فلسطين وشعبها في قاموس الخيانات العربية
في العشرينات من القرن الماضي لم يترك اليهود فرصة لتجنيد المزيد من الزعامات العربية من أجل الاتفاق معها على تسليم فلسطين وإنجاح المخططات التي ترمي لإقامة دولتهم لاحقا، كمشاريع التهويد وقبول الهجرات اليهودية وتسليح العصابات اليهودية في فلسطين.
أرسلت بريطانيا عام ١٩٢٠ مندوبا ساميا لها على فلسطين من اليهود الصهاينة وهو “هربرت صموئيل” من أجل إنجاح هذا المشروع اليهودي في فلسطين، وإيجاد كل الظروف الملائمة من أجل إنجاحه، خاصة وأنه كان يعمل على هذا المشروع منذ عام ١٩١٥، أي قبل وعد بلفور بعامين.
ولكن بعد صدور وعد بلفور طلب منه تحويل مشروعه من نص نظري إلى واقع، ثم تقرر بعد ذلك الانتداب على فلسطين من قبل عصبة الأمم لترسيخ هذا الوعد اللقيط الذي لا يمت للشرعية بأي صلة.
“هربرت صموئيل” والمشروع اليهودي في فلسطين:
وقد أوكلت المهمة لبريطانيا البلد المحتل، حيث قام هذا اليهودي صموئيل بكل أساليب الخسة والإجرام على اتخاذ قرارات هدفت إلى ترحيل الفلسطينيين عن أرضهم وإحلال اليهود مكانهم، فوضع اليهود في المواقع الحساسة وأبعد الشعب الفلسطيني عن إدارة شؤونه.
كما وضع عقوبات قاسية على الشعب الفلسطيني، حتى على من يحمل عصا منهم، فما بالك بمن يحمل سكينا، أو سلاحا ناريا، وقد حاول أن يؤدي مهمته هذه على أكمل وجه خلال خمس سنوات، قام من خلالها حتى بتزويج بعض “براعم” ساسة العرب في المستقبل.
أما هذه “الزعامات” العربية والتي تفاوضت مع اليهود، فلم تكن زعامات بالمعنى الحقيقي، وإن كان بعضهم من أسر وازنة في العالم العربي، لكنك ستجد فيهم من لا تعرف له أصلا ولا تعرف حتى من أين جاء؟!
لكن القوى الاستعمارية وضعتهم في المقدمة، بعد أن صنفرتهم ولمعتهم وأبرزتهم بأساليب جهنمية كي يثق بهم العوام من الشعوب، في حين ابتزتهم هذه القوى الاستعمارية بملفاتهم في السابق، ومنهم من سرق سرقة ثقيلة ومنهم من هو هارب من ديون مستحقة عليه، ومنهم من كانت لديه جرائم جنائية استحقوا عليها الإعدام، أحدهم قتل شقيقه!
فضائح الزعامات العربية وخيانة فلسطين:
كما كان منهم من بلغ به أن اتخذ ابنته عشيقة، ومنهم من هو متزوج من يهودية ومنهم من هو عاشق ليهودية، وكثر منهم من النوع السكير المقامر الذي جففت المقامرة جيوبه، حيث سهلت لهم الاستدانة وربطتهم هذه القوى الاستعمارية بها لتجعلهم دوما بالحاجة للمال، ومنهم من هو شاذ جنسيا.
حتى أن أحد هؤلاء حين تقرر تعيينه كسفير لأحد الدول العربية في فرنسا، رفضت فرنسا قبوله بسبب جنايته في بدايات حياته، بالطبع غير الذين ينتمون لفرق باطنية ومكنتهم قوى الاستعمار من إيجاد مكانة لهم في العالم العربي الجديد كي ينتقموا وينفثوا أحقادهم من جديد بقوة الاستعمار.
وكفاك أن تتخيل الدرك الأسفل الذي وصلت له الأمة، حين وضع ابن سعود درزيا مثل فؤاد حمزة ليدير أمور الحجيج المسلمين، ووضع نصيريا حاقدا مثل يوسف ياسين لتسيير الأمور الخارجية لمملكته، وفوق كل هذا كان أكثرهم ينتمي للمحافل الماسونية التي وضعتهم بطريقة أو بأخرى في خدمة اليهود.
وقد وصفت صحيفة “الكرمل” الفلسطينية هؤلاء بأنهم مجرد مرضى في عقولهم يحاولون تعبئة جيوبهم على حساب فلسطين مع تقوية مراكزهم أمام شعوبهم لتحصل على بعض الحقوق من هذه القوى الاستعمارية، أيضا لينالوا رضى هذه القوى مع رضى أسيادهم الصهاينة، وكان أكثرهم على لائحة الدفع من قبل الوكالة اليهودية ولعل أشهرهم بالقبض منها ومن غيرها هو رياض الصلح وجميل مردم.
شيخ الأزهر: “فلسطين دي تبقى ايه؟”:
وهناك منهم من أنكر معرفته بفلسطين كلها، حتى يرضى الإنجليز عنه، في عام ١٩٢٣ قابل الوفد الإسلامي الفلسطيني شيخ الأزهر محمد أبو الفضل الجيزاوي واستغاثوا به من أجل توجيه كلمة للعالم الإسلامي عما نزل بفلسطين من فواجع على أيدي اليهود والإنجليز.
وكانت الصدمة حين قال لهم شيخ الأزهر الجيزاوي: “وفلسطين دي تبقى ايه؟” فرد عليه رئيس الوفد: “أنها بلاد إسلامية يراد تهويدها بعد طرد المسلمين منها”.
فسأله شيخ الأزهر: “وأين موقع هذه البلاد؟”، فرد رئيس الوفد: “أنها على بعد ساعات من مصر وبها أولى القبلتين وثالث الحرمين”، وسأل شيخ الأزهر: “وهل يوجد فيها إنجليز؟”، فرد رئيس الوفد بنعم، فقال شيخ الأزهر: ” لا.. دي مسائل سياسية لا نتدخل بها”!.
بالطبع هو يعرف كل شيء، لكنه الاستسلام الكامل لكل ما يريده المحتل الإنجليزي، والذي لم ينل هذا الشيخ “تزكيته” لهذا المنصب عام ١٩١٧ إلا بتوقيع من رئيس وزراء بريطانيا آنذاك لويد جورج.
أمام كل هذا عرف الشعب الفلسطيني ما يراد به، وعرف ما يحيط به من وجوه اعتقد يوما أنها ستكون عونا له، لكنه تبين له العكس تماما، حيث أصبحت خنجرا في ظهره. فمن ينسى الشهيد يوسف أبو درة وقبله البطل احمد المحمود والبطل صالح المصطفى، لم تستطع بريطانيا ولا يهودها الاقتراب منهم رغم ما أثخنوه فيهم من قتل وتدمير، لكن ثقتهم بأنظمة العرب أدت بهم إلى أن يتم تسليمهم للإنجليز حيث تم إعدامهم.
وحين عرف الشعب الفلسطيني أي قدر ابتلي به، قرر أن يخلع شوكه بيده وأعلن ثوراته المتتالية، نعم أعلنها على أكبر قوة استعمارية على وجه الأرض وهي بريطانيا ومعها يهود العالم.
لقد بلغ “بحاييم وايزمن” أن يهدد الفلسطينيين بهذه الطريقة: “نحن من قضينا على القياصرة في روسيا عندما تبين لنا أنهم يخططون لمحاربتنا، فقضينا عليهم.. فمن انتم؟” حينها قاطع الفلسطينيون حديثه وغادروا..
أما قناصل العرب في القدس فكانوا عونا للإنجليزي المحتل، يراقبون ويتجسسون على الشعب الفلسطيني، والويل لمن يصرخ أو ينتقد زعامات العرب.
كاتب فلسطيني مسيحي يدعى يوسف فرنسيس انتقد الوفديين والملك فؤاد في مصر، فاغلقت صحيفته بإيعاز من قنصل مصر في القدس، وحاولوا إجباره على كتابة عدة مقالات يتراجع فيها عما كتب، كما تم منعه من دخول مصر.
ناهيك عما جرى عبر عقود مع الصحفي الفلسطيني محمد علي الطاهر الذي سجن وأوقفت صحيفته “الشورى” عدة مرات، وعاش لسنين طويلة مطاردا مشردا في مصر، لا لسبب إلا لأنه كتب عن فظائع الإنجليز واليهود في فلسطين، وغيرهم كثر سجله سفر الوجع الفلسطيني الطويل.
كما كانت من مهام القناصل العرب في القدس شراء أعداد الصحف الفلسطينية التي يتم انتقاد زعاماتهم فيها ومن ثم حرقها.
خذلان وخيانة أنظمة العرب:
عندما منح الإنجليز اليهود قرار إنشاء جامعتهم العبرية الخاصة، حرموا الشعب الفلسطيني من هذا الحق، وحتى المدارس تم التضييق عليها، بالذات حين يكون لها أهداف سامية لا ترضي الإنجليز ويهودهم، ويكفي ما حدث مع مدرسة البرج الإسلامية في حيفا، وقصتها تختصر علينا الكثير فيما يمكن ذكره من خذلان وخيانة أنظمة العرب في هذا الشأن.
كانت مدرسة البرج الإسلامية من المدارس التجارية في حيفا، وإن اتخذت اسم الإسلامية تعريفا بها، ولكن حين التحق بها الشيخ عز الدين القسام رحمه الله كمدرس للتربية الإسلامية في بداية العشرينات من القرن الماضي، وضع أسسا جديدة للمدرسة تعني بتربية طلبته تربية دينية صحيحة.
كما أقر “القسام” مجانية التعليم للأيتام والفقراء وأولاهم اهتماما خاصا، أما من خلال علاقته باللجنة التي تدير المدرسة أو من خلال أهل الخير، كما حولها في المساء للعمال وكبار السن من أجل تعليمهم وتنبيههم لما يعد لهم!.
لكن ابن سعود أرسل كامل القصاب، “سفيره” غير الرسمي وغير المقيم في فلسطين عام ١٩٢٤، وهو الذي أوردنا طرفا من سيرته التي كالقطران في الجزء الأول، وقام بنشاطات على الأغلب “تجارية” و “تجسسية” كما هو حاله دوما حين يزور فلسطين وبقية بلاد العرب، كما وتمكن من ضمان مدرسة البرج من الجمعية التي كانت تديرها، وهي المدرسة التي كان يدرس فيها الشيخ عز الدين القسام رحمه الله.
وأول ما قام به كامل القصاب هو طرد الأيتام والفقراء منها والذين كان يتعلمون بالمجان وفعل ذلك تحت شعار “من لا يدفع لا يتعلم”، وقد حولها إلى مدرسة تجارية وأسوأ، كما وألغى النشاطات الكشفية والتدريبية والمسرحية التي كان يحرص القسام على القيام بها.
في عام ١٩٣٢ كانت مسرحيته عن معركة حطين التي درب عليها الصغار والكبار أدت لقلق كبير لدى السلطات البريطانية في فلسطين، حتى أن إدارة البحث الجنائي (سي اي دي) التابع للسلطات البريطانية خلص في تقرير له: أن الفلسطينيين في حيفا يعدون العدة لمثل معركة حطين الفاصلة!.
وبعد بضعة أشهر من استلام كامل القصاب للمدرسة، قام خلالها بحملات تضييق أدت في النهاية إلى أبعاد الشيخ عز الدين القسام رحمه الله عنها، حيث غادرها ليتفرغ لمسجد الاستقلال الذي كان قد بني حديثا.
بعد ثورة البراق شددت السلطات البريطانية المراقبة أيضا على مسجد الاستقلال، ففي نهاية عام ١٩٢٩ قام بعض الفلسطينيين بمطالبة الإنجليز بحماية المسجد من تهديدات اليهود بمهاجمته، وقد غضب القسام وقال “ونحن ماذا نفعل؟.. لا خير فينا أن لم نحمه بدمنا ولحمنا” .. حينها ألقى خطبته الشهيرة والتي هاجم فيها الإنجليز واليهود معا.. وبين أن جهد الإنجليز كله من أجل إقامة دولة اليهود، فلا فرق بينهم.
اعتقل الانجليز عز الدين القسام رحمه الله، يوما واحدا على أثر هذه الخطبة، فقامت حيفا عن بكرة أبيها، فاطلقت سراحه وما اقتربت منه بعد ذلك، فقد كانت تسعى للهدوء بأي ثمن، وهي التي أذاقت الأمرين مع ممن هم في الجبال، فكيف بمدينة تقوم عليهم، إذن ما الحل معه؟ حتما أنهم “عرب الخذلان”.مقابلة ابن سعود مع كامل القصاب
تتحدث الوثائق البريطانية عن مقابلة ابن سعود مع “الشيخ” كامل القصاب بتاريخ ٤ / ١٢ / ١٩٣٢، ومن ثم وصوله جدة في ٤/ ١ / ١٩٣٣ حيث استلم مبلغا “محرزا” من المسؤول المالي السعودي فيها بناء على طلب من ابن سعود، ومن ثم غادر الى حيفا عبر مصر.
وتشير وثائق أخرى إلى أن هذه الرحلة كانت من أجل محاربة المتشددين في سوريا وفلسطين، كما تشير وثيقة أخرى إلى أن هدف ابن سعود من إبراز هذه المهمة للإنجليز هي كي يثبت لهم مدى جديته في العمل لصالح سياستهم في المنطقة، وتعلق الوثيقة أن هدف هذه الرحلة كان “عملا جيدا”، والله أعلم أي عمل جيد يريد تنفيذه القصاب لصالح الإنجليز في حيفا.
في عام ١٩٣٤ بلغ للسلطات البريطانية واستخبارات الهاجناه أن عملية شراء للأسلحة وعمليات تدريب عليها تجري في حيفا وأماكن أخرى، وتشير إلى اتباع عز الدين القسام رحمه الله، لكنهم لم يتيقنوا من ذلك.
في ٢٦/ ١٠/ ١٩٣٥ ألقى خطبته الأخيرة في مسجد الاستقلال، كانت أشبه بخطبة مودع، قال فيها: ” أيها الناس، لقد علّمتكم أمور دينكم حتى صار كل واحد منكم عالماً بها، وعلّمتكم أمور وطنكم حتى وجب عليكم الجهاد، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، فإلى الجهاد أيها المسلمون، إلى الجهاد أيها المسلمون»، ثم فسر الآيات الكريمة وأطال :”ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين”.
بعدها اختفى الشيخ القسام ولم يره احد، ما يقرب من شهر ومدينة حيفا تسأل عن خطيبها وشيخها، تبكي تارة، وتجأر أخرى هل اختطفه الإنجليز أو اليهود؟ هل اغتيل واخفي؟ هل أرهقته المدينة وتركها.. هذه المدينة التي أحبته وأحبها.. هذه المدينة التي ما نظر قط لأسماء اسرها بل تفرس الوجوه والنفوس والقلوب واختار منها من يكملون المسيرة.. فلا غرو أن تجد اثنين من كبار القادة من باعة الكاز في المدينة.. لا أحد يملك جوابا.
كان قد فعل كل ما عليه.. ثقف وعلم ونظم ودرب وسلح، وضع القيادات في أماكنها، وأوكل لكل مهمته، فعل كل ما عليه وأدى الأمانة..اللهم إنا نشهد.._____________________________(١).. (صحيفة الشورى ٢٥/ ٣/ ١٩٢٦، محررها محمد علي الطاهر كان مرافقا للوفد.)(٢).. (IOR, L/ PS/10/ 1315 10- 8-1932.)(٣).. (IOR/L/PS/12/2071. 25-1-1933.)
ارسال التعليق