التغيير

لا تنحصر انعكاسات حرب اليمن على المجتمع اليمني فحسب بل تطال أيضًا المجتمع السعودي الذي بات يتأثر بتطورات هذا النزاع وديناميكياته. فما يحصل على الحدود الجنوبية لمملكة آل سعود وما وراءها، لم يُغيّر أحوال اليمنيين وحدهم وإنما السعوديين أيضًا، خصوصًا قاطني مناطق الحدود الجنوبية بمملكة آل سعود، إذ تغيرت حياتهم بشكل كبير من النواحي الأمنية والاجتماعية والاقتصادية.

وفي ظل الحديث عن مفاوضات بين مملكة آل سعود وحركة أنصار الله والتي قد تقود إلى تفاهمات سياسية وعسكرية، ستظل مفاعيل هذه الأحداث تشغل حيزًا كبيرًا في التصور العام للمجتمع السعودي، حتى في مرحلة ما بعد الحرب.

منذ إعلان آل سعود دخول الحرب في اليمن، يبرز تفاعل سعودي كبير على شبكات الإعلام الاجتماعي، يتناول الأوضاع ومجريات الأحداث اليمنية. يأتي هذا التفاعل كصدى لزيادة حجم اهتمام المجتمع السعودي بما يدور في اليمن.

يترافق ذلك مع نقاشات مستمرة واسعة بين يمنيين وسعوديين حول تفاصيل الحرب وآفاقها، وكيف يقرأ المجتمع السعودي حالة الحرب التي تشارك فيها مملكة آل سعود ضد أنصار الله.

ورغم أن الخطاب السائد لدى معظم النشطاء السعوديين يتطابق مع توجه آل سعود، لاعتبارات يتعلق أحدها بالرقابة الشديدة المفروضة على هذه المنصات التي لا تسمح بأي صوت معارض – إلا أنها تكشف مدى اقبال المجتمع السعودي على متابعة أخبار اليمن في السنوات الأخيرة، التي صارت تمس معيشتهم بشكل مباشر.

فمثلا، أثّرت النفقات الاقتصادية الكبيرة التي تكبدتها مملكة آل سعود، بشكل واسع في المجتمع السعودي، تمثلت برفع الضرائب، وزيادة تعرفة بعض الخدمات، وارتفاع أسعار المشتقات النفطية، كما أدت الهجمات العسكرية الصاروخية، التي نفذها أنصار الله صوب الداخل السعودي إلى قلق أمني مستمر لدى المواطن السعودي، دفعت الكثير من السعوديين إلى التفاعل الدائم مع أحداثها.

ومع غياب القدرة على توجيه أي نقد تجاه دولتهم أو التعليق السياسي على سياساتها، تركزت كتاباتهم على خصوم آل سعود، مع انحسار النقد بحق الأطراف اليمنية المدعومة من الرياض من زاوية عدم جديتها وعجزها عن تحقيق انتصارات.

لقد أنتجت الحالة اليمنية كُتاباً سعوديين ناشئين ممن بات تناول أحداث اليمن مساحة جيدة وآمنة بالنسبة لهم، لممارسة الكتابة والتعليق السياسي، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة تبني السردية الرسمية، كشرط للقدرة على مواصلة الكتابة.

في فترة ما قبل الحرب، كانت هناك حالة من الغياب التام للوضع اليمني في حياة السعوديين، خصوصًا مع التعقيدات التي فرضتها مملكة آل سعود تجاه دخول اليمنيين إلى أراضيها في العقدين الأخيرين.

لكن الأمر تغير خلال فترة الحرب، فقد برز العديد من الكتاب والناشطين السعوديين الذين باتوا يُلبون حاجة المجتمع السعودي لسردية غير رسمية لأحداث الحرب في اليمن.

كما صار للعديد من الإعلاميين اليمنيين الذين يغطون الحرب، متابعون كثر من الداخل السعودي. أيضًا، يُعزز رجال الدين السعوديون في المساجد والجلسات الدينية، الخطاب الرسمي عن الحرب في أوساط المجتمع السعودي.

وهو خطاب يعزز حضور الهوية الوطنية لآل سعود، ويروّج لقدرات الأسرة الحاكمة على إدارة ملف الحرب في اليمن. كما تستفيد المؤسسات الإعلامية بمملكة آل سعود من هذه الأحداث في التسويق لشخصية المواطن السعودي المخلص للوطن وحكامه.

لكن تكمن الحلقة الأضعف في المناطق الجنوبية المحاذية للحدود مع اليمن، والتي أعادت الحرب تشكيلها ديموغرافيًا وعسكريًا. فعند اندلاع الحرب في آذار (مارس) 2015، نقلت حكومة آل سعود العديد من سكان القرى الحدودية إلى المدن الداخلية، ما حوّل العديد من الحواضر الحدودية إلى مناطق مهجورة. ترافق ذلك مع خطة سعودية لعسكرة هذه المناطق، وتحويلها إلى ما يشبه المناطق العازلة.

تمتد هذه المناطق إلى الداخل اليمني على طول شريط الحدود، بعمق يتراوح ما بين 10 إلى 40 كيلومتراً، باتجاه المناطق التي يسيطر عليها أنصار الله. والهدف من ذلك ضمان عدم حصول أي اختراقات أمنية باتجاه أراضي مملكة آل سعود، وخصوصًا مع طول أمد المواجهات البرية مع أنصار الله.

هذا التحول في استراتيجية آل سعود نحو مناطقها الجنوبية، هو أحد العوامل المؤثرة على حياة قبائل هذه المناطق. قبل المواجهات العسكرية مع "أنصار الله"، كانت مملكة آل سعود تعتمد بشكل كبير على هذه القبائل، في الجانبين اليمني والسعودي، لتأمين الشريط الحدودي الطويل.

لكن النشاط العسكري للحوثيين في الجزء اليمني من الحدود، وتعاون بعض سكان الحدود لمملكة آل سعود معهم لاعتبارات تتعلق بالصلات الاجتماعية والمذهبية، دفع الرياض للانخراط في الحرب ضد أنصار الله في العام 2009.

الحرب كشفت هشاشة الوضع الأمني في هذه المناطق، ودفعت آل سعود حينها لفتح حدودها للجيش اليمني لمحاربة أنصار الله من الداخل السعودي، في حين تولت توجيه ضربات جوية.

وبالرغم من اعتماد مملكة آل سعود في حربها الحالية على المجندين اليمنيين، الذين تقدرهم بعض المصادر بـ60 ألف مقاتل، يتوزعون على مختلف الجبهات الحدودية، إلا أنهم ليسوا سوى خط دفاع أول، من خلفهم العديد من الوحدات العسكرية والأمنية التي دفعت بها مملكة آل سعود للقيام بمهمة تأمين أراضيها.

وقد خسرت مملكة آل سعود العشرات من قواتها في هذه المناطق بسبب الاشتباكات المستمرة أو قذائف المدفعية القادمة من مناطق سيطرة أنصار الله.

قرابة نصف الجنود السعوديين في هذه المعارك هم من سكان المناطق الغربية الحدودية، لا سيما منطقة جيزان، ممن تعتمد عليهم مملكة آل سعود بشكل كبير. الواقع أن هذه الخسائر البشرية انعكست على الحواضن الاجتماعية.

رغم تمجيد حكومة آل سعود لتضحيات جنود "الحد الجنوبي"، إلا أن انعكاسات الأكلاف البشرية تركت أثاراً بالغة على مستوى المملكة، خصوصًا أن الاستقرار العام في السعودي كان هو السمة الرئيسية في العقود الأخيرة.

ومع اشتداد المعارك في بعض الجبهات الحدودية، أُغلقت الكثير من الأسواق التجارية التي كانت شريان حياة لهؤلاء السكان، كما أن إقفال المنفذ الرئيسي مع اليمن في منطقة الطوال بمملكة آل سعود، أدى إلى خسائر اقتصادية كبيرة للسكان السعوديين في المناطق المحيطة.

في المقابل، تحولت حركة العبور صوب منفذ الوديعة الذي يقع في منطقة نجران، المقابل للمناطق التي تسيطر عليه الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا. انتعشت هذه المنطقة بسبب النشاط التجاري الكبير بين اليمن ومملكة آل سعود، خصوصًا مع الحصار الجزئي المفروض على العديد من المنافذ والموانئ اليمنية.

استفاد سكان منطقة نجران من هذا التحول الاقتصادي، سيما بعد دخول العديد من رؤوس الأموال اليمنية للاستثمار في مملكة آل سعود التي تقع خلف هذا المعبر الحدودي.

أدت هجرة السكان من بعض الجيوب الحدودية، وظهور فرص اقتصادية في مناطق حدودية أخرى، إلى نشوء مسارات تواصل بديلة بين مجتمعات هذه المناطق، ومعها زادت وتيرة الحركة غير الرسمية على طول الشريط الحدودي الممتد لأكثر من 1400 كيلومتر، وهي مساحة شاسعة يصعب إداراتها.

من دروس الحرب أن التأثير التي أرادت مملكة آل سعود أن تحدثه في اليمن طال أيضاً سكان مدن المملكة وقراها، وأن التحولات التي يحدثها هذا النزاع في ذهنية المجتمع السعودي، ستبقى حاضرة بقوة خلال الفترة المقبلة. حتى وإن انتهت الحرب، فإن أمام آل سعود الكثير من التأثيرات الداخلية التي تولدت كنتيجة طبيعية لطول أمد النزاع في اليمن.