باحث استراتيجي :ألم يحن لآل سعود ان يحكموا لغة العقل مع العرب
نبيل نايلي
المنعطف الذي تمرّ العلاقات الخليجية اللبنانية بات يمثّل منعرجا خطيرا ونقطة تحوّل جيوسياسي فارقة لن تنعكس مضاعفاتها الخطرة والمدمرة على الجمهورية اللبنانية، بتركيبتها الداخلية المعقّدة، فحسب، بل تتعدّاه إلى مجمل ما تبقى من خارطة الدم الجديدة التي تشكّلها شتى أصناف الحروب التي يخوضها أبناء هذه الأمة في حروب الوكالة تارة ، Proxy Wars، وطورا في حروب الجيل الرابع، Fourth Generation Asymmetric Warfare ، إلى حروب المسالخ الكيانية والطائفية التي يؤجّجها من يحرّك بيادق رقعة الشطرنج في لعبة الأمم الكبرى التي تنتظر اقتسام حصصها من مقدرات هذه الأمة وثرواتها لحظة انهاك الأطراف جميعها وقبولها –صاغرة- بحلول “الأمر الواقع″ التي يفرضها الغزاة الذين عادوا بأثواب رجال الإطفاء،نهاية بالحروب الإقتصادية وسياسات التجويع والابتزاز أو الارتهان بالكامل!
أن تعلن 4 دول خليجية -على رأسها مملكة “سلمان الحزم”، بمعية الكويت والبحرين والإمارات، “المتضامنين معها”- منع سفر رعاياها إلى لبنان “حفاظا على سلامتهم”، وتأمر المقيمين هناك بالعودة فورا، بتعلّة أن الحكومة اللبنانية كان لزاما عليه أكثر من مجرّد “تحفّظ” وزير الخارجية اللبناني، جبران باسيل، على بيانين صدرا عن اجتماعين لجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي أدانا هجوم محتجّين ايرانيين على بعثات دبلوماسية سعودية في ايران، بعد أن أعدمت الرياض المعارض ورجل الدين “الشيعي”، نمر باقر النمر. وكأن على لبنان بتركيبته وخصوصيته التي يعرفها السعوديون أكثر من غيرهم، أن ينخرط في حرب الملهاة التي تخوضها السعودية ضد “رأس الأفعى”، كما يحلو لها تسمية ايران، دون تقدير للتوازنات في الجمهورية اللبنانية والعمل على حفاظ استقرارها الهش، وهم الأعرف باتفاقيات الطائف وما انجرّ عنها!! بيانات وزارات خارجية الدول الخليجية يأتي عقب اعلان الرياض، في التاسع من الشهر الجاري، عن وقفها منحة كانت تطوّعت بها “لتسليح الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، مقدّرة بحوالى 4 مليارات دولار”، وذلك في خطوة عقابية تبرّرها المملكة ب”عدم انسجام مواقف الحكومة اللبنانية مع العلاقات الأخوية، خاصة من حزب الله”! وعزمها “القيام بمراجعة شاملة لعلاقاتها مع الجمهورية اللبنانية”!
من عجائب “الدبلوماسية السعودية” الجديدة “الحازمة” أن تقدم على اتخاذ القرارات “التأديبية” الجماعية ضد كل اللبنانيين، ليتهم بعدها السفير السعودي في بيروت، علي عواض عسيري، “أحد كبار المسؤولين في الحكومة اللبنانية”، -في إشارة إلى وزير الخارجية اللبناني، جبران باسيل- “بارتكاب خطأين بشكل متتال تجاه المملكة العربية السعودية”، أزعجا المملكة وقيادتها، مطالبا هذه الحكومة، -بعد قرارت المملكة العقابية القاسية- بأن تعالج هذا الأمر “بحكمة وشجاعة”!! نفس الحكمة والشجاعة التي سارعت فيها وقف المساعدات وإقفال فرعيْ البنك الأهلي التجاري، أكبر المصارف السعودية الموجود في لبنان منذ اكثر من خمسة عقود! نفس “الحكمة والشجاعة” التي تدفع القيادة السعودية إلى التلويح بأنها وتحت عنوان عدم تجديد الإقامة، “بصدد اتخاذ اجراءات اضافية قد يطال بعضها ترحيل اللبنانيين العاملين في السعودية”!! نفس “حكمة وشجاعة” من سرّب أنه يعتزم التوجه إلى الجامعة العربية لإصدار قرار ضد حزب الله، “شرط تحقق الإجماع″، واعتباره تنظيماً إرهابياً! نفس “حكمة وشجاعة” من أوعز له أن يلمّح إلى “تسليح ميليشيات سنية” لمواجهة حزب الله، كل ذلك مع تأكيدات جازمة، من سعادة السفير عسيري، على “حرص المملكة كل الحرص على مصالح الشعب اللبناني أينما كان”!! معربا عن أمانيه الخالصة “ألاّ تصل –المملكة- الى هذه المرحلة –الترحيل- وأن تتخذ -الحكومة اللبنانية- اجراءات ترضي المملكة العربية السعودية وتنهي المشكلة”! ألم تقدّم المملكة مبادرتها “لسلام الشجعان” مع كلّ ما اقترفه الكيان الغاصب ولا يزال بحق إخوتنا في فلسطين؟ مبادرة رمى بها الكيان عرض الحائط!!
عبثا كلفت الحكومة اللبنانية رئيسها، تمام سلام، باجراء “الاتصالات اللازمة مع قادة المملكة ودول مجلس التعاون الخليجي”، تمهيدا للقيام بجولة خليجية على رأس وفد وزاري لبناني، وعبثا كان إعلانها “وقوفها الدائم الى جانب إخوانها العرب، وتمسّكها بالإجماع العربي في القضايا المشتركة”، وعبثا تقاطرت الشخصيات “السنية” السياسية والدينية اللبنانية، على السفارة السعودية في بيروت “طالبين الصفح والعفو”، ولم تجد هذه “الحكمة والشجاعة” اللبنانية الآذان الصاغية، فقد سخرت من بيان مجلس الوزراء اللبناني واعتبرته “ليس كافيا”، ورُفض استقبال رئيس الحكومة والوفد المرافق الذي طلب موعداً من القيادة السعودية. لا يزال التصعيد السعودي سيد الموقف، إذلالا، وعقابا جماعيا، وابتزازا لا يليق بالدبلوماسية والأعراف الدولية! وكنا نعيب على مؤسسات “النهب” الدولي مقايضتها الضيزى “مساعدات” تصادر القرار السيادي، فإذا نحن نعيش عصر “الحزم” السعودي الذي يمعن في اذلال الإخوة الأشقاء! كأن المطلوب من لبنان حكومة، وشعبا، –ليبلغ مصاف الحكماء والشجعان-، أن يرضخ للإملاءات السعودية بالكامل وأن يقايض كرامته الوطنية وسيادته بالهبات والمساعدات التي لم يبخل بها بعض الأشاوس على “المستوطنات” الصهيونية وجمعيات “الرفق بالحيوان”، لكي نتعفّف عن ذكر المنتفعين الآخرين، ودون مقابل! وكأن المطلوب، تكفيرا عن ذنبهم وليعودوا إلى الجنة السعودية، أن يخوضوا قسرا “حروب ترضية وملهاة” المملكة في حربها ضد ايران وحزب الله، وليذهب أمن لبنان، وتعايشه ونسيجه الاجتماعي والسياسي، الهش، إلى الجحيم، أن يعود إلى حرب طائفية ليثبت “هذا البلد الذي يرتبط بعلاقة وثيقة وتاريخية مع المملكة”، كما يؤكد، سعادة السفير السعودي، وهو الذي “كان يتوقّع منه أفضل من ذلك”، ولاءه لولي النعمة!
سياسات الابتزاز والتجويع والإذلال نتائجها ستكون عكسيا تماما والسعودية ودول الخليج عموما التي تتوجّس خيفة من “التغلغل الإيراني” في المنطقة لا تفعل بمثل هذه مقاربات “الحرد” و”تصفية الحسابات الشخصية” المتشنّجة سوى تعزيز النفوذ الإيراني والدفع بمن تساومهم إلى الحضن الإيراني، ومثال العراق الذي قدّموه قربانا للغزاة أولا، ولإيران ثانيا، خير الأدلة لمن أراد التمعّن! أ لم يسارع المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، حسين جابر أنصاري، بالإعراب عن “استعداد بلاده لتعويض الهبة السعودية، وتسليح الجيش اللبناني إذا تقدم لبنان بطلب رسمي”؟ من المستفيد من إضعاف الجيش اللبناني، الذي يفترض فيه أنه جيش كل اللبنانيين، بغض النظر عن طوائفهم ومذاهبه، غير الكيان الصهيوني، ماذا استفدنا من تدمير العراق الذي موّلت حروبه دول الخليج، كما تموّل اليوم جحافل المرتزقة التي تدرّبهم وتسلّحهم وترسلهم لتدمير سوريا، أم أنّ العميد ركن أحمد عسيري، المتحدث باسم قوات التحالف، والمطالب للحكومة اللبنانية، منع حزب الله “من تصدير مرتزقته إلى الخارج”، لم يلحظ المرتزقة الذين ترسلهم بلاده إلى اليمن وسوريا؟
زحمة المشاريع التي تشهدها المنطقة من المشروع الصهيو-أمريكي إلى المشروع الإيراني إلى التركي، في غياب مشروع نهضوي عربي، لا يمكن مطلقا مواجهتها بمثل هكذا سياسات خرقاء وتيه وعمى استراتيجي سيجر بالمنطقة بأسرها إلى حمام دم، وتشظي لا يُرأب صدعه، وأحرى بالقائمين على الأمر في الخليج تغيير مقارباتهم قبل أن يبلغهم طوفان هذه الحروب التي يؤجّجون!
لجم إيران والحد من تغلغلها واحباط مخططها، لمن أراد، لا يكون بالزج بأبناء هذه الأمة في حروب الوكالة وحروب الطائفية وإحداث المزيد من الدمار في اليمن وسوريا والعراق ثم لبنان، فنتائج هذه المقاربة عكسية تماما! لأن قطع الأرزاق وسياسات التجويع والابتزاز هي بعض العوامل التي عبّدت ولا تزال الطريق التي ينفذ منه الإيرانيون وغيرهم! ثم أن هؤلاء الذين يفوّضونكم أمر حروبهم نيابة عنهم، مقابل صفقات أسلحة فلكية الأرقام لا يسمحون باستخدامها إلاّ حيث حروب الدمار الذاتي، هم، وليس غيرهم، من فاوضوا إيران، في عاصمة خليجية بالذات، وعقدوا معها اتفاقهم النووي.. ولن يحاربوها نيابة عنكم! مخجل ومرير في آن أن يأتي الزمن الذي يكتب فيه الصحفي والمحلّل السياسي، المتصهين، توماس فريدمان، Thomas Friedman، توصيفا لهذا التقارب العجيب مع الكيان، ما مفاده أنّ “هذا التعاون الضمنيّ بين إسرائيل والعرب السنّة، يستند على التقاليد القبلية التي تقول عدو عدوّي هو صديقي، والعدو هو إيران”!
فشل المفاوضات لإطلاق سراح الأمير السعودي، عبد المحسن بن وليد آل سعود ، الذي ألقي القبض عليه في محاولة لتهريب طُنّيْن من حبوب ”الكبتاغون، Captagon“ أو الـ”فينيثايلين، ”Fénéthylline المخدّرة عبر لبنان إلى حيث مسارح حروب الجيل الرابع، لا يشفع مطلقا لمن توهّم أنه بتجويع اللبنانيين وابتزازهم يمكن أن يجبر القضاء اللبناني على الخضوع! أم أن القائمين على الأمر في المملكة، ينوون اعتماد نفس الأسلوب مع باقي الدول التي ساعدوها، وعلى رأسها مصر، ليقطعوا عنها معوناتهم، متى تجرأت واتخذت مواقف مختلفة عن الموقف السعودي؟
هلاّ اطلع هؤلاء القائمون على أمر المملكة على تقرير صندوق النقد الدولي الذي توقع قيام مملكتهم، بإنفاق جميع احتياطياتها المالية خلال السنوات الـ 5 القادمة! في ظلّ تراجع أسعار النفط وتبديد مقدراتها في صفقات التسليح لحروب الوكالة والمناولة المخوصصة. هلاّ تابعوا فقط على آخر التقارير بخصوص تراجع سعر النفط ومضاعفاته، وتحذيرات المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستين لاجارد، Christine Lagarde، خلال مؤتمر عقد في أبوظبي بالذات، موصية ب”خفض الإنفاق الحكومي وزيادة الإيرادات الحكومية وتنفيذ تعديلات مالية واسعة” وذلك “للتكيّف مع عصر النفط الرخيص”! هكذا سمّته!
في زمن الانعطافة الأمريكية، The Pivot، استعدادا لقرن تريده الولايات المتحدة باسيفيكيا، واستباقا لصعود التنين الصيني المنافس على دفة القيادة، وفي ظلّ زحمة المشاريع في المنطقة، من صهيو-أمريكية إلى فارسية وتركية وغيرها، وفي زمن حروب الوكالة، واستحضار المسالخ الطائفية، تأسيسا للكيانية بديلا عن الدول الفاشلة، ليعربد الكيان وحده، وأمام حالة عدم التوازن والتيه الإستراتيجي التي تلازم ”النظام“ الرسمي، قديمه ومُحدثه، يصبح من المصيري، أن يهب عقلاء هذه الأمة من محيط الوطن وخليجه، ليجترحوا غير “حلول الأمر الواقع″ التي يمليها علينا من جرّنا إلى حيث هو يريد! ألاّ يفعلوا نكون كمن يؤذّن للخراب!
حمى الله أهلنا في لبنان والخليج وباقي الأواني المستطرقة لهذا الوطن المستباح!
*باحث في الفكر الإستراتيجي، جامعة باريس.
ارسال التعليق