الشام بين العثمانيين والوهابيين... ما أشبه اليوم بالأمس
علي مراد
تدخل سوريا بعد أشهر قليلة عامها السابع من عمر أزمتها التي انخرط فيها كل دول العالم تقريباً. الصراع بين محورين في الظاهر، وداخل كل محور دول، لكل منها مصالحه الخاصة. في محور واشنطن، دول إقليمية كان لها تاريخ في بلاد الشام عموماً، وسوريا خصوصاً.
تأثر السوريون بفترة حكم العثمانيين لبلادهم ــ كما كل شعوب بلاد الشام ــ على مدى خمسة قرون من الزمن. لا يمكن لمستعمر جثم على أرض ما، أن يرمي تاريخ استعماره لهذه الأرض وراء ظهره بكل بساطة، حتى وإن قرّر أن يغيّر جلده وهويته. هذا ما أثبته الأتراك حاضراً، بعد أكثر من 80 عاماً على تحولهم إلى العلمانية الأتاتوركية، فهم اليوم لاعب أساسي في سوريا انطلاقاً من دوافع سياسية أيديولوجية، ينطلقون من فكرة النيوعثمانية التي طرحها «تيرغوت أوزيل»، الرئيس التركي مطلع تسعينيات القرن الماضي. الفكرة لا يمكن أن تترجمها الظروف إلى واقع، من دون الركون إلى أساليب ترتبط بالضرورة بعوامل القوة الداخلية وحجم القوى الأخرى المحيطة بتركيا. كان لا بد من تبني أيديولوجيا دينية تقبل وتطمح لعودة الخلافة لتمتين القوة الداخلية التي توفرت بعد فوز حزب «العدالة التنمية» في انتخابات عام 2002. استقطب أردوغان «الإخوان المسلمين» في الإقليم، للاتكاء على حاضنة تاريخية واسعة الانتشار تتيح له ترويج مشروعه في العالم العربي، أرضية مشروع السلطنة الجديدة.
يدرك أردوغان أن خيار التصادم المباشر مع السعودية لن يؤتي أكله لكن في الإقليم هناك قوة أخرى، تنافسه بشراسة في الحاضنة المذهبية لمشروعه. ظهر السعوديون في أطراف أرض هي مهد الدين الإسلامي، ويسيطرون على مصدر الشرعية الدينية في مكة والمدينة. يدرك أردوغان أن خيار التصادم المباشر مع هذه القوة لن يؤتي أكله، مع الأخذ بعين الاعتبار أن السعوديين بوهابيتهم التوسعية المتسلحة بأموال النفط ــ الذي لا يملكه أردوغان ــ استطاعوا أن يزرعوا قبل عقود بذور الأيديولوجيا التي أثمرت حاضراً، نفوذاً في البيئة نفسها التي يستهدفها أردوغان. هذا الواقع حتّم على الأتراك أن يتعاملوا مع آل سعود بأسلوب ناعم، ينسجون معهم علاقات من بوابة الاقتصاد حيناً ويتقرّبون إليهم من باب المصلحة المشتركة في التصدي لإيران وتأثيرها تارة أخرى. ينافس أردوغان السعوديين بالوكالة وليس بشكل مباشر، وقد برزت هذه المنافسة على أرض سوريا على مدى خمسة أعوام من الحرب الدائرة هناك. صحيح أن النظامين التركي والسعودي تعاونا في الشمال السوري بشكل أساسي، إلا أن تنافسهما ظهر للعلن في خلافات المجموعات المسلحة المحسوبة على كل منهما واقتتالها فيما بينها. لكل من النظامين مشروعه الخاص في سوريا، ويمكن القول إن أردوغان استغل حاجة السعوديين إلى حدوده الطويلة مع سوريا، ليزوّدوا الفصائل التابعة لهم بالإمداد والسلاح والعناصر، وحكماً لم يكن المقابل صفراً، بل عقود واستثمارات وتسهيلات للأتراك في الخليج وتدفق استثمارات خليجية إلى تركيا. جزء من تاريخ صراع الكيانين لم يظهر كما ينبغي إلى العلن، أو كما يعتبر المستشرق الفرنسي «لويس دو كورانسي» جُهّل عمداً. يذكر «دو كورانسي» في كتابه «تاريخ ما تجاهله التاريخ» تفاصيل مرحلة اضطرت فيها السلطنة العثمانية أن تطوّع من مبادئها إرضاءً للوهابيين لخدمة مصالحها التي كانت على حساب رعاياها من السوريين، الذين تعاملت معهم كعبيد أو كأثاث يمكن لها في أي لحظة أن تقرر أن عليهم أن يتغيروا في ممارستهم لحياتهم اليومية إرضاءً لمصلحة «الإرادة السنِية». في موسم حج عام 1807، كان أمير الدولة السعودية الأولى سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود قد منع قافلة الحج الشامي التي يرأسها والي دمشق من الدخول إلى الحجاز، وتعهد بأن لا يسمح لها بالدخول الى الأراضي المقدسة لأنه ــ كما أتباعه ــ اعتبر حجاج رعية السلطان في بلاد الشام كفاراً. حاول والي دمشق «يوسف باشا» البحث عن حل لعودة موكب الحج بأي طريقة ممكنة. اعتقد «الباب العالي» في اسطنبول أن المال سوف يحل المشكلة، فعرض 400 كيس من الذهب كانت تُخصّص لوالي دمشق ليصرفها على زاد قافلة الحج في طريق عودتها من مكة، وكانت قيمة الرشوة هذه كبيرة جداً في حينه، الأمر الذي جعل الباب العالي يعتقد أن سعوداً سوف يقبل بها مقابل سماحه بدخول قافلة الحج وحمايتها في طريق عودتها إلى الشام. لكن الأمير الوهابي رفض العرض وأصرّ على موقفه، ما دفع اسطنبول إلى التشاور مع واليها في دمشق وإعطائه كامل الصلاحيات في سبيل الوصول الى طريقة تحل المشكلة. لم يجد يوسف باشا أي حلّ للمعضلة سوى أن يتحول أهل الشام كلهم إلى وهابيين.
اعتقد الوالي العثماني ــ الكردي الأصل ــ أنّه إذا تظاهر بأنه يميل إلى العقيدة الوهابية، فإن الأمير السعودي سوف يلين من موقفه ويسمح للقافلة بدخول مكة والمدينة. أصدر يوسف باشا قبيل انطلاق موكب الحج في كانون الثاني عام 1808 أوامر عدة وفرمانات كانت جديدة على المجتمع ولم يألفها الناس من قبل. قرر الوالي أن يتشدد في أمور الاختلاط بين الرجال والنساء في الأسواق والمجالس والخانات، وأمر بإقفال الأسواق والبازارات في أوقات الصلاة، ومنع شرب النبيذ وغيره من المسكرات. فرض على المسيحيين واليهود علامات فارقة تميّزهم عن سائر الناس، وأجبرهم على ارتداء الألبسة الداكنة والأحذية الخاصة، وأُمروا أن يقفوا أمام الأتراك بوضع الاحترام الزائد. أصدر الوالي أمراً يقضي بحرمان المسيحيين وغيرهم من غير المسلمين من تعليم أولادهم أصول الدين، وإجبارهم كما المسلمين على ترك لحاهم، وكان يحكم على الحلاق بقطع يده إذا ثبت أنه حلق ذقن أيّ كان. كانت هذه الأنظمة والقوانين الجديدة تطبّق بشدة وغلظة، وكان المخالفون يخضعون لأقسى العقوبات، وقد أوقف مسيحي وشُنق عند نشر هذه الأنظمة لأنه كان يحتذي حذاءً أصفر اللون، فيما نجا أربعة من العقوبة بإشهارهم إسلامهم. بهذه الإجراءات التي اعتقد يوسف باشا أنها ستجعل الوهابيين يقتنعون بأنه بات يعتنق مبادئهم، ساد اعتقاد بين الدمشقيين بأن الوالي فعلاً تحوّل إلى الوهابية، وسرت أحاديث عن إعلانه أنه سيشهر عقيدته المتوهْبِنَة هذه في أقرب فرصة. ظهر في بادئ الأمر أن الوهابيين صدّقوا توجّه الوالي، إذ أرسلوا سرية انتظرت على بعد ثلاثين ميلاً جنوب دمشق لاستقبال القافلة ومرافقتها في الصحراء. تركت القافلة دمشق في كانون الأول عام 1808، وكانت في حالة يرثى لها، من دون رايات ولا أسلحة ولا موسيقى على عكس ما درجت عليه عادة قافلة الحج الشامي، وكان تعداد الحجاج لا يتعدى 350 شخصاً، بعدما كانت في أعوام سابقة تعدّ بعشرات الآلاف. ما أن وصل الحجاج الى «بركة ست زبيدة» (شمال السعودية حالياً)، حتى أُمروا بالرجوع بناءً على تعليمات سالم بن سالم الذي كان سعود قد عينه لقيادة القافلة، وانقضّ الوهابيون على كنز صرّة القافلة وصادروه، وكان مبلغاً مهماً.
هكذا انتهت آخر محاولات العثمانيين للذهاب إلى الحج، إلى حين انكسار الدولة السعودية الأولى في الحجاز على يد جيوش محمد علي باشا ابتداء من عام 1811. في السادس من كانون الثاني عام 2016 كان رئيس السلطة الدينية في تركيا الشيخ محمد غورماز يزور الرياض على رأس وفد تركي كبير. التقى الضيف التركي بمفتي السعودية عبد العزيز آل الشيخ، وخلال اللقاء اقترح غورماز على نظيره السعودي أن تساهم الحكومة السعودية في بناء مدارس وجامعات للاجئين السوريين في المحافظات التركية الجنوبية التي يوجدون فيها. لطمأنة السعوديين وترغيبهم، زاد غورماز في عرضه عليهم بأن تقوم الرياض بالإشراف على وضع المناهج التعليمية في هذه المدارس والجامعات، بخاصة أن السعودية «لديها خبرة واسعة ورائدة في مجال افتتاح المدارس حول العالم، ووضع مناهج تربوية تراعي التعاليم الإسلامية»، وفق تعبير الضيف التركي آنذاك. بين عامي 1808 و2016، يكاد التاريخ يعيد نفسه، فالعثمانيون بانتهازيتهم قد عادوا، والوهابيون المتعطشون للتمدد وتلويث العقول ما زالوا موجودين، وبين الجهتين، شعب يكتوي بنار المصالح الأيديولوجية مرتين.
* صحافي لبناني
ارسال التعليق