صفقات آل سعود في السوق العلمية: تجارة خاسرة وفضائح
يطمح بنو سعود التقلّد بالغرب، باتت هذه الأحلام اليوم مع محمد بن سلمان أكثر وضوحاً وشراسة. لكن هذا الشاب اختصر على نفسه مغبة طريق طويل وصعب بأن يصعد بأبناء شبه الجزيرة العربية درجة درجة على سلّم التفوق العلمي أو الثقافي. فارتقى ابن سلمان أن يشتري القدرات والمواهب الدولية؛ الجاهزة "غبّ الطلب" سواء على الصعيد الرياضي أم العلمي. وأما فالصعيد "الفني" كان أكثرهم رخصاً وأقلّهم تعرّجات، بأن كمَّ أفواه المعارضة الدينية وأخذ مجده على خشبة المسارح والمراقص والملاهي.
لم الفضيحة الأولى من نوعها التي تطال سمعة المراكز التربوية -سيّما الجامعات- في السعودية، حين قامت مؤخرا مجلة“The journal Cureus” المختصة بالعلوم الطبية، بسحب نحو 56 ورقة ومقال علمي من البلاد بسبب شكوك ومخاوف من التزوير والاحتيال، فللسعودية في ميدان الاحتيال تاريخ طويل، وللتزوير العلمي نصيب قيّم فيه، ليس فقط لحجمه ولكن لحساسية المجال.
وقرار سحب المقالات جاء بعد نحو عامين –أي منذ عام 2022- من الاشتباه والشكوك، وعدم الاستجابة الرسمية لطلبات التواصل التي قدمتها المجلة للسلطات السعودية.
في تفاصيل الحدث، فإن مؤلف واحد على الأقل ممن أُدرجت أسماؤهم في المقالات، قال إنه لا يعرف أي شيء عن العمل. ووفقا للمجلة فإن "المقالات تم تقديمها ونشرها لاحقًا كجهد منسق من قبل جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل لضمان قيام جميع المتدربين الطبيين بنشر مقال واحد على الأقل من أجل التأهل للالتحاق ببرنامج الدراسات العليا على النحو المنصوص عليه من قبل الهيئة السعودية للتخصصات الصحية".
وحول هذا التأخر في سحب المقالات، أفاد أدلر جونيور، رئيس تحرير مجلة Cureus في تصريح لموقع Retraction Watch، بأن "التحقيق كان بطيئًا بشكل محبط بسبب عدم استجابة المسؤولين الحكوميين السعوديين"، مشيرا إلى أنه جرت 12 محاولة للتواصل مع السلطات السعودية، وبعد أن باءت كلها بالفشل "قررنا سحب جميع هذه المقالات".
حيث جاء قرار رؤساء تحرير المجلة بحذف هذه المقالات، بعدما أثيرت مخاوف بشأن هوية كتابها، حيث تم إضافة اسمين على الأقل دون علمهما أو موافقتهما، كما لم يتم التحقق من هوية المؤلفين الآخرين، بحسب المجلة.
إذن ليست الحادثة الأولى من نوعها، فـ"للمملكة" سوابق من هذا المثيل لرفع تقييم جامعاتها بشكل مصطنع، حيث كُشف عن أموال بآلاف الدولارات عُرضت على العديد من الباحثين الأكاديميين العالميين، تُدفع لهم شهريا، مقابل تزوير انتماءاتهم الأكاديمية.
تاريخ حافل بالتزوير العلمي:
اعترف بعض الباحثين، الإسبان، بأنهم وافقوا على ضم إحدى الجماعات السعودية كمكان عملت فيه مقابل المال الذي، باعترافهم، لم يتمكّنوا من جنيه من عملهم في أهم مراكز الأبحاث التي يعملون لصالحها في الحقيقة.
وكانت أن كشفت صحيفة "ايلباييس" الإسبانية، عن قبول الكيميائي رافائيل لوك عرضًا سعوديًا في عام 2019 تعديل بياناته، ليظهر في المقام الأول كباحث في جامعة "الملك سعود".
وتم ذلك دون علم مكان عمله الحقيقي، وهي جامعة قرطبة في بلده. لتقوم هذه الأخيرة بطرده مع عقوبة السجن لمدة 13 عامًا بدون عمل وراتب. وحصلت الجامعة الاسبانية على نصيبها من العقوبة، حيث تراجعت من المرتبة 684 في تصنيف شنغهاي إلى المرتبة 837 بسبب هذا الأمر.
وأما بالنسبة للكيميائي داميا بارسيلو، فقد كان مهتما بتحليل الملوثات في المحاصيل المروية بمياه الصرف الصحي في السعودية، كأداة لإكمال بحثه لصالح "المعهد الكاتالوني لأبحاث المياه" الإسباني. ولكنه مُنع من متابعة بحثه وجمع العينات من السعودية إلا بشرط أن "تكون جامعة الملك سعود هي أول مؤسسة تابعة لنا (للمعهد الإسباني)". فكان بذلك من أوائل الباحثين الإسبان الذين قبلوا العرض السعودي منذ عام 2016.
وفي عام 2013، تلقى بارسيلو من العاهل السعودي الحالي، سلمان بن عبد العزيز، جائزة قدرها 500 ألف ريال (حوالي 120 ألف يورو) لأبحاثه حول الملوثات في المياه، ونُشر الخبر كاحتفاء باهتمام مزيّف بالمجال العلمي. واعترف الباحث الكيمائي، بأنه ذهب إلى "السعودية" مرة واحدة فقط في السنة لجمع عينات وإلقاء محاضرة، على الرغم من إظهاره كباحث لجامعة "الملك سعود" وهو ما يفترض أن يكون على تواجد متكرر في البلد، وهو ما لم يكن.
وينفي بارسيلو تلقيه مبلغ 70 ألف يورو سنويًا المقدم لعلماء آخرين، لكنه لا يكشف عن شروط عقده مع الجامعة السعودية، مكتفيًا بالتوضيح أنها تغطي جميع نفقات تجاربه "المكلفة للغاية" وأنهم يدفعون له ثمن الفنادق الفاخرة، إلى جانب رحلات من الدرجة الأولى وتصل إلى 2000 يورو لكل مؤتمر.
كما تم الكشف سابقا عن قيام جامعة الملك سعود برشوة بروفيسور هولندي في مقابل الإدعاء بأن الجامعة هي المكان الذي كان يعمل به أثناء إنجازه لبحوثه العلمية بهدف رفع تصنيف الجامعة الأكاديمي في التصنيف العالمي.
وبحسب صحيفة "Netherlands Posts" الهولندية، فإن مبلغ الرشوة بلغ نحو 146 ألف يورو، وقد أعلنت الجامعة الهولندية أن جامعات سعودية أخرى تواصلت على الأقل مع 6 علماء آخرين لذات الغرض، وقد رفضت السلطات السعودية آنذاك التجاوب مع الجامعة والتحقيق في القضية.
في التالي شهادات العديد ممن عُرض عليهم "الرشاوى" وقاموا برفضها:
كالكيميائية ميرا بيتروفيتش، وهي واحدة من أكثر العلماء استشهاداً في إسبانيا والعالم، تلقت عرضا من إحدى الجامعات السعودية قبل وباء كورونا مباشرة. عُرض عليها تحويل 70 ألف يورو في حسابها البنكي كل عام إذا أدرجت جامعة "الملك سعود" كمكان عملها الرئيسي في إحدى قواعد البيانات التي يستخدمها تصنيف شنغهاي المؤثر لتعيين أفضل جامعات العالم. كما طُلب من بيتروفيتش، التي تعمل في المعهد الكاتالوني للأبحاث والدراسات المتقدمة (ICREA)، أن تقصد السعودية مرتين فقط في السنة، في إجازة مدتها ثلاثة أيام. لكنها رفضت هذا العرض “غير اللائق”، بحسب قولها، دون تردد.
وأساليب الاستدراج تختلف مع وِحدة الغاية، حيث يقول أحدهم ممن رفض عرضا قُدّم له، إن أستاذاً سعودياً عرض عليه وجهاً لوجه في مؤتمر عبر الفيديو حوالي 4000 دولار شهرياً، واصفا الأمر "لقد ضاعفوا راتبي" الذي يجنيه من عمله الحقيقي.
وتذكر باحث آخر أنه تلقى رسالة من وسيط من إحدى الجامعات الإسبانية، أرسل له عرضًا من جامعة "الملك عبد العزيز"، وهو عبارة عن حوالي 11 ألف يورو سنويًا لتمويل مشروع تعاوني، مع الشرط الإضافي الفاضح المتمثل في تضمين اسمه في مشروعه، إلى جانب دراسات لمؤلفين مشاركين سعوديين لم يفعلوا شيئًا في الواقع.
وآخرهم هو لويس مارتينيز، أستاذ لغات وأنظمة الكمبيوتر في إحدى الجامعات. يقول مارتينيز إنه منذ أن دخل قائمة الباحثين الأكثر استشهادا في عام 2017، لتنهار عليه العروض من الجامعات العربية. والتي رفضها لمدة خمس سنوات، لكنه يؤكد أنه العام الماضي لم يحصل على تمويل عام إسباني لمشاريعه وقرر قبول عرض سعودي بحوالي 60 ألف يورو سنويا على الطاولة!
إلى جانب ذلك، فإحدى طرق عرض "الرشاوي" تكون أحيانا بإرسال وسطاء باحثين تربطهم علاقة بباحثين آخرين. فكان عالم الرياضيات خوان لويس غارسيا جيراو، قد تواصل في السنوات الأخيرة مع عدد من أعضاء قائمة الباحثين الأكثر استشهاداً، وحثهم على تعديل مكان عملهم الرئيسي مقابل الحصول على تمويل عربي من خلال مشاريع تعاونية.
وعالم الرياضيات هذا، وهو أصغر أستاذ في إسبانيا، حصل عام 2020 على لقب "العالم المتميز" من قبل "الملك" عبد العزيز، الذي بقوله لم تطأ قدمه "السعودية" يوما.
وكمثال أخير يمثّل وجها مختلفا من أوجه محاولات "ملوك الكسل" استقدام "سمعة" طيبة لمجهود علمي وهمي: في عام 2022، تلقت المهندسة الزراعية بلانكا لاندا رسالة من أستاذ في جامعة الملك سعود يقول فيها "أود منك أن تدرجني في الدراسات التي ستنشرها في مجلة Nature أو غيرها من المجلات رفيعة المستوى"، كما ويقترح الباحث العربي: “يمكنني أن أحول لك 1500 دولار عن كل دراسة منشورة وأدعوك كأستاذ زائر مع دفع كافة النفقات”. ليكون رد بلانكا لاندا على الفور: "أنا لست مهتمة على الإطلاق، لا تتصل بي مرة أخرى". ويعود هذا الطلب إلى كون أن واحدا من المعايير التي يستخدمها تصنيف شنغهاي لتعيين أفضل الجامعات في العالم؛ هو عدد الدراسات المنشورة في مجلتين علميتين مرموقتين: Nature و Science.
ارسال التعليق