيكيا ضد عدو أجنبي)، أو في الصومال إلى الشرق نسبيا لمساندة الصوماليين ضد قوات الأمم المتحدة ثم لاحقا للمشاركة في صراعهم ضد أثيوبيا في إقليم أوغادين. لكن الساحة الأهم التي استقطبت المقاتلين العرب كانت هي طاجيكستان، الجمهورية الإسلامية التي استقلت مؤخرا عن الاتحاد السوفيتي.
في أعقاب استقلالها، دخلت طاجيكستان في حرب أهلية استمرت خمسة أعوام أجبرت آلاف المدنيين على الفرار إلى أفغانستان، ما دفع حزب النهضة الإسلامي الطاجيكي إلى طلب العون من العرب الذين كانوا يستعدون بالفعل لمغادرة بيشاور بعد تحول كعكعة الجهاد الأفغاني إلى إقطاعيات يتنازعها أمراء الحرب في البلاد. ولكن الجهاد في أفغانستان لم يكن جهادا كلاسيكيا بدوره نظرا لأن النظام الجديد المدعوم من روسيا كان مسلما في ظاهر الأمر على الأقل.
غير أن المساندة الروسية القوية التي حظي بها النظام الطاجيكي قد شوّشت الشعرة الفاصلة بين الجهاد الكلاسيكي والقتال الثوري التحرري، وكان ذلك يعني تدفق المجاهدين إلى طاجيكستان وأغلبهم من السعوديين، وأشهرهم سامر السويلم الذي اشتهر فيما بعد باسم "خطاب".
ورغم أن المجاهدين أُرغموا على الرحيل من طاجيكستان عام 1995، فإنهم عادوا للتوافد من جديد في العام التالي في أعقاب تدخل القوات الروسية، الأمر الذي أكسب الجهاد الطاجيكي صبغة كلاسيكية. ومع تضاؤل فرص الجهاد في طاجيكستان، تلقى خطَّاب نبأ غزو الروس للشيشان، ما دفعه إلى المغادرة هناك حيث أسس كتيبة مقاتلة بالتعاون مع القائد الشيشاني ذائع الصيت شامل باسييف قبل أن يتلقى مساعدة مالية ولوجستية من داخل المملكة بعد أن أفتى العلماء أن المقاومة الشيشانية هي جهاد مشروع. وبحلول عام 1999 كانت أبواب الجهاد الشيشاني قد أُغلقت تقريبا، ما كان يعني إغلاق آخر محطة في عهد الجهاد الكلاسيكي وقدوم عهد الجهاد العالمي. على مستوى المملكة المحلي، كان الجهاد الكلاسيكي خارج الحدود حلا أنيقا للغاية لصرف أنظار ملايين الشباب السعودي وتوجيه جهود الآلاف منهم إلى أراضٍ بعيدة لإثارة القلق لدى أناس آخرين، في وقت تظل المملكة فيه خالصة ومطيعة لحكامها. ولكن الآثار الجانبية غير المحسوبة للخطة السعودية لم تلبث طويلا قبل أن تُلقي بظلالها الكثيفة، حيث أسهمت التجربة الأفغانية في تسييس المتطوعين السعوديين مع اندماجهم في قلب النقاشات الحامية التي دارت في بوتقة الجهاد في بيشاور، حيث استضافت المدينة الحدودية أهم المنظرين الأيديولوجيين في العالم الإسلامي.
تزامنا مع ذلك، جاء الغزو العراقي للكويت وتداعياته ليسهما في انتكاس صورة الحكومة السعودية كداعم لقضايا العالم الإسلامي. وقد دفع التهديد العراقي المتصور الملك فهد بن عبد العزيز إلى السماح بنشر قوات أميركية على الأراضي السعودية، وهو قرار قوّض مصداقية المملكة وطعن في مؤهلاتها للزعامة الدينية المستهدفة، رغم جهودها لتأطير الصراع في صورة إسلامية بحتة عن طريق حشد دعم 24 دولة من حلفائها المسلمين من غرب أفريقيا إلى شرق آسيا من أجل المشاركة فيه، ورغم حملة التعبئة المدنية التي لم يسبق لها مثيل، والتي استخدمت خطابا وطنيا لحشد المتطوعين السعوديين للمشاركة في المعركة.
لم تعف كل تلك الخطوات قيادة المملكة من خوض معارك أيديولوجية طاحنة، في وقت كان فيه السعوديون متوجسين بالأساس من قدوم القوات الأميركية، لدرجة أن البعض رأى أن الغزو العراقي للكويت كان من الأصل بإيحاء من واشنطن لتبرير قدوم القوة الأميركية. كان أحد أبرز من تبنوا هذه الرؤية هي حركة الصحوة السلفية (**) السعودية الناشئة في ثمانينيات القرن الماضي، حيث جادل الداعية الشيخ سفر الحوالي في كتابه "كشف الغمة عن علماء الأمة"، والذي كتبه على هيئة خطاب موجه إلى مفتي البلاد عبد العزيز بن باز، أن أميركا "هي من أوقد حرب الخليج لتضمن وجودا دائما لها في شبه الجزيرة العربية".
كان موقف الحوالي معبرا عن الاستياء العام للتيار الديني غير الرسمي في المملكة من انكشاف بلاد الحرمين أمام القوات الأميركية. ولكن ما قام به "سفر الحوالي" ورفاقه من رموز حركة الصحوة كان في جوهره أكثر من مجرد احتجاج، كان منازعة للنظام في مورد شرعيته وشعبيته الرئيس وهو "جدارته الإسلامية"، ومنذ تلك اللحظة بدا أن العلاقة بين الدولة السعودية والوسط الإسلامي سوف تشهد تغيرات فارقة، للأبد.
مثّل صعود المعارضة الإصلاحية أخطر تحدٍّ لشرعية الدولة السعودية في تاريخها المعاصر، ورغم أن الحركة لم تحمل يوما أجندة ثورية مثلا ولم تدع لاستخدام العنف بأي حال، فإن مجرد منازعتها للنظام في مورد شرعيته ولو بشكل غير مباشر كان أكبر بكثير من احتماله (*)، لذا كان رده سريعا وواضحا باعتقال "الحوالي" و"سلمان العودة"، وهو ما تسبب في هبّة شعبية لأنصار الصحوة في "بريدة" عاصمة منطقة القصيم، انتفاضة واجهها النظام من جديد على طريقته بحملة اعتقالات موسعة طالت أكثر من مئة من رموز تيار الصحوة وأنصاره.
مثّلت أحداث "بريدة" شرارة البدء لموجة من تصاعد العنف السياسي لم تعرفها المملكة على مدار تاريخها، حيث انطلقت شرارة الغضب في 11 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1994، حين قام شاب يُدعى "عبد الله الحضيف"، وهو أحد الذين حاربوا في أفغانستان في أوائل الثمانينيات، بإلقاء كمية من حمض "الكبريتيك" المُركّز في وجه محقق في سجن الحائر أُشيع أنه تورط في تعذيب المعتقلين الصحويين، ومنهم والد الحضيف نفسه وشقيقه وعدد من أصدقائه المقربين. وسرعان ما قُبِض على الحضيف وأُعلن إعدامه لاحقا، لكن الرواية الشعبية الرائجة قالت إنه توفي بسبب التعذيب في السجن، وقد لاقت تلك الرواية قبولا قويا نظرا لأن أسرة الحضيف لم تتمكن في أي وقت من استلام جثته.
كان للقمع الموسع الذي تعرضت له حركة الصحوة، وواقعة الحضيف بأبعادها الإنسانية المؤثرة، أثر في التيار الجهادي السعودي الناشئ الذي مثّلته جحافل الشباب السعودي العائدين من القتال في أفغانستان، حيث وصل هؤلاء إلى استنتاج شبه جماعي معاكس لاعتقاداتهم السابقة بعدم جدوى أي مواجهة سلمية في مواجهة النظام السعودي، وأنه ما من خيار لهم سوى اللجوء إلى العنف المسلح، وللمفارقة فإن هذا التصاعد في نزعة العنف جاء متزامنا مع خلو الساحة من شيوخ الصحوة بعد أن اجتثهم النظام وألقاهم في سجونه، وهم الرموز الدينية التي اعتادت على تبني خطاب إصلاحي وسيط أثبت قدرته نسبيا على كبح نزعات العنف والتمرد.
في نوفمبر/تشرين الثاني من العام التالي، بعد أسابيع قليلة من إعدام الحضيف أو قتله، انفجرت سيارة مفخخة خارج مبنى لشركة "فينيل"، وهي شركة تابعة للجيش الأميركي، يقع مقرها في وسط الرياض، وتقدم خدماتها التدريبية لصالح الحرس الوطني السعودي، انفجار أسفر عن مقتل سبعة أشخاص منهم خمسة أميركيين وإصابة العشرات. كان ذلك أول تفجير من ذلك النوع في تاريخ المملكة، وكان كفيلا بهز الدولة السعودية بأكملها، غير أن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد، ففي يونيو/حزيران من العام التالي، اخترقت شاحنة وقود متفجرة إحدى ثكنات سلاح الجو الأميركي في "الخُبر"، ما أسفر عن مقتل 19 جنديا أميركيا وإصابة 400 آخرين في أكبر خسارة للقوات الأميركية منذ قدومها للسعودية، ورغم ما تكشّف لاحقا من أن التفجير الأخير كان من صناعة مجموعة "حزب الله الحجاز" الشيعية، فإن السلطات في المملكة نسبته في بادئ الأمر بلا إثبات للجهاديين.
مثّلت هذه الأعمال شرارة البدء لمرحلة جديدة في العلاقة ما بين الدولة السعودية وبين قدامى الجهاديين الذين سهّلت لهم يوما عبور الحدود للقتال بمباركتها، حيث اعتقلت السلطات وعذبت مئات من الجهاديين السابقين في حملات قمع واسعة خلال الفترة بين عامي 1996 و1998، وشملت الاعتقالات العديد من الرموز مثل برباروس، حيث قضوا في السجون مددا طويلة دون محاكمة، ومورس التعذيب ضدهم على نطاق واسع في السجون السعودية، وبخاصة داخل سجن الرويس في جدة.
ترك التعذيب واسع النطاق الذي استخدمه النظام السعودي في تلك الفترة بصماته على الحركة الجهادية السعودية، التي بدأت تجنح شيئا فشيئا إلى مزيد من التشدد، وأصبح القيام بعمليات داخل المملكة هدفا مدرجا على أجندة "الجهاديين" لأول مرة. وعندما آلت الأمور إلى الملك السابق عبد الله نهاية التسعينيات، لم يكن تخفيف القبضة الذي مارسه كافيا، فرغم الإفراج عن معظم الصحويين والعديد من الجهاديين خلال تلك الفترة، وتراجع ممارسات التعذيب بشكل واضح، فإن العلاقة بين الدولة السعودية والمحيط الإسلامي كانت قد تغيرت إلى غير رجعة. ونتيجة لذلك، شهدت الفترة بين عامي 2000 و2003 مجموعة من الهجمات المحدودة على أشخاص ومنشآت غربية في المملكة استهدفت أميركيين وبريطانيين وأستراليين، مخلّفة أعدادا محدودة من الضحايا، ولكنها تركت خلفها دلالة واضحة رغم ذلك وهي أن المملكة الهادئة في جزيرة العرب يبدو أنها لم تعد هادئة على الإطلاق.
ومع انتشار أنباء القمع، لم يعد العديد من المجاهدين من الأفغان العرب إلى بلادهم خوفا من أن ينالهم أيضا نصيبهم من البطش. وبينما كانت رحى الأحداث الساخنة تدور في المملكة العربية السعودية وغيرها من ساحات العالم الإسلامي، كان هناك اتجاه مختلف يتبلور بشكل متزايد في مجتمع هامشي معزول عن العالم في أفغانستان، وفق ما رصده الباحث النرويجي توماس هيغهامر في كتابه "الجهاد في السعودية.. قصة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب". من وجهة نظر هذا المجتمع الجديد، وكما رصد هيغهامر، كان الإسلاميون قد أخفقوا في أغلب صراعاتهم القطرية خلال التسعينيات، حيث أُريقت الدماء في الجزائر ومصر بلا جدوى، وحتى الجهاد الكلاسيكي في الشيشان والبوسنة لم يُسفر عن أي تغييرات كبيرة، أما في السعودية فقد بدا واضحا مدى عجز المعارضة السياسية غير العنيفة عن الضغط على الحكومة السعودية للتراجع عن الوجود الأميركي في بلاد الحرمين، حيث آل مصير معظم الصحويين إلى السجن في وقت كشّرت فيه الدولة السعودية عن أنيابها القمعية في وجه الجميع.
في ذلك التوقيت، كان أسامة بن لادن قد قرر الانتقال بشكل دائم إلى الخرطوم حاملا التزاما أكبر تجاه مجموعته القديمة في بيشاور، وهناك ظهر تبلور تنظيم القاعدة إلى هيكل تنظيمي مكون من لجان متعددة مع نظام خاص للرواتب، لكنه طوال الحقبة السودانية لم يحمل أجندة عسكرية موحّدة حيث واصلت فصائله المختلفة اهتماماتها الخاصة، حيث ركز المصريون على مواجهة نظام مبارك، في حين ركز بن لادن ورفاقه سهامهم على قضية الوجود الأميركي في بلاد الحرمين.
لم يكن أسامة بن لادن على وفاق مع الصحويين بأي حال، ولكنه أكنّ احتراما لموقفهم الرافض للوجود الأميركي، وكان لتجربتهم في مواجهة الدولة السعودية أثرها الخاص في توجهه الجديد، حيث قاده التنكيل الذي تعرضت له الصحوة إلى استنتاج مفاده أن الحرب المباشرة مع الولايات المتحدة لا مفر منها، وهو الاستنتاج الذي تبلور في نهاية المطاف في بيانه الشهير في أغسطس/آب عام 1996 الذي أعلن فيه الحرب على الولايات المتحدة، ودعا المسلمين حول العالم إلى شحن حرب عصابات ضد مصالحها.
مثّلت دعوة بن لادن النقلة الأكثر ثورية في تاريخ الجهاد حيث كانت تلك هي اللحظة الأولى التي تحولت فيها أسلحة الجهاديين إلى العدو البعيد محدثة القطيعة الدائمة بين الجهاديين العالميين وبين الإسلاميين الثوريين الذين وجهوا جهودهم ضد النظم الحاكمة في بلادهم، منهيا حقبة الجهاد الكلاسيكي الذي وحّد جهود الإسلاميين لفترة طويلة.
حولت دعوة بن لادن الأرض بطولها إلى مسرح للعمليات ضد الأميركيين، مدشنا سلسلة من أخطر العمليات التي استهدفت المصالح والمؤسسات والأفراد الأميركيين حول العالم أشهرها تفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام عام 1998 مما أسفر عن مقتل أكثر من 300 شخص، ثم حادثة استهداف المدمرة الأميركية "يو إس إس كول" قرابة سواحل اليمن، والتي أوقعت 17 جنديا أميركيا، قبل أن تدشن القاعدة حدثها الأكثر تدميرا في قلب أميركا عام 2001 من خلال استهداف برجي مركز التجارة في نيويورك ومبنى وزارة الدفاع الأميركية وهي العملية التي خلّفت أكثر من ثلاثة آلاف قتيل وغيّرت وجه العالم بأسره.
ولكن على الرغم من توجهه العالمي، ظلت السعودية تحتل مكانة رمزية في قلب بن لادن، وبالتبعية في قلب منظومة الجهاد العالمي بأكملها، بل لعله من غير المبالغة أن ندعي أن مذهب الجهاد العالمي قد صيغ بأكمله كرد فعل على "تدنيس" الجنود الأميركيين لبلاد الحرمين وهي الخطيئة التي لم يغفرها بن لادن أبدا للنظام السعودي، الذي لم يخيب ظنون بن لادن ورفاقه من جديد حين سمح باستخدام الجزيرة العربية بأكملها كحاملة طائرات كبيرة خلال الحرب التي شنتها الولايات المتحدة ضد القاعدة في أفغانستان، ولاحقا ضد العراق في أعقاب أحداث 11 سبتمبر/أيلول. حتى منتصف التسعينيات، وعلى الرغم من تزايد الهوة بينه وبين النظام السعودي، لم يبد أن ابن لادن كان يخطط لشن هجمات داخل المملكة، لذا فإنه لم ينشط في بناء شبكة تنظيمية في السعودية حتى منتصف التسعينيات، حين وقعت اعتقالات الصحوة الشهيرة التي دفعته إلى إعادة التفكير حول استخدام العنف ضد النظام. لكن في الوقت الذي قرر فيه ابن لادن أخيرا أن يهتم ببناء شبكته السعودية، كانت الساحة المحلية قد فرغت تماما بعد تفجيري الرياض والخبر، حيث زجت السلطات بجميع الناشطين المحتملين في السجن، وهو ما عنى أن تقدم شبكة القاعدة في السعودية سيسير ببطء شديد. وخلال فترة ما قبل أحداث 11 سبتمبر/أيلول، لم تُنسب أي هجمات مؤكدة لتنظيم القاعدة داخل السعودية، غير أن هناك مؤشرات على كون أجهزة الأمن السعودية نجحت في إحباط عمليتين كبيرتين (9) عام 1998.
وقعت الحادثة الأولى في يناير/كانون الثاني، حين قُبِض على مسلحين مزودين بصواريخ "ساغر" المضادة للدبابات، ورُجح فيما بعد أنهم كانوا يخططون لاستهداف القنصلية الأميركية في جدة تزامنا مع زيارة نائب الرئيس الأميركي وقتها آل جور لها، وكانت تلك أول خلية رسمية لتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، وهو نشاط ردت عليه المملكة باعتقال 900 شخص. وفي وقت لاحق من العام نفسه، جرت محاولة أخرى لتهريب صواريخ سام 7 من اليمن إلى السعودية بنية إسقاط طائرة أميركية، واستجابت السعودية أيضا باعتقال 800 إسلامي نهاية العام ومطلع العام التالي 1999.
أوصلت هاتان العمليتان ابن لادن لإدراك مدى الصعوبات الأمنية واللوجستية التي ينطوي عليها قيام أي نشاط مسلح في المملكة. وفي ظل وجود قاعدة كبيرة من الدعم الإسلامي في البلاد، كان ابن لادن حريصا على الحفاظ على السعودية كقاعدة لوجستية للمتطوعين وجمع الأموال لصالح التنظيم، ما دفعه إلى تعليق النشاط المسلح داخلها، تعليق ضمني كشفت عنه شهادات متفرقة، وأكّده "جورج تينيت" مدير جهاز المخابرات الأميركية الأسبق سي آي ايه في سيرته الذاتية(*).
ولكن الوضع الجديد بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول والحرب الأميركية على أفغانستان أرغما التنظيم على إعادة النظر في إستراتيجية وطبيعة عملياته، حيث مثّلت الحرب الأميركية على أفغانستان سوء تقدير إستراتيجيا غير مسبوق لابن لادن ورفاقه، حيث خسرت القاعدة على إثرها أفغانستان ومقرها القيادي الدائم وساحة التدريب المفتوحة لمتطوعيها، وأصبح قيادات التنظيم وأعضاؤه بين عشية وضحاها مطاردين في كل مكان، وازدادت مهام تحرك الأفراد وتهريب الأموال والأسلحة تعقيدا بسبب الرقابة الشديدة على الحدود.
دفعت هذه المتغيرات قيادات القاعدة إلى إعادة النظر في سياستهم القديمة بتجنب استهداف المملكة العربية السعودية بعد أن قل نفع المملكة كمصدر للمال والمجندين، ومع حالة فقدان الثقة التي اعترت المقاتلين السعوديين في أفغانستان الذين طلبوا الإذن للعودة لتنفيذ عمليات في بلادهم. وبحلول مايو/أيار عام 2002، كان ابن لادن مضطرا للرضوخ لضغوط التغييرات الجديدة، وأذن بعودة عدة مئات من المقاتلين السعوديين للمملكة.
بعد أكثر من عام من تحضيرات تخللها كشف النظام لأكثر من شبكة خططت لعمليات فاشلة، كان تنظيم القاعدة قادرا على الضرب أخيرا. كان ذلك النجاح ثمرة مجهودات هائلة قام بها "يوسف العييري"، أحد الجهاديين المحنكين وذراع ابن لادن اليمني في المملكة، ناجحا في بناء شبكة جهادية سرية هائلة مع قاعدة كبيرة من الدعم، وجهاز إعلامي تمثل في موقع "النداء" الذي أطلقه، إضافة إلى معسكرات تدريب سرية في قلب المملكة. وفي 12 مايو/أيار من عام 2003، كان عرض الألعاب النارية قد بدأ بالفعل من خلال ثلاثة تفجيرات متزامنة عبر سيارات مفخخة استهدفت ثلاث مجمعات سكنية يقطنها غربيون في المقام الأول، عمليات قابلتها المملكة بحملة اعتقالات ومداهمات واسعة أسفرت في نهاية المطاف عن مقتل "يوسف العييري" في مطاردة مع قوات الأمن مطلع يونيو/حزيران أثناء محاولته الفرار إلى العراق كما ذكرنا.
ازدادت الحملة الأمنية التي قادتها وزارة الداخلية السعودية ضد قيادات القاعدة في البلاد، لكن عمليات التنظيم لم تتوقف، وكان الهدف الثاني هو مجمع المحيا السكني غرب الرياض والذي تقطنه بالأساس جاليات عربية، وخلّف الهجوم 18 قتيلا وأكثر من مئة جريح، واستخدمت خلاله القاعدة سيارة انتحارية مع طلقات آر بي جي بدافع التمويه.
تسبب هجوم المحيا على وجه التحديد في خسارة غير مسبوقة لسمعة تنظيم القاعدة، إذ كان معظم ضحايا الهجوم من العرب والمسلمين وغالبيتهم كانوا من الأطفال، ناهيك عن توقيت الهجوم الذي وقع في شهر رمضان، ما جعله نقطة تحول كبيرة في الحرب على القاعدة تسببت في تأليب الرأي العام ضد التنظيم وزادت الخناق الشعبي عليه، في الوقت الذي تكثفت فيه حملات قوات الأمن عليه. وسرعان ما بدأت البنية التحتية لتنظيم القاعدة السعودي في الانهيار، وتراجعت هجماته لاستهدافات محدودة بدافع الانتقام من قوات الأمن، استهدافات بدأت بعملية إطلاق نار في ديسمبر/كانون الأول 2003 على رئيس جهاز المباحث العامة وقتها "عبد العزيز الهويريني" تسببت في وفاة شقيقه وإصابته بإصابات غير خطيرة في الوجه والكف. ولكن العملية الأخطر لتنظيم القاعدة ضد قوات الأمن العام وقعت في أبريل/نيسان من العام التالي 2004، حين تم استهداف مجمع إدارات الأمن العام في حي الوشم بمدينة الرياض ما أدى إلى مقتل 11 وإصابة أكثر من مئتي عسكري.
لم تؤت سياسة القاعدة في استهداف قيادات ومؤسسات الأمن أُكلها في تخفيف القبضة الأمنية على التنظيم، ما دفعه إلى التحول لاستهداف الشركات الأجنبية، وكانت البداية عبر هجوم على شركة آي بي بي السويسرية في مدينة "ينبع" ما أسفر عن مقتل سبعة أشخاص، تلا ذلك سلسلة من عمليات الاغتيال والاختطاف لمواطنين غربيين أبرزها واقعة اختطاف الأميركي بول جونسون وقطع رأسه بعد ثلاثة أيام في مشهد مصور عبر الإنترنت، بعد فشل محاولة لمقايضة الرهينة مقابل الإفراج عن سجناء القاعدة في السجون السعودية.
كان أكبر هجوم لتنظيم القاعدة ضد الغربيين في نهاية مايو/أيار من العام نفسه، حين استهدف التنظيم مقر شركة هيلبرتون الأميركية للنفط موقعا 22 قتيلا، قبل أن يتبنى عملية إطلاق نار داخل القنصلية الأميركية في جدة. لكن التنظيم تلقى خلال الأشهر التالية ضربات أمنية متتالية أطاحت بصف قيادته من جديد، ما أدى إلى خفوت نشاطه إلى حد كبير، خاصة بعدما داهمت قوات الأمن منزلا في الرياض تبين فيما بعد أنه المقر الرئيس للتنظيم، وهي عملية كشفت الجزء المتبقي من شبكة القاعدة، وبدأ المطلوبون لقوات الأمن بتسليم أنفسهم بعدما صدر مرسوم ملكي ألقاه ولي العهد الأمير عبد الله بفتح باب العفو لمن يقوم بتسليم نفسه وإلقاء السلاح.
خلال العامين التاليين بدا أن الدولة السعودية حققت نجاحا باهرا في معركتها أمام ما صنعته بدءا، حيث خفت أي تأثير لخلايا القاعدة السعودية، ما تسبب في النهاية بحل التنظيم بشكل فعلي في عام 2008، وتوجه مقاتلوه إلى اليمن للاندماج في صفوف تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وكانت أولى عمليات التنظيم بعد الاندماج هي محاولة اغتيال الأمير "محمد بن نايف" نائب وزير الداخلية، من خلال انتحاري يدعى "عبد الله بن حسن حسيري" ادعى أنه يريد تسليم نفسه للأمير في قصره بجدة، حيث قام بإخفاء قنبلة داخل جسده تم تفجيرها عن بُعد عن طريق هاتف محمول من اليمن.
لم تكن 11 سبتمبر/أيلول نقطة تحول بالنسبة لتنظيم القاعدة وحده، ولكن للعالم كله وفي القلب منه السعودية، حيث تسببت الأحداث وتداعياتها في تنامي المشاعر المناهضة للولايات المتحدة بشكل كبير، ونظر الكثير من المسلمين إلى الأحداث بوصفها حلقة في سلسلة تآمرية طويلة تقودها الولايات المتحدة لتبرير توسيع وجودها العسكري في العالم الإسلامي.
تسبب الغزو الأميركي في زيادة المشاعر المعادية للولايات المتحدة في السعودية، وزُعم أن مسحا أجرته الاستخبارات السعودية بعد أسبوع واحد من القصف الأميركي وجد أن 95% من السعوديين متعاطفون مع قضية ابن لادن (*)، لذلك فإن الرياض قد قاومت بشدة الضغوط الأميركية حتى تلك اللحظة لتصعيد حربها من جديد على الجهاديين العائدين من ساحات القتال، رغم أن 15 من أصل 19 خاطفا شاركوا في أحداث سبتمبر/أيلول كانوا في الأصل من السعوديين، وهي مقاومة استمرت قبل أن ينقل التنظيم أنشطته إلى المملكة بعد عام واحد فقط.
على جانب آخر، كان على المملكة أن تدفع ثمنا مناسبا للولايات المتحدة لتتجاهل الأضواء المسلطة على هوية الخاطفين، وتمثل هذا الثمن من جديد في فتح الأجواء السعودية على مصراعيها أمام الطائرات الأميركية لتنفيذ هجماتها على أفغانستان، ثم لاحقا ضد العراق، مع تحمل (10) الكثير من التبعات اللوجستية مثل تزويد الوقود للطائرات الأميركية، وحتى زيادة إمدادات النفط للولايات المتحدة بأكثر من مليون برميل يوميا لتعويض نقص الإمدادات العراقية. وفي وقت لاحق، بدا أن الرياض لم تعد قادرة على دفع الكلفة السياسية للوجود الأميركي الصارخ على أراضيها، حيث جرى نقل مركز قيادة العمليات الأميركية من قاعدة الأمير سلطان الجوية في السعودية إلى قاعدة العديد في قطر باتفاق ثلاثي.
من جانبها، كانت الولايات المتحدة حريصة هي الأخرى على الحفاظ على استثمارها في العلاقة طويلة الأمد مع النظام السعودي لتأمين المصالح الأميركية الإستراتيجية، وفي مقدمتها استمرار تدفق النفط، والحفاظ على السعودية كمركز لوجستي لواشنطن في المنطقة، وكان ذلك يعني الحاجة إلى التغطية على أي صلات مؤسسية محتملة للرياض بالخاطفين المتورطين في أحداث سبتمبر/أيلول. لذا لجأت واشنطن من بين أمور أخرى إلى إخفاء 29 صفحة من تقرير مشترك للكونغرس يتناول الروابط السعودية مع الخاطفين، كما ضاعفت إدارة بوش من جهود إلقاء اللوم على صدام حسين، حيث كانت بحاجة إلى كبش فداء لـ "الحرب ضد الإرهاب".
ولكن "الحرب على الإرهاب" والعراق سرعان ما انقلبت بنتائج مختلطة في أفضل الأحوال، معاكسة على أوقعها، لتسهم في زيادة النفوذ الإيراني بالعراق، وتولدت الحاجة من جديد إلى توظيف الإرهاب "المزعوم" في خدمة المصالح الأميركية، ما كان يعني تحويل الغضب الشعبي ضد الولايات المتحدة والقوى الغربية إلى حرب طائفية تدور رحاها بين السنة والشيعة في المقام الأول.
عُرفت هذه السياسة باسم "إعادة التوجيه"، كما وصفها صحافي التحقيقات "سيمور هيرش" في مقاله(11) الشهير في مجلة نيويوركر عام 2007، وهي خطة تمت هندستها من قِبَل كل من نائب الرئيس الأميركي "ديك تشيني"، ونائب مستشار الأمن القومي "إليوت أبرامز"، والسفير السابق لواشنطن في الأمم المتحدة "زلماي خليل زاد"، والأمير "بندر بن سلطان"، مستشار الأمن القومي السعودي وسفير المملكة لدى الولايات المتحدة لأكثر من عقدين ومهندس سياستها الخارجية، وقامت خطة إعادة التوجيه بالأساس على تقديم واشنطن والرياض من جديد للدعم للحكومات والجماعات المناهضة لإيران بهدف إضعاف الدولة الشيعية وحلفائها، ومنحت هذه السياسة قُبلة حياة جديدة للعلاقات السعودية الأميركية التي كانت مهددة بالتداعي بفعل أصداء 11 سبتمبر/أيلول.
كانت البداية في لبنان، وكانت الخطة تهدف للعمل بشكل وثيق مع حكومة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة المدعومة ماليا من السعودية للحد من نفوذ "حزب الله" الشيعي الموالي لإيران، بينما في العراق كانت تستلزم العمل بشكل أوثق مع القوات السنية والكردية لكبح جماح النفوذ الشيعي المتنامي الذي ولّده الغزو الأميركي، وبالمثل تعزيز معارضي الأسد من الإسلاميين في سوريا. وقد ناقشت مذكرة (12) سرية لوزارة الخارجية الأميركية عام 2006 هذه الخطط الأميركية لتشجيع المخاوف السنية من تنامي النفوذ الشيعي، مع اعترافها أن هذه المخاوف ربما يكون "مبالغ فيها في الكثير من الأحيان".
ولكن خطة إعادة التوجيه لم تعمل بشكل جيد في النهاية وسرعان ما انقلبت ضد أصحابها كما هي العادة، حيث فشل "بندر بن سلطان" في الوفاء بتعهده للأميركيين حول قدرة بلاده على التمييز بين "الإصلاحيين والمتطرفين من الإسلاميين" وفق تصنيف "كونداليزا رايس" مستشارة الأمن القومي الأميركي آنذاك. وتجلى هذا الفشل بوضوح في أعقاب اندلاع الثورة السورية، بعدما بدأت المملكة بضوء أخضر أميركي في توجيه الدعم إلى معارضي بشار الأسد في سوريا، خلافا لسياساتها المناهضة للربيع العربي على طول الخط.
أدى التدخل الأجنبي إلى تحويل مسار الثورة السورية من هبة شعبية ضد نظام مستبد إلى حرب أهلية بين السنة والشيعة، في وقت تجدد فيه العنف الطائفي في العراق من جديد في صورته الأولى بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في العراق منتصف عام 2014، وسرعان ما عبر التنظيم الحدود لسوريا، ليتحول في غضون أقل من عام إلى فرانكنشتاين العالم المتحضر، مثيرا قدرا غير مسبوق من الذعر عبر كل من ضفتي الأطلسي.
لم تكن الولايات المتحدة آنذاك مستعدة لخوض حرب جديدة في الشرق الأوسط، أو على وجه الدقة فإن الرئيس الأميركي السابق أوباما ظل متشبثا بسياسته بالنأي عن التدخل العسكري في المنطقة التي صار ينظر إليها على أنها مصدر للشرور. لكن ذلك لم يمنع من الحاجة إلى دمية جديدة لتحمل الركل وتوجيه الغضب الأميركي الغربي، وفي تلك اللحظة لم تعد هناك حاجة إلى البحث عن كبش فداء، في وقت لم تعد الولايات المتحدة تحمل ذات الالتزام فيه تجاه الشرق الأوسط، الذي بدأ يفقد ميزته الإستراتيجية كمصدر أوحد للنفط.
لطالما أبدى (13) أوباما انزعاجه بوضوح من أن أرثوذكسية السياسة الخارجية تجبره على اعتبار السعودية حليفا، وخلال اجتماع في قمة "أبيك" مع مالكولم ترنبول، رئيس وزراء أستراليا، وصف أوباما كيف شاهد إندونيسيا تنتقل تدريجيا من "الإسلام التوفيقي" على حد وصفه إلى "تأويل أقل تسامحا"، انتقال عزاه أوباما إلى كون السعودية أنفقت الأموال ودفعت أعدادا كثيرة من الأئمة والأساتذة نحو البلاد لتلقينها النسخة الهوياتية من الإسلام والتي تفضلها العائلة الحاكمة السعودية. وحين سأله ترنبول: "أليس السعوديون أصدقاءك؟"، رد أوباما بابتسامة باهتة مع عبارة مقتضبة قائلا: "الأمر معقد"، وهي إجابة غير معتادة سلطت الضوء على الفتور الأميركي.
خلال فترة حكم أوباما الثانية، واجهت السعودية ضغوطا غير مسبوقة على سياستها، وأطلق السياسيون والصحفيون الأميركيون العنان لمهاجمة المملكة بنبرة لم يسبق لها مثيل حتى بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول نفسها، ومرر الكونغرس مشروع قانون يسمح بمقاضاة السعودية من قِبَل أسر ضحايا أحداث 11 سبتمبر/أيلول على الرغم من فيتو أوباما نفسه، وفرضت وزارة الخزانة الأميركية رقابة غير مسبوقة على التعاملات المالية للسعوديين والمؤسسات السعودية، وتزامن ذلك مع التضييق على المساجد والهيئات الدينية السعودية في الغرب. وعلى الرغم من أن المملكة عانت هي الأخرى من هجمات "تنظيم الدولة" على أراضيها، فإن ذلك لم يكن كافيا ليُبعد عنها ولو قدرا قليلا من اللوم.
وكانت الضربة القاصمة بالنسبة إلى السعودية هي أن أوباما سعى للتصالح مع إيران، خصم السعودية الإستراتيجي، مبرما اتفاقا تاريخيا عام 2015 يحجم برنامجها النووي مقابل رفع العقوبات. وحتى مرشحا الرئاسة الأميركية هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، اللذان اختلفا حول كل شيء وقتها، كان اتفاقهما بشأن السعودية هو الاستثناء الوحيد للقاعدة، ففي حين استنكرت (14) كلينتون دعم المملكة "للمدارس والمساجد المتطرفة حول العالم التي وضعت الكثير من الشباب على طريق التطرف" كما قالت، كان ترمب حادا كعادته واعتبر(15) أن السعوديين هم "أكبر ممول للإرهاب في العالم".
كان المعبد يتداعى فوق رأس السعودية في واشنطن بلا أي بصيص للأمل، قبل أن يبدأ ترمب رئاسته الغامضة والمثيرة للجدل. ولحسن الحظ، لم تكن رئاسة رجل الأعمال الأميركي غريب الأطوار على ذلك القدر من السوء بالنسبة للسعوديين كما توقعوا، بعد أن اختار الرياض محطة أولى لجولاته الخارجية عكس ما قد يتوقع الجميع تقريبا، حيث مارس رقص "العرضة" المحلية قبل أن يعود لبلاده محملا بوعود بمليارات الدولارات والكثير من التغيير في الرياض.
وللمفارقة، كان التغيير قد بدأ يقع بالفعل، حيث كانت قيادة جديدة ممثلة في ولي العهد السعودي آنذاك "محمد بن سلمان" تشق طريقها في المملكة منقلبة على الإرث التاريخي المتعارف عليه لطريقة عمل السلطة في البلاد. وقد بنى ابن سلمان رحلة صعوده على ركيزتين أساسيتين (16): أولاهما خطته لفطام المملكة عن اعتمادها المستدام على النفط، وثانيهما إنهاء الترتيبات طويلة الأمد للسياسة الخارجية السعودية التي قامت على السماح لـ "الإسلاميين الأكثر راديكالية" بنشر أفكارهم وعلى دعمهم في الصراعات المسلحة لخدمة المصالح السعودية حول العالم.
كان "ابن سلمان" أكثر صراحة من أي مسؤول سعودي آخر في التاريخ حين اعترف أن بلاده قامت بدعم وتسليح الإسلاميين في أفغانستان بطلب من الغرب من أجل إسقاط الاتحاد السوفيتي، ورغم أنه بدا غارقا لأذنيه كالآخرين في حالة من الإنكار حين نفى وجود ما يُعرف بـ "الوهابية" في حواره الأخيرة مع جيفري غولدبيرج (17)، لكنه كان محقا من وجه ما أيضا، فلم تكن الوهابية الرسمية السعودية عبر تاريخها أكثر من أداة دينية مستأنسة سياسيا وظّفها آل سعود بمحض إرادتهم لخدمة مصالحهم السياسية.
في ضوء ذلك، لم يعد من المستغرب أن يصبح (18) "الجهاد" في سوريا حراما بعد أن كان في أفغانستان "فرض عين"، وأن تختفي شرطة الرقابة الدينية، وأن يدرك الجميع في الأخير أن حظر قيادة المرأة للسيارة لم يكن من الدين، وأن تستضيف السعودية حاليا دور السينما والأفلام الأجنبية وحفلات الغناء، مع اشتراط عدم التمايل مع الأنغام، في عملية انسلاخ سريع غير مسبوقة من ثوب المملكة المحافظ، فقط لأن المزاج العام للسلطة الجديدة تجاه الدين قد تغير، كما أن مصالحها السياسية بالطبع كانت آخذة في التحول بشكل سريع.
على مدار تاريخهم، كانت الشرعية الدينية أداة حيوية للجدارة الداخلية والإقليمية بالنسبة إلى آل سعود، ولكن النخبة الحاكمة الجديدة في السعودية صارت تنظر اليوم إلى ذلك الإرث الديني كعبء ثقيل ينبغي التخلص منه بفعل التغيرات التي أحدثتها سنوات "الحرب على الإرهاب"، ثم تداعيات الثورة السورية في البيئة العالمية، بيئة صارت اليوم أقل ترحيبا بملوك معممين يجالسون رجال الدين بشكل أسبوعي ويدعمون تنظيمات مسلحة يصنعونها على أعينهم أو نتاجا لأيديهم، ولكنها بيئة أكثر ترحيبا بولي عهد شاب يرتدي ملابس أنيقة، ويتجول في الولايات المتحدة مبشرا ببلد جديد كرّس نفسه لمحاربة "الإرهاب"، بينما يعي ذلك الشاب في قرارة نفسه أن أسلافه قد صنعوا ذلك "الإرهاب" على أعينهم منذ زمن ليس ببعيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (*) من كتاب توماس هيغهامر
الجهاد في السعودية قصة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب
https://www.goodreads.com/book/show/17456129
(**) من كتاب زمن الصحوة "ستيفان لاكروا"
ارسال التعليق