شبح خاشقجي لا يزال يطارد بن سلمان
قبل عام، دخل "جمال خاشقجي" إلى القنصلية السعودية في إسطنبول للحصول على ورقة تسمح له بالزواج من خطيبته "خديجة جنكيز".
لكن تلك الخطوة كانت مخاطرة. وكان أقرب أصدقاء "خاشقجي" من السعوديين قد حذروه في الأسبوع السابق من دخول القنصلية، لكنه تجاهل التحذيرات، واعتمد بدلا من ذلك على معرفته الداخلية بكيفية عمل السفارات السعودية.
وبعد أشهر من التردد والحنين إلى الوطن والشعور بالغربة، قرر "خاشقجي" المضي قدما. ولم يتصل "خاشقجي" بأصدقائه عندما عاد إلى إسطنبول قادما من لندن، بل ذهب مباشرة إلى القنصلية.
وفي غضون 7 دقائق من الدخول، كان قد ذهب ضحية لمجزرة بشعة تشبه جرائم من العصور الوسطى.
وكان رد "فرقة الموت" سريعا على سؤال من الذي سيخلص "محمد بن سلمان" من هذا "الكاهن المزعج"، تلك الكلمات التي تعود إلى "هنري الثاني" حين رغب في مقتل رئيس الأساقفة "توماس بيكيت".
وقد غير مقتل "خاشقجي" مسار حكم "بن سلمان" نفسه. فبعد مرور عام، يجد ولي العهد نفسه في مكان مختلف تماما.
تراجع على جميع الجبهات
وبشكل فعلي، انتهى تحالف النفط مقابل الأمن بين السعودية الولايات المتحدة. وتعرضت محطتين من أكبر محطات النفط في السعودية للهجوم في ما وصفه وزير الخارجية الأمريكي "مايك بومبيو" بأنه "عمل حرب" من قبل إيران. لكن الرئيس "دونالد ترامب" نأى بنفسه عن الأمر لأسباب واقعية تماما.
وتعد حملة "بن سلمان" الوحشية في اليمن في حالة يرثى لها، وقد هجره حليفه الرئيسي في أبوظبي. ويبدو أن الإمارات راضية عن تقسيم اليمن إلى قسمين، وترك الشمال للحوثيين. وقبل بضعة أسابيع، شن الحوثيون هجوما جماعيا زعموا فيه أنهم أسروا 3000 جندي مؤيد للتحالف، بعضهم من السعوديين.
ولم ينجح "بن سلمان" في نقل المعركة إلى قلب إيران كما وعد من قبل، وبدلا من ذلك جلب ولي العهد السعودي الخراب إلى مملكته. وكشف الرئيس الإيراني "حسن روحاني" أنه تلقى رسالة من السعودية عبر وسيط، وهو رئيس الوزراء العراقي "عادل عبدالمهدي".
ولا نعرف ما جاء في الرسالة، لكن يمكن للمرء أن يفترض أنها لم تكن إعلان حرب بالتأكيد.
وبعد مرور عام على مقتل "خاشقجي"، يتراجع ولي العهد على جميع الجبهات. ولا يزال "بن سلمان" يسود في الداخل فقط بفعل قبضته الحديدية، وتعد المحاكمة المستمرة لرجل الدين "سلمان العودة"بتهمة قد تؤدي إلى عقوبة الإعدام شهادة على ذلك.
لكن سحر ولي العهد السعودي في الغرب قد انتهى. فلم يعد "بن سلمان" ذلك الزعيم المحبوب باعتباره رجل الحداثة الغني للغاية، والأمير الشاب الطموح، والمصلح الذي يجوب الأركان، الذي أشاد به كتاب أعمدة مشهورين مثل "توماس فريدمان" في صحيفة "نيويورك تايمز".
وبدلا من ذلك، أصبح اسم "بن سلمان" ضارا للعلامات التجارية الأمريكية. وابتعدت شركات الاستشارات عن السعودية، ولم تعد تصطف في طوابير لأجل العمل لصالح المملكة. ولا أحد يتحدث بعد الآن عن "التاكسي الطائر"، أو الروبوتات، أو المدن النامية في الصحراء.
وكان "خاشقجي" سببا رئيسيا في حدوث هذا. وهنا يجدر الذكر أن "خاشقجي" دعم إصلاحات "بن سلمان" في البداية، مع إدراكه أن السعودية يجب أن تتغير جذريا. لكن ما انتقده هو الطريقة التي جرى بها تنفيذ هذه الإصلاحات.
التأثير المعاكس
وكان مقتل "خاشقجي" وبالا على قاتليه خاصة ولي العهد السعودي الذي أشرف حراسه الشخصيون على العملية. واليوم يمكننا أن نقول إن مقتل "خاشقجي" وتقطيع جثته كانا من أكثر الجرائم تأثيرا في التاريخ.
وقد فعلت المملكة كل ما في وسعها لمحو هذا السجل. في البداية، دعت السعودية رئيس الاستخبارات التركية إلى الرياض ظنا منها أن الأمر برمته يمكن التعامل معه بشكل ودي لكن الاستخبارات التركية رفضت العرض السعودي.
ولاحقا، عرضت المملكة رشوة الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان"، من أجل السكوت لكنه رفض، ناهيك عن جهود الرياض لتدمير الأدلة الجنائية للجريمة. ورغم كل هذه الجهود، خلصت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في النهاية أن "محمد بن سلمان" هو من أمر باغتيال "خاشقجي".
وقد أمر ولي العهد السعودي بهذه الجريمة لأنه أراد إسكات كل الأصوات المنتقدة. وكان "خاشقجي" جزءا من المؤسسة السعودية الرسمية، وكان ولي العهد، المعجب بمحاولات الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" لتسميم المعارضين الروس في إنجلترا، يريد أن يثبت أنه ليس هناك سعودي بمأمن من بطشه.
علاوة على ذلك، كان "خاشقجي" بمثابة ملكية سعودية من وجهة نظر النظام السعودي. بعبارة أخرى، ظن "بن سلمان" أن "خاشقجي" ضمن بضاعته، فهو ولي العهد وحاكم المستقبل، ويمكنه فعل ما يريد مع رعاياه. وهذا هو ما يعنيه الحاكم المطلق.
ولكن مقتل "خاشقجي" كان له تأثير معاكس تماما. ومنذ ذلك اليوم، الأول من أكتوبر/تشرين الأول، لم يستطع "محمد بن سلمان" الهروب من ظل "خاشقجي". وعندما انقلبت مديرة وكالة الاستخبارات المركزية، "جينا هاسبل"، وواشنطن العاصمة، ضده بشكل قاطع، دخل ولي العهد في موجة متتالية من الأزمات.
وشكل "بن سلمان" لجنة للطوارئ، كانت مهمتها التعامل مع تداعيات القتل. وتوصلت اللجنة إلى سلسلة من الأفكار الغريبة، على رأسها التقارب بين ولي العهد السعودي ورئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو"، في محاولة لاستنساخ تجربة اتفاقية "كامب ديفيد" التي غيرت قواعد اللعبة.
لكن مغامرة السعودية لم تأت بشيء. لذا فقد حاول "بن سلمان" مغازلة الصين باعتبارها قوة موازنة للولايات المتحدة، لكن ذلك لم يساعد أيضا. وفي كل مرة ظن فيها "بن سلمان" أنه كان في طريقه للتخلص من شبح "خاشقجي"، عاد هذا الشبح ليطارده من جديد.
ولم يتغير شيء داخل المملكة، حيث يعاني المعارضون والمنافسون من ظروف مروعة في السجون السعودية. ويظل القمع قاسيا كما كان من قبل. ولم يتعلم "بن سلمان" نفسه شيئا من فشل سياسته.
حياة جديدة للمعارضة السعودية
لكن اغتيال "خاشقجي" أعطى دور المعارض السعودي، الذي لم يكن يريده لنفسه أبدا، حياة جديدة. وأعطى تأثير وفاته، الذي لا يزال مستمرا حتى يومنا هذا، أملا جديدا للعالم العربي أنه يمكن لجريمة ما، من بين جرائم كثيرة، ألا تذهب دون عقاب.
وكانت رسالة "خاشقجي" إلى العالم العربي رسالة أمل. وإذا كانت حياته وأعماله كصحفي سعودي قد توقفت، فقد بث مقتله الحياة في رسالة جديدة لا تموت، وهي أنه لا يمكن للوضع الراهن في المملكة وفي المنطقة بأسرها أن يستمر. واليوم، يتراجع مزاج التشاؤم الذي ملأ العالم العربي بعد سحق الربيع العربي في مصر في يوليو/تموز 2013.
واضطر الرئيس المصري "عبدالفتاح السيسي" حرفيا إلى إغلاق مدنه الرئيسية لمنع المصريين من الخروج إلى الشوارع في نهاية الأسبوع للمطالبة بإقالته. وبعد مرور 6 أعوام، وجد المحتجون صوتا جديدا، وصار بإمكانهم التأثير مجددا في السياسة. وفي السودان والجزائر، أظهر صوت الجماهير قوته بالفعل.
مجرى التاريخ
يتحول مجرى التاريخ مرة أخرى، لكن يظل الحكام الديكتاتوريون العسكريون على الجانب الخطأ منه دائما. ولم يكن "خاشقجي" ثوريا أبدا، وكان شخصا ينتمي إلى المؤسسة. وكان "خاشقجي" أيضا متواضعا، ولا أظن أنه كان يتخيل أن موته سيكون مؤثرا إلى هذا الحد.
ولن يتلاشى اسم "خاشقجي" مع الوقت. بل سينمو صيت الرجل الذي دفع حياته ثمنا لقدر ضئيل من حرية التعبير في بلده مع الوقت. لقد كان لقصة "خاشقجي" الأخيرة، قصة الصحفي القتيل، قوة صحفية لا مثيل لها مقارنة بأي من أعمدته في حياته.
لقد خط "بن سلمان" مصيره بيديه حين أمر بقتل "خاشقجي".
ارسال التعليق