استقالة الحريري .. السعودية أولاً ولبنان ثانياً!
أن يستقيل رئيس الحكومة اللبنانية من منصبه، وخاصة إذا كان سعد الحريري، فهو أمر ليس بالمفاجئ، ولكن أن تكون هذه الاستقالة وظروفها وخلفياتها متعلقة بمبادئ سيادة واستقلال القرار اللبناني، وفي نفس الوقت تتم في بلد أخرى وعبر منبر خارجي، وتأتي، فهي مفارقة ليست أيضاً بغريبة على المنطق اللبناني وسيرة المستقيل ومنهجية رعاته، الذي طالما تشدق بعبارة “لبنان أولاً”!
بعد عام بالتمام والكمال، يتقدم الحريري بالاستقالة من منصبه إثناء تواجده في السعودية مثلما كان عند تكليفه به، وعبر قنواتها الإعلامية. وبهذا تطلق الرياض عبر رئيس وزراء لبنان “السابق” سعد الحريري، الرصاصة الأولى في مسار تأزيم الداخل اللبناني في المستقبل القريب كبداية لعودتها إلى هناك بعد عامين خسرت فيهما نفوذها في لبنان كجزء من خسارتها لنفوذها الخارجي؛ فبقلب الطاولة على الجميع، كما بدا لها باستدعاء الحريري وجعله يستقيل من أراضيها، أو قلبت الطاولة على نفسها كما يبدو للبعض، الذين رأوا أن المملكة خلال العاميين الماضيين خسرت نفوذها في لبنان، حتى مع وجود تسوية جعلت الحريري في أهم منصب تنفيذي. لتنقل الأزمات اللبنانية الداخلية من حيز التسويات الصعبة إلى حيز التهديد بأزمة اقتصادية وحرب تعاني منها الدولة اللبنانية والشعب اللبناني، وتعرض كذلك المرجعية الأساسية للتوافق الداخلي للخطر، ونعني بها اتفاق “الطائف”، الذي بات على المحك بدفع من راعيته الأصلية، السعودية.
المناخ الراهن حالياً في لبنان، التي تأتي فيه الاستقالة، لا يمكن فصل داخله عن خارجه بطبيعة الحال في بلد التسويات والصفقات والموائمات والمناورات السياسية المتأثرة والمؤثرة في الخارج؛ فلبنان تمثل مرآة المنطقة التي تشهد احتدام الصراع بين محاورها، والذي يشهد تصعيد جديد بقيادة أميركية عبر قوانين عقوبات يسنها الكونجرس الأميركي تمس مئات الآلاف من اللبنانيين، وحلف جديد/ قديم بقيادة السعودية وإسرائيل يستهدف أحد مكونات المجتمع اللبناني ككل، ويشكل في نفس الوقت على مقياس إقليمي حلقة قوية ضمن المحور المقابل لهما
لا يشذ هذا السلوك عن منهجية السعودية في سياساتها الخارجية في الأعوام الأخيرة تحديداً؛ ممثله في الارتجال والعشوائية والهروب للأمام وقلب الطاولة، وإن وضعت هذا في إطار التوافق مع الإدارة الأميركية الحالية، وهنا السؤال: هل هذا يتعلق بأن السعودية تعلن عدوان على لبنان عبر وكلاؤها هناك أم تفجر قنبلة أخيرة قبل أن تطوي صفحة نفوذها في لبنان؟ في الواقع أن العام الماضي في بدايته شهد انخفاض نفوذ السعودية في لبنان لدرجة غير مسبوقة منذ اتفاق الطائف، ولم يعادل هذا الانخفاض أو يكبح سرعته سوى توافق داخلي/خارجي عاد الحريري من خلاله إلى منصب رئيس الحكومة ليعادل أن يكون ميشيل عون، حليف حزب الله، في منصب الرئاسة، والأن بعد أن أخفقت الرياض عبر الحريري في معادلة هذا التوازن بما يخدم مصالحها فأنها لجأت إلى تفجير الوضع، في وقت يترصد لبنان عقوبات اقتصادية عنوانها العريض استهداف المقاومة وبنيتها الاقتصادية وبيئتها الاجتماعية.
فيما يخص خطاب الاستقالة، فإن الخارج تغلب على الداخل من حيث مسوغات الاستقالة، التي هي أبعد ما يكون عن لبنان ومصلحته وصونه، حيث شمل الخطاب المعد سلفاً الإشارة لدور إيران في المنطقة والعالم بخطاب سعودي، وكأن مبررات الاستقالة الحريرية على رأسها دور إيران في “شمال أفريقيا والعراق وسوريا والكويت واليمن والبحرين” بتعبير الحريري الذي أضاف حول مبررات استقالته خشيته على “الأمن الإقليمي العربي ورفض الوصاية الإقليمية الإيرانية” وكأن استقالته من الرياض وما سبقها لا يتعلق بوصاية سعودية عليه وعلى تياره وفريقه السياسي، وعلى لبنان بصفته كان رئيس حكومتها!
الجديد أن الحريري يتبنى هذا الخطاب السعودي بشكل صريح ليس فيما يتعلق بلبنان فقط، ولكن فيما يتعلق بالمنطقة، وربط هذا بما يحدث أو ما سيحدث في لبنان، بصياغة أعدها وزير الدولة لشئون الخليج في السعودية، ثامر السبهان، الذي اضطلع على مدار الشهور القليلة الماضية بشن هجوم على حزب الله والرئيس اللبناني بنفس المصطلحات تقريباً التي أتت في خطاب استقالة الحريري، حيث أتت مسببات الاستقالة كلها معولة على إيران وليس من أجل لبنان، وحصرها بلغة سعودية على أن رئيس الحكومة اللبنانية يرى في حزب الله أنه ذراع إيران العسكري في لبنان ومسبب للمشاكل في عدد من دول المنطقة، وليس كونه مكون أساسي في المجتمع والبرلمان والحكومة اللبنانية.
هنا ينقلب الحريري في مسافة 24 ساعة على خطاب التسوية، فبعد عودته من السعودية أمس الأول، ولقائه بمستشار المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية، علي ولايتي، يذهب اليوم للسعودية ويتبنى مفردات التصعيد السعودي ضد إيران وحلفائها، وذلك يناقض الخطاب السياسي الداخلي الذي لاءم التسوية، والذي انتقده رموز تيار المستقبل، مثل الوزير أشرف ريفي، الذي مثل وغيره من ضمن تيار المستقبل “صقور” السعودية في لبنان، ليأتي الحريري اليم ويعود لموقعه الطبيعي خارج التسوية والتفاهم الداخلي، وينقل الصراع من صياغته اللبنانية إلى صيغة سعودية تشمل صراعها الإقليمي مع إيران، وهو ما يفتح مجال للعديد من علامات الاستفهام والتعجب حول كواليس الساعات الأخيرة للحريري في السعودية، ومآلات عودته للبنان مستقبلاً، وكذلك الاحتمالات السعودية التي وضعت أمامه لتجعله يتبنى بهذا الشكل الأقرب للإذعان للخطاب السعودية، كذا وموقعه في الاستراتيجية السعودية الراهنة، والتي يبدو أنها تصعيديه وتقلب الطاولة وتميل إلى مزيد من التصعيد، ويصطف معها الحريري ضد “وطنه” لبنان، على حساب جنسيته السعودية!
إذن الأمر لا يتعلق بلبنان، فخطاب الحريري لوحده كافي بإثبات أن الأمر لا يتجاوز السير في منهجية السعودية في صراعها مع إيران، ولبنان كساحة أولى لهذا الصراع تشهد تصعيد منطقي يبتعد عن ركاكة الخطاب الوطني والسيادي الذي تشدق به الحريري، فرئيس وزراء لبنان الذي يحمل الجنسية السعودية كوالده، تصرف كواحد من الأسرة السعودية، بتعريض بلاده لأزمة داخلية تضاف إلى سجل الأزمات المتفاقمة، ويدخلها في فراغ حكومي كالفراغ الرئاسي الذي انتهى بتولي عون الرئاسة مقابل تولي الحريري رئاسة الوزراء، ويضاف إلى السابق تسويقه الحالي لعدوان جديد على لبنان، سواء كان عدوان اقتصادي أو عسكري، أو حتى التهديد به والموافقة عليه، وهو أمر ليس بغريب على فريق 14 آزار الذي وقف على “الحياد” في حرب 2006.
وبعيداً عن إمكانية تحقق السابق من عدمه، بدأت الآلة الإعلامية السعودية بالتمهيد له، فأعلنت قناة العربية أن ولي العهد، محمد بن سلمان، أوعز للقادة العسكريين للتحالف العسكري الذي تقوده المملكة، والذي عقد رؤساء أركانه اجتماع في السعودية الأسبوع الماضي، مناقشة شن حرب ضد حزب الله في لبنان، عبر ضربة عسكرية تستهدفه، استكمالاً لمسار العاميين الماضيين الذي سعت فيه السعودية لتعميم تجريم المقاومة في لبنان ووصفها بأنها إرهابية في الجامعة العربية وغيرها من الأطر الإقليمية والدولية، في توافق وتنسيق مع إسرائيل، التي اعتبرت وقتها ما أقدمت عليه وتقوده الرياض كنز استراتيجي. ولكن هنا لإسرائيل حسابات أخرى بخلاف التعجل والارتجال السعودي، فحتى كتابة هذه السطور تأتي التقديرات العسكرية والأمنية في الكيان الصهيوني مؤجلة احتمال الحرب طالما كان واشنطن غير شريك فيها بشكل مباشر، وحتى إن كان هذا بغطاء عربي تقوده السعودية، أو حتى تحالف بينهما يتجاوز الدعم السياسي والإعلامي للتحالف العسكري.
بقلم : إسلام ابو العز
ارسال التعليق