من عبد الناصر إلى تيران وصنافير: رحلة التطبيع السعودي الإسرائيلي
بات في حكم المؤكد أن المملكة العربية السعودية هي من أوائل الدول التي قامت بالتطبيع مع إسرائيل، منذ ستينات القرن الماضي، استناداً إلى مبدأ “العدو المشترك”، الذي كان حينئذ هو جمال عبد الناصر.
ورغم أن المبدأ ذاته مازال الحاكم الفعلي في علاقة الطرفين إلى الآن، في مواجهة كل من إيران وتيار الإسلام السياسي بشكل عام، إلا أن أبعاداً عسكرية واقتصادية باتت تُشكل أركاناً أساسية في هذا التطبيع، الذي بدأ يتجه نحو العلنية والكمال.
جذور العلاقات السعودية الإسرائيلية
في مقال تحليلي نشر على موقع “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى”، بعنوان “الروابط بين إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي بعد خمسة وعشرين عامًا من حرب الخليج الأولى”، تمت الإشارة إلى أن العلاقات بين السعودية وإسرائيل تعود إلى زمن بعيد حتى قبل إنشاء “مجلس التعاون الخليجي” في الثمانينات، عندما جرى تأسيس قناة خلفية سعودية إسرائيلية تولى مسئوليتها رئيس المخابرات السعودية آنذاك، الأمير تركي الفيصل.
لكن، يبدو أن هذه القناة كانت قائمة بالفعل قبل ذلك، وبالتحديد بين عامي 1965 و1979، و عُهدت إلى الشيخ “كمال أدهم” عندما كان رئيسًا لـ “مديرية المخابرات العامة”.
وذكر الباحث ألكساندر بلاي من معهد ترومان في مقال كتبه في مجلة العلوم السياسية الفصلية، The Jerusalem Quarterly، تحت عنوان “نحو تعايش إسرائيلي-سعودي سلمي”: إن المملكة السعودية وإسرائيل قامتا ببناء علاقة حميمة، وكانتا على اتصال مستمر في أعقاب حدوث ثورة اليمن عام 1962، بهدف منع عدوهما المشترك (أي جمال عبد الناصر) من تسجيل انتصار عسكري في الجزيرة العربية.
ما أكده دوري غولد، المستشار السياسي لبنيامين نتنياهو، عندما قالإن جذور العلاقة السعودية الإسرائيلية تمتد إلى ستينيات القرن الماضي، عندما وجد الطرفان نفسيهما في نفس الصف في مواجهة مصر الناصرية.
ونقل غولد عن بروس رايدلي، الذي كان من كبار المختصين في “وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية” بشئون الشرق الأوسط، قوله إن مدير المخابرات السعودية “كمال أدهم” هو من أشرف على نقل السلاح الإسرائيلي لقوات الإمام أحمد، مشيراً إلى أن طائرات نقل إسرائيلية نقلت كميات كبيرة من السلاح لقوات الإمام في الفترة بين عامي 1964 و1966.
وقال الجنرال الأمريكي، جورج كيفان، رئيس مخابرات سلاح الجو الأمريكي السابق،في مؤتمر عقد في واشنطن عام 1978 لدراسة التوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط: “حدثت خلال الخمسة عشر عامًا المنصرمة ثلاث محاولات على الأقل للإطاحة بالعرش السعودي عن طريق اغتيال الملك، ونحن على دراية بأن المخابرات الإسرائيلية تدخلت وأحبطت محاولتين منها”.
الطريق إلى التطبيع العلني
يمكن القول إن جذور العلاقات الإسرائيلية السعودية نمت على خلفية واقع إقليمي مختل في غير صالح السعودية، وذلك في حقبة مصر الناصرية، التي هددت مصالحها السياسية، وحازت على النصيب الأكبر من النفوذ الإقليمي. لذا، ربما كان التعاون التاريخي بين السعودية وإسرائيل حينئذ ضرورة سياسية.
لكن، بعد انتفاء هذه الأسباب التاريخية، استمر هذا التعاون، لتدخل السعودية مرحلة التطبيع “شبه الكامل وشبه العلني” مع إسرائيل منذ تسعينات القرن الماضي:
1- كشفت وثائق ويكيليكس عن إحدى البرقيات المؤرخة بتاريخ 27 إبريل 2005، أشار فيها وكيل وزارة الخارجية السعودية إلى قرار مجلس الوزراء السعودي رقم 5 المؤرخ بـ 13يونيو 1995، الخاص بإيقاف مقاطعة إسرائيل من الدرجة الثانية والثالثة، والاكتفاء فقط بالدرجة الأولى التي بموجبها تقاطع المملكة الشركات الإسرائيلية بالكامل، وليس التي تملك فيها إسرائيل أو أشخاص يحملوا الجنسية الإسرائيلية حصة معينة، أو الأجنبية التي تتعامل مع الشركات الإسرائيلية طبقاً للدرجة الأولى، ما يعني أن السلطات السعودية ومنذ منتصف التسعينيات سمحت للشركات التي لها علاقة بإسرائيل بالعمل داخل المملكة في مختلف المجالات.
2- تنقل إحدى وثائق ويكيليكس، الصادرة من السفارة الأمريكية في تل أبيب، مؤرخة في تاريخ يناير 2010، حديث منسوب للأكاديمي الإسرائيلي يائير هيرشفيلد (أحد المساهمين في اتفاق أوسلو) الذي يرأس مؤسسة التعاون الاقتصادي التي تهدف إلى إحلال السلام، يتحدث فيه عقد ثلاثة لقاءات على الأقل مع رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية بالسعودية،اللواء المتقاعد أنور عشقي، ضمن ما يعرف باسم “المسار الثاني” للمفاوضات، و تمحورت أفكار عشقي – حسب زعم الوثيقة – حول فكرة منح غزة وضعاً جديداً مستقراً وشبه مستقل، ونزع سلاح حماس في مقابل الاعتراف بالحركة كحاكم للقطاع ومساعدات اقتصادية كبيرة لتطوير البنى التحتية.
3- عام 2010، جرى الإعلان عن تعاون اقتصادي بين مجموعة IDB الإسرائيلية الضخمة التي كان يرأسها الملياردير الإسرائيلي “نوحي دانكنر” من جهة، وجهاز قطر للاستثمار ومجموعة العليان السعودية من جهة أخرى، ما نشرته صحيفة “الفاينانشال تايمز” أيضاً.
4-الأمير لواء ركن نايف بن أحمد بن عبد العزيز، أحد أهم القادة العسكريين السعوديين، متخصص في مجالات العمليات الخاصة والحرب الإلكترونية، قام في منتصف 2012 (كان يحمل رتبة عميد آنذاك) بكتابة مقال في أحد المجلات التابعة للقوات المشتركة الأمريكية، تحدث فيها بإيجابية عن إسرائيل وعن ضرورة تقوية العلاقات بين بلاده و تل أبيب، مادحاً الرئيس الإسرائيلي السابق، شيمون بيريز، مؤكداً على ضرورة أن يستثمر الجانبين في تقوية أواصر التعاون والتلاقي بين الفلسطينيين والعرب عموماً والإسرائيليين.
5- أثار تركي الفيصل الجدل حين صافح نائب وزير الخارجية الإسرائيلي المتطرف “داني أيالون” مطلع 2010.وتكررت مبادرات الفيصل تجاه إسرائيل وتضمنت لقاءاته العلنية مع مسئولين إسرائيليين كان أحدها في مايو 2014 مع المسئول الاستخباراتي الإسرائيلي “عاموس يادلن” الذي قاد الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أثناء حرب غزة الأولى (2008-2009). وقبل أقل من ثلاثة أسابيع على بدء الحرب الثالثة، في 2014، كتب الفيصل لـ”مؤتمر إسرائيل للسلام” مقالاً يدعو للتطبيع، وقال: ” أحلم بيوم أتمكن فيه من توجيه الدعوة، ليس للفلسطينيين فقط، بل للإسرائيليين، للمجيء وزيارتي في الرياض”.
سلمان..قائد التحول
رغم كل ما سبق من خطوات تطبيعية – تصل أحياناً لمرحلة التحالف الوثيق – بقي هذا التطبيع قيد التقارير الصحفية، التي قد تخلق حالة من الجدل المؤقت، دون أن يكون هناك أي رد فعل سياسي لتأكيد أو نفي هذه التقارير، ما يجعل أثارها تتلاشى مع الوقت.
لكن، جاء الملك سلمان و إبنه محمد على رأس القصر السعودي في يناير 2015، متجاوزين فكرة سرية التطبيع في سبيل دعم مصالحهم الشخصية ومصالح المملكة.
فمنذ اليوم للتطبيع السعودي الإسرائيلي، بدا أن المملكة لم ترى يوماً أن الوجود الإسرائيلي يُهددها أو يهدد مصالحها وتراتبية الحكم لديها. فحينما كانت السعودية لا ترى في إسرائيل “الصديق” في لحظات تاريخية محددة، فإنها لم تكن تراها عدواً.
لذلك،كانت السعودية تاريخياً تستعين بإسرائيل في مواجهة أعدائها الإقليميين، مثلما فعلت مع عبد الناصر. وحالياً ومع انطلاق موجات الربيع العربي، بات هناك أكثر من طرف إقليمي يُهدد مصالح المملكة، وهي ذات الأطراف التي تؤرق الوجود الإسرائيلي.
تأتي إيران على رأس هذه الأطراف، وقد تعقّد الوضع أكثر، مع توقيعها الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة، وجنوح الأخيرة لمهادنة الجمهورية الإسلامية، وتطبيع العلاقات الاقتصادية معها.
ثم لاح خطر الإخوان المسلمين، الذين باتوا الرقم الأهم في معادلة الحكم في العديد من دول الربيع العربي، مُهددين بذلك أنظمة الحكم الملكية، وعلى رأسها السعودية. وكذلك أُصيبت إسرائيل بالارتباك، وشعرت بالتهديد من سياسات الإخوان المسلمين التي قد تهدد مصالحهم.
واستناداً على ما سبق، باتت حماس هي الأخرى مصدر تهديد للسعودية – إضافة إلى إسرائيل بالطبع – نتيجة تنامي شعبيتها السياسية في المنطقة، وهي الفصيل الذي يتلقى الدعم المالي و اللوجستي من إيران، الذي ترى السعودية أنها قد تكون أداة إيرانية جديدة في المنطقة.
ومنذ الأشهر الأولى التي تسلم فيها سلمان مقاليد الحكم، عقد السعوديون والإسرائيليون سلسلة من الاجتماعات السرية غير الرسمية، لمناقشة استراتيجيات مواجهة النفوذ الإيراني، وبحسب صحيفة “هافنغتون بوست” تم عقد أحد هذه الاجتماعات في (لكناو – الهند)، وتم تنظيمه من قِبل مؤسسة فكرية بارزة في دلهي. حيث كان الوفد الإسرائيلي مكونًا من أعضاء مركز القدس للشئون العامة (JCPA)، والوفد السعودي مكوناً من أعضاء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية والقانونية (MECSTS).
وتضيف الصحيفة بأن اللواء المتقاعد أنور عشقي، كان هو من ترأس الوفد السعودي. وفي العام التالي، تكللت هذه المحادثات السرية بزيارة اللواء عشقي لإسرائيل في يوليو 2016، وتحديداً القدس المحتلة، حيث التقى بمدير عام وزارة الخارجية، دور غولد، الذي صار صديقه منذ وقت طويل، والتقى كذلك مسئول التنسيق الأمني في الضفة الغربية المحتلة، يوآف مردخاي.
«تيران وصنافير» وتطبيع اقتصادي عسكري
في ظل العوامل سالفة الذكر، يبدو أن السعودية وإسرائيل رغبا في تعضيد علاقتهما، من خلال اختراق المستويين العسكري والاقتصادي، وكذلك الانتقال إلى مرحلة العلاقات العلنية الرسمية،خاصة وأن هناك تقاريرا تفيد بسعي السعودية للحصول على تعاون إسرائيلي في إدارة مضيق باب المندب وخليج عدن لقطع إمدادات إيران عن الحوثيين. وأنها، أيضاً، وقعت مذكرة تفاهم لشراء ونصب منظومة القبة الحديدية ومنظومة صورايخ “حيتس” عبر الشريك المُصنع “رايثيون” للصناعات الدفاعية وهي شريك مع شركة رفاييل الإسرائيلية.
ومن هنا، جاء دور جزيرتي “تيران وصنافير” لتصبحا مدخل التطبيع العلني بين السعودية وإسرائيل. فوفقاً لما أورده تقرير “المونيتور” على لسان مصدر مُطلع داخل القصر السعودي، فإن طلب الحصول على الجزيرتين من مصر لم يكن طلب سعودياً خالصاً، بل هو طلب إسرائيلي نفذته السعودية،وهو الطلب الذي تم تقديمه عبر مسئولين إسرائيليين لمساعدي الملك سلمان خلال عطلة الصيف التي قضاها في مدينة كان الفرنسية عام 2015.
وبالنسبة لإسرائيل، فالجزيرتان تشكلان أهمية كبيرة، فهما الضامن الأساسي لحرية الحركة في الممرات الملاحية التي تستخدمها إسرائيل للاستيراد والتصدير، حيث أنهما يتحكمان في حركة المرور من وإلى ميناء إسرائيل الجنوبي في إيلات. ومضيق تيران الذي تشرف عليه الجزيرة هو الممر البحري الهام إلى الموانئ الرئيسية من العقبة في الأردن إلى إيلات في إسرائيل.
ومن المفترض أن نقل تبعية الجزيرتين للسعودية، يستتبعه تحول هذه المنطقة إلى مياه دولية، ستكون اليد العليا فيها لإسرائيل، خاصة وأنه من المتوقع أن يكون هناك طلب أمريكي-إسرائيلي بالاشتراك في إدارة الجزيرتين بذريعة خشية تدهور الأوضاع في سيناء.
وفي خضم ترتيبات نقل جزيرتي “تيران وصنافير” إلى السيادة السعودية، والتي كان أخرها تصديق الرئيس المصري على الاتفاقية المتعلقة بهذه الترتيبات في 24 يونيو 2017، جاء الكشف عن محادثات اقتصاديةبين إسرائيل والسعودية.حيث أكدت صحيفة “ذا تايمز” البريطانية أن الطرفين يُجريان محادثات لإقامة علاقات اقتصادية، ستبدأ صغيرة وذلك من خلال السماح للشركات الإسرائيلية بالعمل في الخليج، والسماح لشركة الطيران العال الإسرائيلية، بالتحليق فوق المجال الجوي السعودي.
ووفقا لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تجري اتصالات سرية مع السلطة الفلسطينية والسعودية والأردن لتنسيق أول رحلة طيرانلحجاج فلسطينيين من مطار “بن غوريون” إلى السعودية.
وفي إبريل الماضي، عرض وزير النقل والاستخبارات الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، على جيسون غرينبلات، ممثل الرئيس الأمريكي، خطة “سكة قطار السلام الإقليمي”، والتي تتحدث عن ربط إسرائيل بالأردن ومنها بالسعودية ودول الخليج عبر شبكة سكك حديد تسمح للدول العربية بمنفذ إلى البحر المتوسط. وهو المشروع الذي ستموله شركات خاصة بهدف الربح المالي.
ختاماً، يمكن القول أن الخطوات التطبيعية الواسعة التي اتخذتها المملكة مؤخراً، كانت في ظل وجود محمد بن سلمان، كحاكماً فعلياً للبلاد، وفقاً للعديد من التقارير الدولية. وبعد تولي بن سلمان ولاية العهد، ورصد الاحتفاء الإسرائيلي الشديد بهذه الخطوة. فمن المتوقع أن يتخذ بن سلمان خلال السنوات القادمة خطوات متقدمة للغاية في علاقته بإسرائيل، لم يسبقه بها أحداً من قادة الدول العربية تاريخياً.
بقلم : محمد محمود السيد
ارسال التعليق