رغم عفو أبنائه.. لمَ تتمسك تركيا بالثأر لخاشقجي؟
التغيير
مجدداً، تؤكد الحكومة التركية عزمها على إبقاء قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي مفتوحة رغم كل محاولات آل سعود لإغلاقها، وهو الأمر الذي يهدد بمزيد من التوتر بين البلدين.
وفي حين حاولت سلطات آل سعود وضع قضية الصحفي السعودي المعروف الذي قُتل على يد مسؤولين سعوديين بقنصلية بلاده في إسطنبول في أكتوبر 2018، بأرشيف الذاكرة العالمية؛ من خلال عفو أبناء الراحل عن قتلة أبيهم، أحيت القيادة التركية القضية مجدداً بإعلانها إجراء محاكمة غيابية لعشرين سعودياً تتهمهم بقتل خاشقجي.
وفي ديسمبر 2019، أصدر القضاء السعودي أحكاماً بإعدام خمسة متهمين في القضية، وسجن ثلاثة آخرين، وبرأ ساحة نائب رئيس الاستخبارات بمملكة آل سعود السابق أحمد عسيري، والمستشار السابق بالديوان الملكي سعود القحطاني، قبل أن يعلن نجل خاشقجي، في مايو الماضي، العفو عن قتلة والده.
وأحدث قرار أبناء خاشقجي صدمةً أكبر من تلك التي أحدثها مقتل أبيهم ومن بعده حكم القضاء السعودي، ﻻ سيما أن ناشطين سعوديين نشروا أحكاماً سعودية بعدم جواز العفو في قتل الغيلة (القتل العمد)؛ وهو ما دفع الحكومة التركية إلى إحياء القضية بإعلانها البدء في إجراء محاكمة غيابية لقتلة الصحفي الراحل، في الثالث من يوليو المقبل.
وأثارت قضية خاشقجي توتراً كبيراً في العلاقات بين البلدين، خاصة أن القيادة التركية أشارت أكثر من مرة، إلى تورط مسؤولين سعوديين كبار في الجريمة، على رأسهم ولي عهد المملكة الأمير محمد بن سلمان.
صدمة وتصعيد
والجمعة (26 يونيو)، نقلت شبكة "الجزيرة" عن مصادر قضائية تركية، أن محكمة جنايات إسطنبول حددت الثالث من يوليو المقبل موعداً لبدء محاكمة قتلة الصحفي السعودي جمال خاشقجي، في حين أعلن معارض سعودي استعداده للإدلاء بشهادته في القضية.
وقالت المصادر إن المحاكمة ستكون غيابياً؛ لعدم قبول سلطات آل سعود بتسليم المتهمين، موضحة أن المدعي العام التركي طلب من الخارجية إصدار مذكرة توقيف وإحضار دولية بحق المتهمين.
وقال المعارض السعودي عمر عبد العزيز، المقيم في الخارج، والذي كان قريباً من خاشقجي، إنه تلقى اتصالاً من مسؤولين حكوميين في تركيا بشأن القضية، معرباً عن استعداده للإدلاء بشهادته.
أصدرت النيابة العامة التركية، الأربعاء (25 مارس 2020)، لائحة اتهام بحق 20 مشتبهاً به ومتهماً بقضية مقتل الإعلامي السعودي، بينهم عسيري والقحطاني.
وبحسب ما نشرته وكالة أنباء الأناضول التركية الرسمية، في مارس الماضي، فإن النيابة التركية تطالب بالسجن المؤبد بحق 18 متهماً شاركوا بشكل مباشر أو غير مباشر بالجريمة، في حين وجهت إلى المسؤولين الكبيرين (عسيري والقحطاني) تهمة التحريض على القتل العمد.
ونقلت الوكالة عن وزير العدل التركي عبد الحميد غل، قوله إن محاكمة المتهمين في قضية مقتل خاشقجي "لم تجرِ بشفافية كاملة ولا يمكن قبولها".
وأحدثت جريمة قتل خاشقجي ضجة عالمية واعتُبرت واحدة من أهم قضايا الدفاع عن حرية الرأي؛ خصوصاً أن كثيرين اعتبروا ما حدث للرجل الذي كان يقيم بالولايات المتحدة ويكتب مقالات في صحيفة "واشنطن بوست"، يعارض فيها السياسة الجديدة للمملكة، رسالة عامة لكل من تسوّل له نفسه انتقاد الرياض أو انتقاد الحكومات المشابهة لها في المنطقة عموماً.
كشف محدود للأدلة
وكان مصدر تركي مطلع على مجريات القضية إن تركيا قد تنشر تسجيلات صوتية متعلقة بالجريمة في وسائل الإعلام، وذلك في ظل رفض سلطات آل سعود الكشف عن الآمر بالتنفيذ.
وأكد المصدر، في 18 نوفمبر 2018، أن التسجيلات تضم أجزاءً من الحوار الذي دار قبل جريمة الاغتيال، وما تعرض له خاشقجي من شتم واعتداء بالضرب ثم القتل، إلى جانب أجزاء من الحوار الذي دار بين أفراد فرقة الاغتيال نفسها، وأيضاً بعض الاتصالات التي تمت بين هذا الفريق ومكتب محمد بن سلمان.
وفي سبتمبر 2019، نشرت صحيفة تركية ما قالت إنها تسجيلات الدقائق الأخيرة لخاشقجي قبل مقتله، وقد وصفت المحامية البريطانية، البارونة هيلينا كينيدي، التي استمعت للحظات موت خاشقجي، الأمر بأنه أمر لا يمكن أن يقع صدفة.
واستمعت كينيدي للتسجيلات المتعلقة بمقتل خاشقجي مع أنياس كالامارد، مقررة الأمم المتحدة المعنية بالتحقيق في قضايا القتل خارج نطاق القانون.
وبعد الاستماع لـ45 دقيقة مجمّعة من تسجيلات يومين حاسمين في حياة خاشقجي، قالت كالامارد لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، إنها عازمة على استخدام صلاحياتها للتحقيق في القضية، بعدما ثبت فيه تردد الأمم المتحدة في تحريك تحقيق دولي.
وأكدت كالامارد أن الأمر استغرق منها أسبوعاً لتتمكن من إقناع المخابرات التركية بالسماح لها ولكينيدي ولمترجم اللغة العربية الخاص بهما بالاستماع للتسجيلات، مضيفة: "كانت تسعى من وراء هذه الموافقة إلى مساعدتي لإثبات النية المسبقة والتخطيط لحادث القتل".
هذه الخطوات التركية المرتقبة حتى وإن لم تنجح في توقيع العدالة فعلياً على القتلة، فإنها لن تمر مرور الكرام، إذ ستكون لها تداعيات كبيرة على سمعة آل سعود من جهة وعلى العلاقات بين مملكة آل سعود وتركيا من جهة أخرى، فضلاً عن أنها ستعزز الاحتقان المتزايد أصلاً بين الجانبين.
لكن الصحفي التركي حمزة تكين قال في تصريح لوسائل إعلامية، إن الأمر لا يحمل جديداً، وإن المحاكمة التي ستعقدها تركيا لا تحمل أهدافاً سياسية.
وكان تكين قال في تصريحات إعلامية إن تركيا من خلال توجيه الاتهام لأشخاص سعوديين، "تؤكد مجدداً أنها تتابع قضية خاشقجي، وأنها لن تتخلى عنها؛ لكون الجريمة وقعت على أراضيها، ومن هذا الباب القانوني يحق لتركيا متابعتها حتى النهاية".
وأكد تكين أن المجريات القانونية التركية حول قضية خاشقجي "ما زالت مستمرة"، موضحاً أن ما حدث "يعد قيمة قانونية كبيرة جداً، لأن هذا القرار اليوم وبهذا الشكل، لم يصدر إلا بعد تحقيقات كبيرة واسعة، وتسجيلات ووثائق، وأن القرار صدر بأدلة دامغة".
حق عام
المحلل السياسي التركي يوسف كاتب أوغلو، أكد أن هذه المحاكمة تستند بالأساس إلى أسس قانونية وعدلية وأخلاقية صرفة، ولا علاقة لها بالسياسة، وقد استغرقت البحث والتحري والتدقيق قرابة عامين، وهو ما يعني أن الأمور خضعت لبحث قضائي استخباراتي دقيق.
وفي تصريح صحفي قال أوغلو إن البدء بمحاكمة قتلة خاشقجي غيابياً رد فعل طبيعي وقانوني على محاولات حكومة آل سعود تمويت القضية على أساس تنازل أبناء الضحية عن حقهم، لأن هذا أمر غير جائز في القانونين الدولي والتركي ولا حتى في القانون السعودي نفسه.
وأوضح المحلل التركي أن تركيا تبحث عن حق عام يتمثل في معاقبة مجرمين ارتكبوا جريمة قتل صحفي له وزنه الدولي وإخفاء جثته عمداً داخل مؤسسة حكومية وبمعرفة مسؤولين حكوميين، على أراضٍ تركية، وهو أمر لا يستطيع أي شخص في تركيا التهاون فيه أو التنازل عنه.
وأشار كاتب أوغلو إلى أن الأمور كانت مرتبة على أساس إلصاق تهمة قتل خاشقجي بتركيا؛ من خلال نشر صوره وهو خارج من القنصلية، بهدف الإيحاء بأنه اختفى في الأراضي التركية وأن تركيا بلد غير آمن.
مزيد من التوتر والهجوم
وتوقع المحلل التركي أن يؤدي الأمر إلى مزيد من التوتر بين الرياض وأنقرة، على المستويات كافة، وإلى مزيد من حملات الاستعداء الإماراتي تحديداً لتركيا، واتهامها بالتدخل في شأن سعودي خالص؛ لكون القتيل سعودياً والقتلة سعوديين ومكان الجريمة مؤسسة سعودية، فضلاً عن تنازل أصحاب الدم عن حقهم.
لكنه أكد أن كل ما سيحدث من هجوم لن يثني أنقرة عن الوفاء بتعهدها الذي قطعته أول الأمر بمعاقبة كل من تورط في هذه الجريمة أياً كان، لافتاً إلى أن تحديد موعد لبدء المحاكمة يعني وجود أدلة قطعية وغير قابلة للتشكيك بيد الجهات القضائية التركية، أي إننا ربما نكون بصدد مفاجآت خلال الأيام المقبلة، حسب قوله.
وخلص إلى القول بأن تركيا لن تتنازل عن حقها وحق المجتمع الدولي وحق السعوديين أنفسهم في معرفة كل من تورط في هذه الجريمة البشعة وتوقيع العقاب؛ لكونها جريمة ليست عادية ولم تستهدف شخصاً عادياً، وإنما استهدفت صحفياً معروفاً له وزنه الدولي.
في النهاية، يقول كاتب أوغلو: "هناك جريمة قتل وتقطيع وإخفاء جثة ضج لها العالم ثم قامت سلطات آل سعود بالتعامل معها كأنها جريمة عادية، وأصدرت أحكاماً على أشخاص غير معروفين، بعد استبعاد الأسماء الكبيرة المرتبطة بالجريمة، ولاحقاً حصل غير المعروفين هؤلاء على عفو من أبناء القتيل كأن شيئاً لم يكن، وهو أمر لا تقبله تركيا ولا العالم، خاصة أن الرياض لم تتعاون قط مع أنقرة من أجل كشف الحقيقة".
وعن مآلات محاكمة المتهمين، يقول المحلل التركي، إنها وإن لم تؤدِّ إلى توقيع العقاب فعلياً على الجناة، بسبب عدم تسليم الرياض لهم، فإنها على الأقل ستعوق حركتهم وتجعلهم مطلوبين للمجتمع الدولي؛ لأن الحكومة التركية ستقوم بكل ما يلزم لتوقيفهم وتسليمهم إليها.
ارسال التعليق