الإصلاح الاقتصادي في السعودية.. أمراء ريتز كارلتون نموذجاً
يعود فندق “ريتز كارلتون” الرياض إلى العمل بشكل اعتيادي بداية الأسبوع القادم، وذلك بعد 3 أشهر من تحويله لسجن مؤقت لعشرات الأمراء ومسئولين ورجال أعمال سعوديين مطلع نوفمبر الماضي، أبرزهم الوليد بن طلال ومتعب بن عبدالله ووليد الإبراهيم وسعود الدويش وإبراهيم العساف، والذي جرى إطلاق سراحهم على مدار الأيام الماضية بعد تسوية مالية أولية قدرتها جهات قضائية سعودية بما يتجاوز 100 مليار دولار أميركي.
وفي وقت سابق مطلع الأسبوع الماضي، صرحت هذه الجهات الرسمية السعودية أن هناك أكثر من 350 من “الشخصيات المرموقة” سيتم استدعائهم للتحقيق وكشهود فيما يخص الاتهامات الرسمية الموجهة لأكثر من 180 أمير ومسئول سعودي تورطوا في قضايا فساد مالي على مدار العقود الماضية في المملكة. وبحسب نفس المصادر أن هناك 96 شخص مازالوا قيد الاعتقال، فيما تم الافراج عن 90 منهم بعد موافقتهم على تسوية مماثلة لتسوية محتجزي ريتز كارلتون.
وفيما تتعامل الرياض بمختلف مؤسساتها أن هذه الحملة التي شملت مئات من المسئولين والأمراء البارزين تأتي ضمن توجيهات الملك سلمان لمحاربة الفساد، فإن المقابل لهذه الرواية هو أن هذه الحملة تأتي ضمن مسلسل الصراع داخل المملكة وخاصة داخل العائلة المالكة، وفي إطار حسم العرش لصالح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والذي فيما بدا خلال الشهور القليلة الماضية يسعى، حسب مراقبين، إلى تقليص فرص ونفوذ العائلة المالكة السعودية إلى الحدود الدنيا، وحصر القوة والسلطة في الدائرة الأضيق من العائلة التي يبلغ تعداد المنتسبين إليها أكثر من 10 ألاف فرد، وتفادياً لأي قلاقل مستقبلية خاصة بمآلات انتقال الحكم إلى الجيل الثاني من آل سعود، وتحديداً في نسل سلمان بن عبد العزيز ونجله، أي حصر الحكم في فرع وحيد وبشكل حصري مستقبلاً كبديل لعرف انتقال الحكم من الأخ إلى أخيه –بين أبناء عبد العزيز- إلى انتقاله من الأب إلى أبنه بشكل وراثي يؤدي إلى تقليص نفوذ وثروة ما تبقى من أفرع العائلة وأمرائها البارزين أياً ما كان موقعهم من الصراع على العرش، الذي حسمه بن سلمان العام الماضي، حينما تم إعفاء ولي العهد السابق والمنافس الأبرز لبن سلمان، الأمير محمد بن نايف.
وبخلاف الادعاءات الرسمية أن توقيف الأمراء والمسئولين ورجال الأعمال تصدياً لفساد مالي، فإن البعض يعتقد أن ما جرى تم في إطار خطوة استباقية من جانب بن سلمان لإجهاض أي تحرك مستقبلي ضده وضد سياساته الداخلية والخارجية، وخاصة بعد انتقال الحكم له، أي إجهاض أي تكتل لمعارضيه داخل الأسرة الحاكمة وخارجها، وهو ما يستمر حتى الأن بعد انتهاء أزمة الريتز كارلتون، التي فقط انتهت بشكل إعلامي، ولكن بقى الباب مفتوحاً بالملاحقات القانونية لعشرات من الأمراء والمسئولين لازالوا قيد الاعتقال والتحقيق، بالإضافة إلى ملاحقة تأديبية من نوع خاص ضد أمراء آخرين احتجوا على احتجاز أمراء الريتز كارلتون، وأخرهم 11 أمير تم ايداعهم سجن الحائل سيء الصيت في السعودية.
هذه الحادثة التي قد لا تتساوى من حيث الأسماء والمواقع التي شغلها أمراء “الريتز كارلتون”، تشي بأن التوترات داخل آل سعود تجاوزت مسألة حسم العرش لصالح بن سلمان، وانتقلت إلى محاولة ضمان بقاء الحكم في سلالة ولي العهد دون عن باقي العائلة، أي تقليص دائرة “العائلة المالكة وقصرها على نسل أخر ابن من بين أبناء الملك المؤسس، عبد العزيز بن سعود، وإقصاء باقي الأمراء من جيل الأحفاد بعيداً ليس فقط عن السياسة والحكم، ولكن من الحصانة القانونية والاجتماعية، وكذلك الامتيازات المادية التي تصاحب لقب “آل سعود” المتذيل لأسم أي من منتسبيها، وهو الأمر الذي يجعل الصراع داخل العائلة ليس مجرد صراع على الحكم بين الأمراء البارزين من جيل الأحفاد مثلما كان في السنوات الأخيرة، ولكن ينقله إلى مستوى أخطر مفاده إعادة هيكلة العائلة المالكة السعودية إلى سليمانية!
في هذا السياق، تشير صحيفة “لوموند” الفرنسية في عددها الصادر أول أمس، أن ما حدث في السعودية لم ينتهي بالإفراج عن أبرز الأمراء مثل الوليد بن طلال، ولكن الأمر يبدو أنه مستمر كآداة ترهيب تجمع بين الملاحقات بداعي الفساد، والتي تلقى تأييد من أطياف واسعة من السعوديين، وبين ما أسمته الصحيفة بـ”إجراءات انقلابية” بررتها بأن ما يحدث في المملكة في الشهور الأخيرة أبعد ما يكون عن التحقيق في قضايا فساد، سواء في طريقة الاحتجاز وآلياتها، أو في مآلات التسويات المالية التي لم تخضع لأي إطار قانوني واضح، مما يجعلها في رأي الصحيفة الفرنسية مجرد حلقة من حلقات الانقلاب “السليماني” على باقي العائلة السعودية.
ومن ناحية أخرى فإن استخدام بن سلمان للترغيب والترهيب تجاه أبناء عمومته ليصل إلى ولاية العهد بانقلابات متتالية بدأت منذ وفاة الملك عبدالله وحتى حادثة الريتز كارلتون لم تضمن له انسجام على مستوى الأسرة للقبول بالأمر الواقع، خاصة مع تشويه صورة الأمراء المحتجزين على أنهم فاسدين وضد التحديث وضد مصلحة المواطن السعودي، وإمعاناً في إذلال بعضهم مثل إيداع الـ11 أمير سجن الحائر سيء الصيت، مما يعني رسالة ضمنية من بن سلمان إلى باقي أمراء الأسرة السعودية بأن أي اعتراض على ما يقوم به لن يتوقف عند المنع من السفر أو الاعتقال المنزلي أو حتى الاعتقال في الريتزكارلتون، ولكن قد يصل بهم الحال إلى سجن الحائر وربما ما هو أكثر.
من جهته، يرى الباحث المتخصص في الشأن السعودي ومدير برنامج سياسات الخليج بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، سايمون هندرسون، في مقال له بصحيفة “ذي هيل” الأميركية أن السعودية لم تتوقف عن إدهاش العالم بعشوائية ولامنطقية الاجراءات الأخيرة سواء في ادعاءات احتجاز الأمراء –مثل الوليد بن طلال- وكذلك الإفراج عنهم، بلا أي إطار قانوني به الحد الأدنى من المعقولية والموضوعية والشفافية، وسواد حالة من العرفية في تسوية هكذا موقف، يراه البعض أبعد من صراع سياسي على الحكم، وأقرب إلى استحواذ بحكم “الحق الملكي” على ثروات وأملاك هؤلاء الأمراء، ويضيف هندرسون أن هناك ما يشي بأن حالة الوليد بن طلال على وجه الخصوص تكتنفها حيثيات اقتصادية أكثر من كونها سياسية، حيث عدم طموح الأمير الملياردير إلى الحكم بأي شكل، نظراً لعدم توفر بديهية نقاء نسبه إلى العائلة –والدته لبنانية الجنسية- مثل ولي العهد السابق مقرن بن عبد العزيز، والذي أطيح به من منصبه بعد شهور قليلة من تعيينه الذي كان بمثابة مرحلة انتقالية بين جيل الابناء والأحفاد فيما يخص منصب ولاية العهد. ولهذا يرى الباحث أن حالة الوليد بن طلال تمثل نموذج للتحول الاقتصادي الذي تمر به المملكة، والذي بشكل مجرد على الرغم من أرقامه الفلكية لا يخرج عن تكثيف ثروة آل سعود وباقي الأسر البارزة في مجال الأعمال ومنتسبيها في يد شخص الملك القادم، محمد بن سلمان.
وبشكل عام، فإن حسم بن سلمان المطلق لكافة العوائق الراهنة والمستقبلية لا ينم عن قوة مؤسسية في الحقبة الجديدة لحكمه شبه المحسوم، ولكن تعني ضعف البنية المؤسساتية في المملكة كحامل لما يفترض أنه “إصلاح اقتصادي” يشكل شعار بن سلمان الأبرز، والذي يتعامل مع مئات المليارات من الدولارات على نمط القرون الوسطي، وكأنه مُلك خاص به، بعيداً حتى عن الإطار التقليدي الجامع بين العائلة المالكة وبين طبقة رجال الأعمال والأسر والقبائل البارزة في السعودية. والذي بشكل متسارع كُشف عن مدى هشاشة هذا الإطار بمؤسساته المختلفة، والتي كشفت في النهاية أنها هياكل تنظيمية بدائية لتوزيع عائدات ريعية حسب ولاءات شخصية وقبلية، وليست دولة مؤسسات حديثة كما يجري الترويج والدعاية لها مؤخراً.
وبمعزل عن هزلية مناقشة الإصلاح السياسي في المملكة والاكتفاء بإلقاء نظرة قريبة على ما أسموه هناك بـ”الإصلاح الاقتصادي”، فإن أحداث الشهور الأخيرة في السعودية تكشف أنها تمر بمرحلة شديدة الفردية على نمط ممالك العصور الوسطى، الملك فيها يملك كل شيء وأي شيء في كافة المجالات والقطاعات كصوت واحد متفرد بكافة القرارات المصيرية لحاضر ومستقبل مملكة آل سعود، التي بات من اللائق تغيير أسمها إلى المملكة السليمانية التي يؤسسها محمد بن سلمان في السنوات الثلاث الماضية.
بقلم : إسلام ابو العز
ارسال التعليق