يبدو أن “حادثة منى” التي وقعت في موسم الحج في العام 2015 ما تزال حاضرة في عقول المسلمين، لأن المتابع لموسم الحج هذا العام والإقبال عليه يدرك مدى تأثير ما حصل في منى على الناس ما جعلهم يحجمون بنسب معينة عن تقديم الطلبات للذهاب إلى مكة لأداء مناسك الحج، والموضوع هنا بقدر ما ينطبق على المواطنين السعوديين ينطبق أيضا على شرائح وازنة من المسلمين في العديد من الدول.

وهذا الأمر يثير العديد من التساؤلات حول حادثة منى نفسها ومسألة تنظيم الحج وكيفية إدارته من قبل السلطات السعودية، خاصة أنه منذ العام الماضي طرحت العديد من الأفكار حول إدارة الموسم منها ما يتعلق بجعل الموضوع مشتركا بين عدة دول إسلامية وتشكيل لجنة للتحقيق بما جرى في منى وصولا لتحديد المسؤوليات بعد التأكد ما إذا ارتكبت أخطاء بفعل فاعل أو ما جرى كان نتيجة سوء تنظيم أو إهمال؟

الإحجام عن الحج.. كيف يواجه؟

وهذا الإحجام الإسلامي والعربي خارجياً والسعودي داخلياً يترافق مع دعوات من علماء الدين من مختلف المذاهب الشيعية والسنية على ضرورة عدم جعل الإحجام هو الأساس وأن لا تتحول المسألة إلى مسألة عامة تعرقل أداء فريضة الحج، لأنه أياً كانت الأحداث التي وقعت لا يجب أن تكون سببا بالتوقف عن إداء الفرائض الشرعية ولا سيما الحج وشعائره، بالإضافة إلى أنه لا مبررات شرعية للخوف من الذهاب إلى مكة تحت وطأة وضع الاحتمالات بتكرار الأحداث المؤسفة والأليمة في منى أو غيرها، فبحسب علماء الدين إن وضع الاحتمالات بتكرار الأحداث أو وقوع أية أحداث أخرى لا يعني وجوب إلغاء أو الامتناع عن المشاركة في موسم الحج.

هذا من الناحية الشرعية لكن من الناحية الطبيعية للأمور التي تسيّر بها شؤون البلاد والعباد، لا يمكن للدول والشعوب أن تسير دون نتائج ملموسة أو وقائع حسية تبرهن لها وجود الطمأنينة الكافية بأن الأمن والأمان يحكمان موسم الحج لهذا العام، فكما أن المواطنين السعوديين لن يتجروأ على المشاركة بالحج دون ضوابط ومحاذير، أيضا كثير من المسلمين لن يتجروأ على ذلك دون الحصول على تفسيرات أو مبررات مقنعة لما حصل في الموسم الماضي أو تأكيدات بأن كل الإجراءات توحي بالثقة والراحة النفسية بأن لا مفجآت جديدة ستواجه حجاج بيت الله الحرام، فالسلطات المعنية في أي دولة واجبها أن تتحقق من كل التفاصيل المتعلقة بسلامة حجاجها قبل إرسالهم لا سيما بعد “أحداث منى” في العام الماضي.

ومن أبرز الأمثلة على ما نقول هو ما سبق أن جرى من مفاوضات بين الجهات المختصة في المملكة ووفد إيراني جاء إلى “أرض الحرمين” للبحث في كل التفاصيل الدقيقة المرتبطة بالحجاج الإيرانيين ما دفع في نهاية المفاوضات طهران إلى اتخاذ قرارها بعدم إرسال حجاجها إلى المملكة لأداء فريضة الحج لأنها لم تتأكد أن هناك ضمانات كافية لسلامة حجاجها، بحسب الرؤية الإيرانية.

من أحداث منى إلى التهديدات الإرهابية.. المخاطر موجودة؟!

وبالإضافة إلى أحداث منى تبرز التهديدات الإرهابية المفترضة التي تثير المخاوف في كل دول العالم وليس في المملكة فقط أو في موسم الحج، ولذلك نرى في كل التجمعات أو التظاهرات الكبرى في العالم تقام إجراءات أمنية استثنائية كما يجري اليوم في الألعاب الاولمبية التي تستضيفها البرازيل، وكل الدول المنظمة لهذه التجمعات تعمد إلى إيصال التطمينات اللازمة والأكيدة لمن يعنيهم الأمر وتقوم بالدعاية المطلوبة لإقناع الناس ولإظهار أن الأوضاع الأمنية ممسوكة تمام وأن لا مجال لوقوع أخطاء قد تتسبب بكوارث معينة أو وقوع ضحايا، لأن كل التجماعات الدينية أو غير الدينية كموسم الحج عند المسلمين فيها فوائد كبيرة على البلد التي يحتضنها وهذا ما هو عليه الامر في المملكة السعودية في كل موسم حج، حيث يدر قدوم الحجاج إلى المملكة الفوائد الاقتصادية الكبيرة بما يؤدي لدعم الاقتصاد الوطني، كما يساهم بشكل كبير لرفع قدرات الناس المالية عبر العديد من الأمور التي لا يتسع لها المقام هنا.

وما يدفع للإضاءة أكثر على تماسك الوضع الأمني والتنظيمي لموسم الحج، هو أن المملكة السعودية تعرضت في هذا العام وفي العام الماضي لعدة اعتداءات إرهابية، كان أخطرها(من حيث الدلالات على موسم الحج) هو الاعتداء الذي وقع في مرآب السيارات في الحرم النبوي في المدينة المنورة وسقط فيه ضحايا، ومن المعلوم أن زيارة قبر الرسول محمد بن عبد الله(ص)، هو أحد المزارات التي يزورها الحجاج خلال حضورهم إلى المملكة في موسم الحج، ولذلك يجب على السلطات المعنية في المملكة أن تبذل كل الجهود لإقناع الناس لا سيما في الداخل أن الأمور الأمنية مستتبة ولا خوف من الحضور إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة لأداء المناسك، لأنه ببساطة اذا عجزت السلطات المختصة عن اقناع الداخل السعودي بأن كل شيء تحت السيطرة فكيف سيتم إقناع مئات الآلاف من المسلمين حول العالم بذلك؟ وكيف يمكن لأي دولة القبول بإرسال مواطنيها إلى الحج بينما السعوديين أنفسهم لديهم شكوك حول الأوضاع الأمنية والتنظيمية خلال ممارسة الشعائر؟

موسم الحج.. مصلحة سعودية بامتياز

وهنا لا بدَّ من التأكيد أن موسم الحج ليس محطة لتصفية الحسابات السياسية بين المملكة وغيرها من الدول أياً كانت، لأن المصلحة الأولى والأخيرة ستنعكس على المملكة ومواطنيها ولذلك نحن لنا المصلحة في استقطاب كل الدول والشعوب الإسلامية سواء كانت إيران أو ماليزيا أو اليمن أو تركيا ولبنان وسوريا وغيرها من الدول في أي قارة من قارات العالم، ويجب بالتالي على السلطات السعودية تقديم كل التسهيلات والتطيمنات اللازمة لكل الدول الإسلامية والعربية وعدم عرقلة مجيء الحجاج بل نزع فتيل أي مشكلة مع أي دولة تريد هي عرقلة قدوم حجاجها إلى المملكة، فموسم الحج يعتبر أحد أبرز محطات وفرص اللقاء بين المسلمين وبالتأكيد تلعب فيه المملكة السعودية أو بإمكانها أن تلعب فيه الدور الكبير لاحتضان المسلمين كل المسلمين في أيام معدودات على أرضها وفي كنفها وحماية وكرم أهلها، فلماذا نحرم أنفسنا من كل هذه المزايا التي أعطيت لنا هبة من الله تعالى ولمصلحة من حرمان الشعب فرصة الاستفادة المادية والمعنوية من هذا الموسم؟

ولذلك باتت الأسئلة مباحة عن كثير من الأمور، فهل وضعت خطط جديدة ومتطورة أمنيا ولوجستيا وإداريا لتحسين موسم الحج هذا العام؟ وهل وضعت آليات للعمل تكشف بسهولة الأخطاء التي قد تحصل أو ترتكب وتظهر بسلاسة المسؤوليات عن ذلك؟ وهل أعلن عن خطط للجمهور توعيهم في كثير من التفاصيل الأمنية والتنظيمية بما يريح الجو العام بين الحجاج ويبث فيما بينهم الأمن والراحة؟ وفي حال أظهرت النتائج النهائية لأرقام الحجاج هذا العام تسجيل تراجعا في أعداد الحجاج من سيتحمل المسؤولية عن ذلك؟ خاصة أن موسم الحج يكلف خزينة المملكة أموالا طائلة تدفع من أجل التنظيم والإدارة والإشراف، وبالتالي فعدم مجيء كل المسلمين قد يؤدي إلى نتائج اقتصادية غير سوية باعتبار أن الموسم بدل أن يكون فرصة للربح المادي قد يصبح محطة لزيادة العجز والضغط على المملكة.

إذن يجب على السلطات الاستمرار في أداء واجباتها فيما يتعلق بالحج وبذل كل الجهود في هذا الإطار، لإيصال الموسم إلى بر الأمان وخدمة زوار بيت الله الحرام وحمايتهم من أي أحداث غير محسوبة أو اعتداءات إرهابية قد تقع، كما يجب لترفع عن إقحام كل ما يجري في الحج في الصراعات والنزاعات السياسية مع الحفاظ على السيادة السعودية على أراضيها مع الأخذ بعين الاعتبار دائما أن الحج هو فريضة لكل المسلمين وليس لدولة دون دولة أو لشعب دون آخر.