آل سعود والتحكم في لبنان..استثمار سعودي لا يلغي المواجهة(2/3)
بقلم: يارا بليبل…
أفرزت حرب تموز 2006 أحلافا جديدة على تاريخ الصراع بين العرب و"إسرائيل". لا يقتصر الأمر على إعلان الولادة الفعلية لحلف "المعتدلين العرب"، بدون إعلان رسمي، لكنّه يشمل أيضاً " الفوضى الخلاقة" التي تدار بجهاز التحكّم عن بعد. وأتت كوندوليزا رايس إلى المنطقة بهدف واحد: تكوين مركز معتدل يحارب "أطراف" المقاومة الراديكالية.
يمكن القول إن حرب تموز جمعت الأشباه، ورتبت معسكرات الصراع في المنطقة، حيث خرجت عواصم كل من الأردن ومصر و"السعودية"، في تناغم واحد لتعلن مواقف تدين أسر حزب الله اللبناني للجنديين الإسرائيلين وتحمّله مسؤولية العدوان الإسرائيلي.
انتقدت "السعودية"، "تصرّفات" حزب الله، ووصفتها بأنّها "مغامرات غير محسوبة". وفي بيان نشرته وكالة الأنباء السعودية (واس) يوم الخميس 13/7/2006، قالت "السعودية" إن " المملكة تعلن بوضوح أنه لا بد من التفرقة بين المقاومة الشرعية والمغامرات غير المحسوبة التي تقوم بها عناصر داخل الدولة، ومن ورائها دون الرجوع إلى السلطة الشرعية في دولتها ودون تشاور أو تنسيق مع الدول العربية".
عندما تولّى الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز السلطة رسمياً في بلاده بعد وفاة شقيقه الملك الراحل فهد، تساءل الرئيس الأميركي جورج بوش في لقاء مع مسؤول عربي كبير: أيّ رجل هو؟ فكانت الإجابة إنّه ليس غريباً عنكم. قد تصلح هذه القصة ملخّصاً لرواية المشهد السعودي في الحرب التي شنّتها الآلة العسكرية الإسرائيلية على لبنان.
وأضاف البيان: "إنّ المملكة ترى أن الوقت قد حان لأن تتحمل هذه العناصر وحدها المسؤولية الكاملة عن هذه التصرفات غير المسؤولة، وأن يقع عليها وحدها عبء إنهاء الأزمة التي أوجدتها". واتهم البيان "هذه العناصر" بجر المنطقة إلى "وضع بالغ الخطورة يعرِّض جميع الدول العربية ومنجزاتها للدمار من دون أن يكون لهذه الدول أي رأي أو قول". وهكذا كانت "السعودية" تخلي مسؤوليتها عمّا حدث، وتعلن صراحة أنها في حل من بذل أي مساعٍ لوقف العدوان ما لم يتوقف حزب الله.
كان "الملك" يعي مسبقاً أنّ استمرار تحسّن العلاقات مع أميركا هو شرط أساسي يجب أن يتزامن مع استخدام جزرة السلام مع "إسرائيل"، بعدما قرّر العرب منذ عقود، على الأقلّ من الناحية الرسمية، وضع العصا جانباً. جاءت حرب لبنان لتطيح آماله بالسلام. وكان منطقياً أن يكون الملك غاضباً، لا لأنّه أدرك للوهلة الأولى أن مشروع السلام أبعد من الواقع، بل لشعوره بأنّ فكرة الريادة السعودية باتت في خطر.
ظهرت وثيقة صادرة عن القنصلية الأميركية في جدة استدعاء وزير الخارجية السعودي السفير الأميركي من الرياض إلى جدة، لحثّ وزيرة الخارجية الأميركية في حينه، كوندوليزا رايس، على الدعوة إلى وقف إطلاق النار في لبنان. أما الهدف الرئيسي من الدعوة، فلخصه الفيصل للسفير بالقول "أتمنى أن تطلبواً وقفاً لإطلاق النار وأن تتركوا حزب الله يرفضه. عندها سيكتشف الجميع حقيقة حزب الله بأنه خارج عن القانون". ويضيف الفيصل "بدلاً من ذلك أنتم تحوّلون حزب الله إلى أبطال، حزب الله يقول للّبنانيين أن يصمدوا أسبوعين إضافيين وسيحقق لهم النصر الكامل". وفي الوثيقة نفسها اقترح سعود الفيصل رداً على سؤال من السفير الأميركي عن أي خطوات محدّدة يوصي بها، "وضع مزارع شبعا تحت وصاية الأمم المتحدة"، معتبراً أن ذلك "سيقود إلى نزع سلاح حزب الله، لأنها آخر بقعة لبنانية محتلة".
7 أيار 2008:
شنت حكومة فؤاد السنيورة في العام 2008 هجوما مركّزا ضد شبكة الاتصالات التابعة لحزب الله على مدى أشهر، واتخذت في السراي الحكومي، في الخامس من أيار عام 2008، قرارا مزدوجا قضى بنزع الشبكة التابعة لحزب الله وإقالة جهاز أمن المطار وفيق شقير. جاءت التعليمات بالمضي باتخاذ القرارين أيا تكن التداعيات. وبناء عليه، وبعد اجتماع استمر حتى فجر اليوم التالي، صدر بيان عن الحكومة:" أن مجلس الوزراء قرر اعتبار شبكة الاتصالات الهاتفية التي أقامها حزب الله غير شرعية وغير قانونية وتشكل اعتداء على سيادة الدولة والمال العام". وأعلنت الحكومة "إطلاق الملاحقات الجزائية ضد جميع الأفراد والهيئات والشركات والأحزاب والجهات التي تثبت مسؤوليتها في مد هذه الشبكة"، الأمر الذي دفع بالانفجار الشعبي إلى الواجهة يوم السابع من أيار.
شكلت أحداث 7 أيار 2008 محطة مفصلية بالنسبة إلى «الاستثمار» السعودي في لبنان: دُفعت طوال ثلاث سنوات مئات ملايين الدولارات، فكانت النتيجة سيطرة حزب الله على العاصمة في وقت قياسي. إذا عدنا إلى وثائق "ويكيليكس" التي نشرتها "الأخبار" قبل سنوات، فإن سمير جعجع قام في التاسع من أيار 2008 بزيارة مسائية «مفاجئة» للسفارة الأميركية في عوكر، "طرح خلالها فكرة نشر قوات عربية لحفظ السلام في لبنان عديدها 5000 جندي"، مؤيداً الطرح السعودي في هذا الشأن. وقالت القائمة بالأعمال الأميركية ميشيل سيسون في برقيتها: "أبلغنا جعجع أن لديه بين 7000 إلى 10000 مقاتل على استعداد للتحرك"، مضيفاً: «لكننا بحاجة إلى دعمكم للحصول على الأسلحة" عبر "عملية الإمداد البرمائية". على الهامش، طلب جعجع من سيسون "دعم (رئيس الحكومة فؤاد) السنيورة طوال الطريق"، و"رفع معنويات" سعد الحريري ووليد جنبلاط.
في 15 أيار، كتبت سيسون أن حكومة فؤاد السنيورة ألغت في 14 أيار قرارَيها الشهيرين بمصادرة شبكة الاتصالات التابعة لسلاح الإشارة الخاص بـ"حزب الله" وإقالة قائد جهاز أمن مطار بيروت الدولي العميد وفيق شقير، وأنه اتُّفِق على الذهاب إلى الدوحة في 16 أيار "لفتح حوار وطني يركز على تشكيل الحكومة وعلى قانون انتخابات جديد"، تمهيداً لإجراء الانتخابات النيابية وانتخاب رئيس للجمهورية. بعد انتخاب ميشال سليمان في 25 أيار 2008، دخل لبنان في "ستاتيكو الدوحة"، إلى أن جرت الانتخابات النيابية في عام 2009 بإدارة مالية وسياسية سعودية، أدارها الحريري وتجاوزت كلفتها المليار دولار، ونال منها سمير جعجع حصة وازنة في مواجهة خصم السعودية الأول مسيحياً: العماد ميشال عون.
يُعدّ "إتفاق الدوحة" الانتصار الثاني لقطر في تطويب دورها كوسيط وفاعل في الداخل اللبناني، بعد ان لعبت دورا فعالا خلال حرب تموز فترة "إعادة إعمار" الضاحية الجنوبية وغيرها من المناطق التي سجلت دمارا في البنى التحتية، هذا من جهة. من جهة أخرى، يمكن القول بأن العام 2008 يمثل التاريخ الرسمي لبدأ التضعضع "السعودي".
إحياء اتفاقية "السين- سين" : توازن هش:
في يوليو/ تموز 2009، أدى عبد الله بن عبد العزيز زيارة إلى دمشق، اصطحب بعدها الرئيس بشار الأسد إلى بيروت، حيث عقدت قمة ثلاثية مع الرئيس اللبناني ميشال سليمان، كانت بمنزلة إعلان عن طيّ لصفحة التوتر التي تسبب فيها اغتيال رفيق الحريري.
أتى ذلك بعد أن حقق تحالف 14 آذار في انتخابات عام 2009 فوزا على نظيره في الداخل بـ 71 مقعدا مقابل 57 للمعارضة بعد الضخ السعودي للمال، إلا أن التحالف السني المسيحي لم يتمكن من الظفر بالأغلبية لتشكيل الحكومة منفردا وضمان إيلاءها الثقة في البرلمان، الأمر الذي أوجب الاتفاق بين الطرفين للإتيان بسعد الحريري رئيسا للحكومة، كانعكاس واضح للتوافق بين سورية و"السعودية".
وكانت لافتة الحملة الإعلامية الاستباقية من جانب فريق "السعودية" في بيروت والخارج للحديث عن أن الملك عبد الله سوف يصطحب معه الرئيس الأسد إلى بيروت، في ما بدا أنه محاولة من هؤلاء للقول إن الرياث التي رعت الحملة اللبنانية والعربية والدولية التي أدّت إلى خروج الجيش السوري من لبنان هي التي تتولى الآن رعاية عودة سورية من خلال تولي عبد الله "توفير غطاء لزيارة الأسد".
إن سياسة التهدئة التي تبنتها الرياض مع دمشق تلتها أخرى لسعد الحريري بوصفه يد الرياض الطيّعة، في زيارة كانت الأولى منذ توليه السلطة في فبراير/ تشرين الثاني، واغتيال والده واتهامه سورية بالوقوف وراء العملية. وقد أردفها الحريري بتقديم اعتذارات ضمنية في سبتمبر/ أيلول 2010، عن "أخطاء سابقة"، وبتبرئة سورية من عملية اغتيال الحريري الأب.
لم تطفئ براغماتية "السعودية" في حقيقة الأمر نيران العلاقة بين العاصمتين، على الرغم من إعلان المصالحة، إلا أنها نقلتها إلى حلبة البرلمان اللبناني لتأخذ شكلا آخر لتقليل الخسائر المحققة "للمملكة" منذ العام 2008.
ولم يدم الود السعودي- السوري طويلا، حيث ما لبثت أن توجهت الأنظار اللبنانية، في يوليو/تموز 2010، إلى ما يسرب عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وجهوزيتها للإعلان عن إصدار قرار اتهامي يستهدف حزب الله سياسيا، حيث عبّر زعيم حزب الله "حسن نصر الله" في كلمة له ردا على مساعي الرياض للبحث في امكانيات صدور القرار قائلا:" هناك مؤامرة كبيرة على البلد وعلى المقاومة، تفضلوا لنتحاور، لا لنبحث عن مخرج، لا، والآن أعيد القول إننا لن نجلس مع أي أحد في هذه الدنيا إذا أراد أن يجلس معنا ليناقشنا على قاعدة أن أحداً من عندنا متهم ونريد أن نبحث عن مخرج، بل نحاور على قاعدة أن هناك شيئا يُعد، ولنرَ كيف نواجه الخطر معاً".
لم يكتم وزير الخارجية السعودي الأسبق سعود الفيصل موقفه المنتقد للحزب، حيث رأى أن " الأمر عادي جداً، ولماذا تكون هناك أزمة إن وجّه الاتهام إلى عنصرين أو ثلاثة عناصر من الحزب"، وسمع الفيصل ردوداً على كلامه كالتي سبق أن سمعها عبد العزيز والحريري من القيادة السورية والتي ركزت على "أن سوريا سبق أن جربت هذا الاتهام، الذي جرّ ويلات على لبنان وعلى سوريا أيضا، وخصوصا أنه اتهام باطل".
وفي موقف آخر سجل لفيصل، عندما حذر من أنه "إذا وصلت الأمور إلى الانفصال وتقسيم لبنان، انتهى لبنان دولة تحتوي على هذا النمط من التعايش السلمي بين الأديان والقوميات والفئات المختلفة". وفي أول تعليق يصدر من بلاد الحجاز على انتهاء المبادرة السورية-"السعودية"، قال الفيصل إن بلاده رفعت يدها عن "الاتفاقات" التي كانت المبادرة تسعى للتوصل إليها. كلام أخذ أبعادا خطيرة في الداخل اللبناني، خاصة أنه صدر في اللحظة التي كانت تقود فيها كل من تركيا وقطر مبادرة "إستلحاقية"، تحت مظلة المسعى السوري- السعودي، للتوصل إلى حل يضمن الاستقرار في لبنان.
وإزاء رفض حزب الله فتح أبواب التسوية في ملف لا يقبل إلا الحوار منطلقا لمقاربته، انسحب وزراء المعارضة (8آذار) من حكومة سعد الحريري، في 2 يناير/كانون الثاني 2011، إلى جانب الوزير المحسوب على رئيس الجمهورية عدنان السيد حسين، ما جعلها مستقيلة حُكما.
وفي اجتماع لممثلين عن المعارضة في منزل رئيس تكتل التغيير والإصلاح النائب ميشال عون، أعلن وزير الطاقة وعضو التيار الوطني الحر حينها، جبران باسيل، أنه نظرا "لتعطيل الفريق الآخر الجهود التي بذلت لمعالجة هذه الأزمة وخضوعه للضغوط الأميركية وكذلك لتعطيله مصالح المواطنين".
ارسال التعليق