نظام آل سعود ودعم التطرف والعدوان (الجزء الأول)
شكل خبر انسحاب المملكة المغربية من القمة الإفريقية العربية التي انعقدت آخر شهر نوفمبر الماضي في مالابو عاصمة غينيا الاستوائية موضوعا أثار اهتمام كثير من المراقبين ووسائل الإعلام الإفريقية والدولية التي عزت هذا التصرف إلى اعتراض المغرب على ما أبداه الاتحاد الإفريقي برمته من تمسك قوي بمبادئه التأسيسية ومرافعته الصريحة عن عضوية الجمهورية الصحراوية في المنتدى الإفريقي.
وقد ألقى الموقف المغربي هذا بظلال من الشكوك على النوايا الحقيقية من وراء طلب المغرب الانضمام (وليس “العودة” أو “الرجوع” كما يُقال أحياناً على غير صواب) إلى الاتحاد الإفريقي، كما أظهر من جديد خريطة الاصطفافات والتحالفات الاستراتيجية التي يستقوي بها المغرب مادياً ومعنويا في سياسته الجديدة تجاه القارة الإفريقية وفي كل ما له صلة بالملفات الحيوية الأخرى بالنسبة له. فمن المعلوم أن انسحاب المغرب من القمة المذكورة صاحبه انسحاب مجموعة من الدول العربية التي تنتمي إلى “النادي الملكي” الخليجي ومن يدور في فلكه وعلى رأسه المملكة العربية السعودية.
ورغم أن الموقف السعودي المتضامن مع المغرب لم يكن لا بالجديد ولا بالمستغرب بالنسبة لمن له دراية بطبيعة العلاقة العضوية وتشابك المصالح بين المملكتين المغربية والسعودية، بيد أنه جاء في وقت يطبعه تصعيد ومجاهرة نظام آل سعود بدعمه المادي والعسكري والدبلوماسي للمغرب في عدوانه واحتلاله المستمر لأجزاء من تراب الصحراء الغربية.
وقد تمثلت قمة هذا التصعيد في الموقف الذي عبر عنه الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز أثناء القمة الخليجية المغربية التي عُقدت بالرياض في 20 أبريل من هذا العام الذي جدد فيه موقف قادة دول الخليج “المبدئي من أن قضية الصحراء المغربية هي أيضاً قضية دول مجلس التعاون”. إن هذا الموقف الصريح الداعم للعدوان والطغيان إنما يؤكد من جديد، ومع الأسف الشديد، أن نظام آل سعود ما زال مصرا على الانخراط الكامل في المعسكر المعادي لحقوق ومصالح الشعب الصحراوي العربي المسلم وتطلعاته المشروعة في الحرية والانعتاق من ظلم وجور الاحتلال المغربي.
ويأتي الموقف السعودي أيضا في وقت تواجه فيه مملكة آل سعود ضغوطات متزايدة الحدة، وخاصة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، بسبب ما ثَبُت من تورطها البين في دعم التطرف والحركات المتطرفة في أنحاء عدة من العالم، كما تُظهر ذلك التقارير الموثقة الصادرة عن مؤسسات رسمية وأجهزة استخبارات وخاصة في أمريكا وأوروبا. ولعل تبني الكونغرس الأمريكي في سبتمبر من هذا العام لقانون العدالة ضد رعاة الإرهاب JASTA))، الذي يسمح برفع دعاوى قضائية ضد الدول والأشخاص المتورطين في أعمال إرهابية من قبل الضحايا وأسرهم، خير دليل على ما وصلت إليه الأمور في الولايات المتحدة بشأن هذه المسألة الحساسة التي تمس بالأمن القومي الأمريكي والدولي، وهذا رغم مساعي البيت الأبيض (منذ بوش وأوباما بعده) لثني المطالبين بهذا القرار عن عزمهم حفاظا على ما تعتبره المؤسسة الأمريكية (Establishment) علاقات استراتيجية مع المملكة السعودية.
وفي هذا السياق العام الذي يميزه التصعيد الملحوظ مؤخرا في موقف نظام آل سعود المعادي صراحة للمصالح العليا للشعب الصحراوي، والذي ربما يدخل أيضا في إطار تصفية حسابات مرحلية مع جهات أخرى بسبب حرص هذه الأخيرة الشديد على سيادة واستقلالية سياساتها الإقليمية والدولية، فقد ارتأينا أنه من المجدي تسليط بعض الضوء على طبيعة دعم نظام آل سعود للملكة المغربية في عدوانها على الشعب الصحراوي. وحسبنا أنه من المفيد أيضا وضع الموقف السعودي هذا في النطاق العام للمساعي الحثيثة التي تُجند لها مليارات الدولارات من عائدات النفط والتي تقوم بها المؤسسة السياسية والدينية المسيطرة في المملكة السعودية من أجل نشر النهج “الوهابي” المتطرف في كل أنحاء العالم واستخدامه كأداة أساسية في سياستها الداخلية والإقليمية والدولية. وسنعرض بحول الله لهذين الموضوعين الرئيسيين في ثلاثة أجزاء نخصص أولها للحركة الوهابية المتطرفة ونشأة الدولة السعودية الحديثة بينما نتناول في الجزء الثاني تورط نظام آل سعود في نشر ودعم التطرف عبر العالم ونختم في الجزء الثالث بتوضيح لدور نظام آل سعود في دعم عدون النظام الملكي المغربي على الشعب الصحراوي العربي المسلم.
وقبل الخوض في نقاشنا العام، بودنا أن نلفت انتباه القارئ إلى نقطتين رئيسيتين. وتكمن أولاهما في أن مقاربتنا “للوهابية” كنهج وحركة لها ارتباط بالتاريخ الإسلامي والفكري لا يرمي البتة الخوض في نقاش أسسها العقدية أو اللاهوتية (theological)، وهو موضوع لنا فيه بفضل الله كما لغيرنا من الباحثين في هذا الشأن الكثير لنقوله بخصوصه، وإنما سنتبنى مقاربة سوسيولوجية تاريخية نناقش من خلالها نشأة وتطور هذا النهج في سياقه الدنيوي (worldly) والسياسي التاريخي البحت. أما المسألة الثانية فتتصل بحقيقة أن نقاشنا لسياسات نظام آل سعود بخصوص دعمه للتطرف والعدوان لا يقصد البتة الشعب السعودي الكريم الذي شرف الله تعالى أرضه (وبخاصة بلاد الحجاز) بكونها مولد سيد العالمين، محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي، صلوات الله وسلامه عليه وموطن نزول الوحي وقبلة الإسلام والمسلمين. فما جلبه نظام آل سعود على نفسه من أوزار لا تلزمه إلا هو وحده.
الحركة الوهابية المتطرفة ونشأة الدولة السعودية الحديثة
كما أسلفنا القول، تتعرض المملكة السعودية هذه الأيام لضغوط متزايدة، وحتى من قبل حلفائها الكبار، بسبب دعمها للتطرف والحركات المتطرفة في أنحاء عدة من العالم. وإذا كان العالم الغربي، بمفكريه وساسته ورأيه العام، لم يبدأ بجدٍ باكتشاف الأبعاد التاريخية والسياسية لهذا المسألة إلى بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، فإن موضوع الدعم السعودي الرسمي وغير الرسمي للتطرف واستخدام الدين كأداة رئيسية في السياسة الداخلية والإقليمية أمر معلوم جدا بالنسبة للعارفين بحق بتاريخ وطبيعة المؤسسة الدينية والسياسية الحاكمة في مملكة آل سعود منذ نشأتها في ثلاثينيات القرن الماضي. ولا نجانب الصواب إن قلنا إن الدولة السعودية الحديثة لم تكن لتقوم أساساً ما لم يحدث هناك اقتران (بالمعنى الكامل للفظ) بين العنصر الديني ممثلا بالدعاة للفكر والنهج الوهابي والعنصر السياسي-الاجتماعي ممثلا بآل سعود وهو ما أنتج “الوهابية السعودية” كحركة ومؤسسة لها أبعادها السياسية والاجتماعية والفكرية والأخلاقية سمتها الغلو والتطرف كما سنبين لاحقا.
ولكي نحدد السياق العام لما سيلي من نقاش نشرع في هذا الجزء الأول بتناول الظروف التي أحاطت بنشأة الدولة السعودية الحديثة وهي ذات الظروف كما سنرى التي أفرزت فيما بعد النهج الوهابي المتطرف.
تجمع المصادر التاريخية السعودية وغيرها على أن أصل العلاقة الوطيدة بين آل سعود والنهج الوهابي يعود إلى “البيعة التاريخية” التي تمت في عام 1744 بين كل من الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي رحمه الله، الذي ولد عام 1703 في بلدة العيينَة الواقعة شمال غرب مدينة الرياض بنجد بشرق الجزيرة العربية. ويُذكر أن بن عبد الوهاب، الذي درس الفقه الحنبلي وتأثير كثيرا بكتابات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، بدأ دعوته أولا في بلدته وما جاورها من بلاد، بيد أن علماء قومه سرعان ما استنكروا عليه ما جاء به من أفكار غير معهودة، مما أجبره عندها على مغادرة بلدته.
ولعل السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه في البداية هو كيف تمكن عبد الوهاب الذي نبذه علماء بلدته وعشيرته من نشر أفكاره المتطرفة في كامل الجزيرة العربية آنذاك وفي زمن قياسي؟ وحقيقة الأمر أن أفكار ودعوة محمد بن عبد الوهاب لم تكن لتنتشر في الجزيرة العربية لولا دعم ومساندة آل سعود، الأسرة التي تحكم حاليا المملكة العربية السعودية. فبعد فترة من الترحال، وجد بن عبد الوهاب ملاذاً في الدرعية، وهي بلدة كان يحكمها محمد بن سعود الذي لم يكن وقتها سوى زعيم عشيرة تعرف باسم آل مقرن في اقتتال مستمر مع القبائل الأخرى لبسط السيطرة على صحراء نجد وواحاتها. وفي عام 1744، أقاما الاثنان حلفا تعهد بموجبه محمد بن سعود بحماية ونشر النهج الوهابي في مقابل الدعم المعنوي (الإيديولوجي) والمادي والبشري لدحر العشائر التي كانت تنازعه زعامة المنطقة. وهكذا تحولت الدرعية وإمارة آل سعود بأكملها إلى مركز لنشر الوهابية في كامل أرجاء الجزيرة العربية.
وخلافاً لما تُروج له الكتب الوهابية القديمة والحديثة، فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يأتِ فيما دعا إليه بأي جديد يذكر من الناحية الفكرية وإنما استنسخ، وبصفة انتقائية في كثير من الأحيان، ما كان قد سبقه إليه وباقتدار وسعة علم علماء أجلاء أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن قيم الجوزية ومن قبلهم الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليهم جميعا، وبخاصة فيما يتعلق بمبدأ التوحيد الذي أسس عليه دعوته وما أتصل بهذه المسألة من أمور عقدية وعملية. ورغم ذلك، فقد كان أتباعه الوهابيون يسمون أنفسهم بالموحدين تمييزا لأنفسهم عن الأغلبية المسلمة التي لم تكن في نظرهم تتمسك بشروط التوحيد اعتقاداً وقولاً وعملاً، بحسب فهمهم، كما استخدموا حجة التبديع والتفسيق وحتى التكفير ضد كل من خالفهم الرأي من باقي أمة التوحيد فقاموا مثلا بتكفير فرق الشيعة والصوفية بلا تفريق.
وفي إطار هذا الحلف السعودي الوهابي بدأت عشيرة بن سعود في مداهمة أهالي وقبائل منطقة الجزيرة العربية وما جاورها من أمصار تحت راية نشر “رسالة التوحيد” وبدعم معنوي وبشري قوي من أتباع بن عبد الوهاب. بيد أن المصادر التي توثق لتلك الحقبة تدفع إلى التساؤل المشروع حول الدوافع الحقيقية للغارات التي كان يقوم بها الحلف السعودي الوهابي. فمعظم المراجع التاريخية التي وصلتنا عن طريق مؤرخي تلك الحقبة يغلب فيها وصف تلك الغارات بأعمال القتل والسلب والنهب والتنكيل. وسنذكر هنا مثالا على الفظائع التي قام بها الحلف السعودي الوهابي كما يرويها لنا عثمان بن عبد الله بن بشر النجدي الذي قام عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ، أحد أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب نفسه، بتحقيق كتابه المشهور “عنوان المجد في تاريخ نجد” الذي نشرته في جزأين دارة الملك عبد العزيز في عام 1982. وبحسب محققه، فإن كتاب بن بشر يعد المصدر الأهم لما وقع في نجد من حوادث تاريخية وأن مؤلفه كان معروفا بكونه “عدل ثقة صادق الرواية”.
فضمن حديثه عن الهجوم على مدينة كربلاء في العراق، الذي وقع في عام 1801، يصف بن بشر في كتابه المذكور كيف هاجم جيش الحلف السعودي الوهابي المدينة وذبح الآلاف من النساء والأطفال والرجال الشيعة ودمر ضريح الحسين، سبط النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه. يقول بن بشر بالحرف الواحد: “ثم دخلت السنة السادسة عشر بعد المائتين والألف، وفيها سار سعود بالجيوش المنصورة والخيل العتاق المشهورة من جميع حاضر نجد وباديها والجنوب والحجاز وتهامة وقصدوا أرض كربلاء ونازل أهل بلد الحسين. وذلك في ذي العقدة فحشد عليها المسلمون، وتسوروا جدرانها ودخلوها عنوة، وقتلوا غالب أهلها في الأسواق والبيوت، وهدموا القبة الموضوعة بزعم من اعتقد فيها على قبر الحسين. وأخذوا ما في القبة وما حولها، وأخذوا النصيبة التي وضعوها على القبر، وكانت مرصوفة بالزمرد والياقوت والجواهر، وأخذوا جميع ما وجدوا في البلد من الأموال والسلاح واللباس والفرش والذهب والفضة والمصاحف الثمينة وغير ذلك مما يعجز عنه الحصر، ولم يلبثوا فيها إلا ضحوة وخرجوا منها قرب الظهر بجميع تلك الأموال وقتل من أهلها قريب ألف رجل” (ص 257-258). هذه الفقرة، التي اقتبسناها هنا من دون تعليق، ليست إلا غيض من فيض مما نقل لنا بن بشر وغيره من مؤرخي تلك الحقبة من أخبار غزوات الحلف الوهابي السعودي من مثل ما يؤكده أيضا المؤرخ المصري عبد الرحمن بن حسن الجبرتي في مؤلفه “عجائب الآثار في التراجم والأخبار” بشأن هجوم جنود هذا الحلف على الطائف في عام 1803 حيث قاموا “بذبح الرجال واستعباد النساء والأطفال”.
ورغم ما يقوله التابعون للنهج الوهابي من متقدمين ومحدثين بخصوص تمسكهم الصارم بمنهاج السلف الصالح عقيدةً وعملاً، فإن العبرة كما يقال بالحقائق والمعاني وليس بالألفاظ والمباني. فمن المعلوم بالتواتر أنه لم يصُح عن النبي المصطفى، صلوات الله وسلامه عليه، ولا عمن تبعه من الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم جميعا، أنهم قتلوا أو اعتدوا على مسالمين غير محاربين من نساء وأطفال أو نهبوا أموالهم أو احرقوا نخيلهم أو زرعهم، فأين كل هذا مما فعله الوهابيون في بلاد المسلمين التي غاروا عليها. وباختصار، فواقع الحال أن ما وصلنا من أخبار غارات الحلف السعودي الوهابي في جزيرة العرب وما جاورها من أمصار إنما يدل بوضوح على أن مثل هذه “الفتوحات”، وعلى الرغم من خوضهم لها تحت راية التوحيد، كانت أقرب إلى حروب السلب القبلية منها إلى حروب الذود عن الثغور أو نشر الدعوة الإسلامية السمحة، كما تبين ذلك بوضوح الفقرة المقتبسة من كتاب المؤرخ النجدي بن بشر.
وهكذا استمرت غارات الكر والفر من قبل الحلف السعودي الوهابي على امتداد الجزيرة العربية مما قاد إلى قيام الدولة السعودية الثانية (إمارة نجد) في عام 1824 وذلك بعد سحق الدولة السعودية الأولى (إمارة الدرعية) في عام 1818 من قبل القوات المصرية بناءً على تعليمات من الخليفة العثماني. ومن الجدير بالذكر أنه قد تم في أوائل القرن العشرين تشكيل حلف ثلاثي كان من شأنه أن يغير وإلى الأبد الأوضاع في الجزيرة العربية وربما في العالم الإسلامي برمته. وقد ضم هذا الحلف آل سعود الذين كانوا يسعون لهزيمة كل منافسيهم في حكم جزيرة العرب، والوهابيين الذين كانوا يسعون لفرض مذهبهم الوهابي على كل المنطقة، ثم البريطانيين الذين كانوا يريدون إضعاف الدولة العثمانية وإقامة حكم مركزي في الجزيرة العربية من شأنه أن يخدم المصالح البريطانية، خصوصا بعد اكتشاف النفط في شمال غرب بلاد فارس في عام 1908 من قبل شركة النفط البريطانية الفارسية. وتبرز السجلات التاريخية الدور الحاسم الذي لعبته بريطانيا من خلال معاونيها العسكريين والمخبرين في مساعدة ودعم آل سعود في توحيد القبائل في شبه الجزيرة العربية تحت حكمهم لمحاربة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى.
وكانت القوة الضاربة للحلف السعودي الوهابي تتمثل في جيش من البدو الذين لقنوا المنهج الوهابي تلقيناً وعرفوا باسم الإخوان (لا علاقة لهم بالإخوان المسلمين في مصر وغيرها) حيث كان لهم دور محوري في بسط نفوذ آل سعود على الحجاز واستيلائهم على مكة المكرمة والمدينة المنورة بين عامي 1914 و 1927. وقد مكنت السيطرة على الحرمين الشريفين الوهابيين من فرصة غير مسبوقة لفرض دعوتهم كعقيدة وحيدة ليس فقط على المنطقة وإنما أيضا على الحجاج القادمين من كل أنحاء العالم.
وبعد الاستيلاء على كامل نجد والحجاز قام عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود بإعلان المملكة العربية السعودية في 23 سبتمبر 1932 وأعلن نفسه ملكا عليها بدعم ومبايعة من العلماء الوهابيين واتخذ لقب “جلالة ملك المملكة العربية السعودية”، وهذا بعدما كان أسلافه من حكام آل سعود يلقبون أنفسهم بالأمراء والأئمة أو السلاطين. ومن أجل التأكيد على الحلف التاريخي الذي ربط أسلافه بعلماء النهج الوهابي وعلى العلاقة التكافلية بين السلطة السياسية والدينية، سارع مؤسس الدولة السعودية الحديثة إلى الاقتران بابنة عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ، أحد أحفاد محمد بن عبد الوهاب. وقد كان ابنه الأمير فيصل، الذي حكم المملكة العربية السعودية بين عامي 1964 و 1975، هو التجسيد الفعلي لهذا الاتحاد العضوي بين آل سعود وآل شيخ، كما سيعرف أحفاد عبد الوهاب فيما بعد.
وكما هو معلوم، فإن الحكم الملكي الوراثي غير مسبوق في عهد الخلافة الراشدة وهو ما يناقض زعم دعاة النهج الوهابي بشأن تمسكهم بمنهاج السلف الصالح عقيدةً وعملاً. وكما أشرنا في تعليق سابق، فإن نظام الملك الوراثي في الإسلام هو من صنع بني أمية في منتصف القرن السابع الميلادي حين قرر معاوية بن أبي سفيان طلب البيعة لابنه يزيد وتعيينه خلفا له. وقد شكل هذا الحدث، ورغم اختلاف المؤرخين في تبرير دوافعه، بداية انهيار نظام الخلافة الذي كان يعتمد على الشورى والاختيار في عصر الخلافة الراشدة ليتحول إلى نظام ملكي وراثي مطلق وملك عضوض يستمد شرعيته من القوة والغلبة، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الذي يحتج به الوهابيون كثيراً، رأي أصيل في كتابه “الخلافة والملك” بشأن عدم جواز نظام الملك في الأصل في ملة الإسلام لأنه خروج عن منهاج الخلافة الراشدة.
ومن المهم التأكيد على حقيقة أن حاكم الدولة السعودية الجديدة لم يسمِ نفسه خلفية للمسلمين كما لم يعلن منطقة الحرمين الشريفين التي باتت تحت حكمه مركزا لخلافة إسلامية جديدة، خصوصا بعد انقضاء الخلافة العثمانية في 3 مارس 1924، حيث أتخذ من الرياض عاصمة ملكه وهي ما تزال المركز السياسي لحكام آل سعود إلى يومنا هذا. كما أنه لم يسمِ نفسه بأمير المؤمنين، وهو اللقب الذي يدعيه ملوك المملكة المغربية، والذي أضحي اليوم يفيد الإمارة والوصاية على المؤمنين بجميع الديانات كما صرح بذلك الملك المغربي محمد السادس نفسه في حوار صحفي نادر أجراه مع وسائل الإعلام المحلية في مدغشقر على هامش زيارة رسمية لها في نوفمبر الماضي. وبحسب موقع روسيا اليوم، فقد أكد الملك المغربي أن “ملك المغرب هو أمير المؤمنين؛ المؤمنين بجميع الديانات”. ويبدو أن عقلية التوسع الاستعماري الإقليمي التي يقوم عليها النظام الملكي في المغرب أصبحت اليوم أيضا مرادفا لتوسع روحي ديني يروم بسط وصايته على كل المؤمنين بجميع الديانات في العالم!
وتميل بعض المصادر التاريخية إلى عزو عدم انتقال الحكم السعودي الوهابي إلى الحجاز بعد قيام الدولة الجديدة إلى حقيقة أن العديد من العلماء في تلك المنطقة كانوا وقتها من المعارضين للنهج الوهابي المتطرف. بيد أننا نميل إلى ما ذهب إليه بعض الباحثين المسلمين والغربيين بتفسير ذلك بحقيقة أن حكام آل سعود كانوا يفتقرون ليس فقط إلى الشرعية الدينية اللازمة وإنما أيضا إلى أحد الشروط على الأقل التي أقرها جمهور علماء أهل السنة والواجب توفرها في خلفية المسلمين والمتمثل في الانتساب لقبيلة قريش العربية، وهو ما لا يمكن لآل سعود إثباته.
ولعل من محاولات حكام آل سعود الدائمة لتوطيد شرعية ملكهم المطلق هو استبدال الملك فهد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود للقب صاحب الجلالة بلقب “خادم الحرمين الشريفين” في 17 أكتوبر 1986 بعد خمس سنوات من مبايعته ملكا للعربية السعودية. وللذكر فلقب “خادم الحرمين الشريفين ” الذي يدل على القائم على خدمة المسجد الحرام والمسجد النبوي هو لقب كان قد سبق استخدامه من قبل قواد مسلمين مثل صلاح الدين الأيوبي في القرن الثاني عشر الميلادي، أما حكام آل سعود فلم يسموا أنفسهم قبل هذا التاريخ إلا بالأمير أو الإمام أو السلطان أو الملك كما أشرنا إلى ذلك سابقا.
وفي محاولة للتقرب من جمهور العلماء في العالم الإسلامي الذين كانوا يستنكرون ما لصق بالنهج الوهابي من تطرف وتزمت وعنف، قام حكام آل سعود منذ بداية حكمهم باستقدام علماء وشخصيات إسلامية معروفة أمثال المفكر الإسلامي محمد رشيد رضا، الذي يعد من رواد الإصلاح الإسلامي في القرن التاسع عشر الميلادي، وغيره من العلماء لإضفاء الشرعية على ملكهم وعلى قرينه النهج الوهابي الذي بدأ بفضل هؤلاء العلماء الزوار في محاولة تقديم نفسه بحلة السلفية الصرفة. وهذا ما يفسر قيام مجموعة من العلماء الوهابيين في العقود الأخيرة بالإصرار على وصف دعوتهم بالسلفية مع الادعاء أحيانا بأنها الدعوة السلفية الوحيدة السليمة، وذلك في محاولة مكشوفة لصرف النظر عن التاريخ الدموي للوهابية ودفع ما لصق بها من شبهات التطرف والتزمت الإقصائي والعنف ولمزاحمة الفرق الأخرى التي تنسب نفسها للتيار السلفي من قبيل الإخوان المسلمين وغيرهم كثير.
وعلى الرغم من الطبيعة الإرثية ( Patrimonialوفقا لماكس فيبر) للمملكة العربية السعودية حيث تتميز ممارسة السلطة بالتعامل مع المجالات الحيوية للبلاد، من سياسية واقتصادية وغيرها، كما لو كانت ملكية شخصية لنخبة آل سعود الحاكمة (ولا غرو فالبلاد موسومة باسمهم!)، فإن الحكم الملكي في السعودية إنما يستمد شرعيته من التقييد التام بقواعد المذهب الوهابي وبدعم المؤسسة الدينية الوهابية. ويأتي هذا في إطار تقسيم فعلي للعمل بين السلطتين السياسية والدينية، حيث يهيمن آل سعود على الميدان السياسي والمالي والعسكري في البلاد بينما يحتكر أحفاد الشيخ عبد الوهاب وأتباعه المجال الديني ويسيطرون على الإفتاء وعلى المؤسسات الدينية والتعليمية والآداب العامة، وتمثل هذه العلاقة التكافلية ركيزة استمرارية هيمنة حكام آل سعود والنهج الوهابي في المملكة السعودية منذ قيامها إلى اليوم.
وبخلاصة، فإنه من الواضح أن مظلة الحكم السياسي لآل سعود هي التي جعلت الوهابية تبرز وتتوطد وتتوسع كنهج وحركة سياسية واجتماعية سمتها الغلو والتطرف والادعاء بالامتلاك الحصري للحقيقة العقدية وتطبيقاتها العملية وهو ما ينعكس في سلوك دُعاتها الذين لم يكتفوا بالدعوة لمنهج محدد في التعاطي مع مسائل العقيدة أساسا، كما فعلت فرق إسلامية أخرى، وإنما تجاوزا ذلك لفرض منهجهم بالإكراه والعنف، كما تبين الشواهد التاريخية القديم منها والحديث التي أشرنا إليها سابقا. أما حكام آل سعود، ووفاءً منهم للنهج الوهابي الذي جاء بهم إلى الحكم ومدهم بدعائم الشرعية الدينية، فقد رأوا في الوهابية أداة أساسية جندوا لها مليارات الدولارات من عائدات النفط لخدمة سياستهم الداخلية والإقليمية والدولية،
بقلم الدكتور سيدي محمد عمار
ارسال التعليق