بعد دورها في إثارة الفتن وفي قتل آلاف العراقيين...السعودية تسخن علاقاتها مع العراق!!
لو تسأل أصغر مواطن عراقي عن دور النظام السعودي في مأساة الشعب العراقي المتواصلة منذ سقوط النظام الصدامي عام 2003، وحتى اليوم، يجيبك بسرعة، بأن السلطات السعودية مارست طيلة الفترة، وما تزال دوراً تخريبياً ضخماً في العراق، فهي التي أرسلت قطعان التكفيريين إلى هذا البلد، بعد أن دربتهم وسلحتهم ومولتهم وغسلت أدمغتهم بالفكر الوهابي، وهيأتهم للانتقام من أصل العراق من المدنيين العزل، وسلحتهم بفتاوى العشرات من علماء الوهابية السعوديين، التي حللوا فيها العراقيين وسبي نسائهم ومصادرة ممتلكاتهم، والسلطات السعودية هي التي مولت وأشرفت على عمليات التفخيخ واستهداف الأسواق والمراكز المدنية المكتظة بالناس، وعلى عمليات تفجير هذه المراكز والمناسبات وما إلى ذلك، مما أدى إلى استشهاد الآلاف من العراقيين الأبرياء، غير الجرحى، وغير الخراب والدمار الذي طال ممتلكات المواطنين العراقيين وأسواقهم وبيوتهم ودوائرهم و.و.والسلطات السعودية هي التي احتضنت البعثيين وسلحتهم ودفعتهم لمحاربة الحكومات العراقية، وسلب الأمن والاستقرار من هذا البلد. وهي المسؤولة عن إثارة الفتن الطائفية والمذهبية والمناطقية والسياسية بين الشرائح السياسية والاجتماعية والعرقية العراقية. وفي الحقيقة القائمة طويلة جداً لا تستوعبها هذه الأسطر. أما الحكومة العراقية، أو الحكومات العراقية، فهي اتهمت السعودية صراحة بهذا الدور التخريبي والمعادي للعراق ولشعبه، وأعلن أكثر من مسؤول عراقي، بدءاً من رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، ومروراً ببعض من نواب مجلس البرلمان العراقي، الوزراء وانتهاءاً بأصغر موظف أمني عراقي، أعلنوا أن لدى الحكومة العراقية وأجهزتها الأمنية سجناء ومعتقلين إرهابيين وقتله سعوديين، ولديها أدلة ووثائق دامغة ومؤكدة على النظام السعودي في صنع ومفاقمة مأساة العراقيين، وفي محاولاته المستمرة لنسف الاستقرار الأمني والسياسي في هذا البلد، والاستمرار في التدخل بشؤوناته الداخلية. أما الحملة الإعلامية السعودية ضد العراق ونظامه السياسي ونعته تارة بالعراق " الصفوي " وبالطائفي تارة أخرى، ومحاولة تشويه وتضليل الرأي العام بخلق وقائع وهمية تسوغ للسعودية عدائها المستحكم والمتواصل لهذا البلد وشعبه فهي معروفة.... فحتى الأمس القريب كان ثامر السبهان السفير السعودي الذي أرسلته السلطات السعودية كأول سفير لها في بغداد بعد هذه القطيعة الطويلة كان يتدخل بفظاظة وعدوانية بالشأن الداخلي العراقي ما اضطر الحكومة العراقية إلى طرده من البلاد...
بعد كل هذا العداء، وكل هذا الجهد السعودي التدميري والانتقامي من العراق..ماذا تعني الاستدارة السعودية، نحو العراق، ليصبح العراق " الشقيق " والعريق في عروبته بعد أن كان " صفوياً " و" ايرانيا " و" مجوسياً " وما إلى ذلك من النعوتات والأوصاف، التي يطلقها آل سعود وإعلامهم على العراق والعراقيين !! هل تغيّر العراق؟ وهل تغيّر نظامه السياسي؟ وهل غادر مواقعه السابقة، التي اتهم على خليفتها " بالصفوية " و"بالرافضي " وما إلى ذلك؟ لم يتغير العراق مطلقاً، ولكن ما الذي حدا بالسلطات السعودية إلى هذه الاستدارة، وتأسيس مجلس تنسيقي مشترك بين البلدين مكون من سبعة وزراء و19 بين وكيل وزير ومدير عام ومستشار، ويحضر الملك سلمان بنفسه افتتاح هذا المجلس!؟
وقبل تحليل دوافع هذه الاستدارة، تجدر الإشارة إلى أن هذه الاستدارة كانت قد حصلت منذ زيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير المفاجئة قبل عدة أشهر، والتي توقع الكثير، ان العلاقات بعد هذه الزيارة بين البلدين سوف تأخذ زخماً تصاعديا، غير أن الذي حصل هو عكس تلك التوقعات..حيث تراجع الحماس السعودي، وتجمدت الاتفاقات والوعود السعودية، حتى إشعار آخر، حيث أعلن المسؤولون العراقيون أن أي شيء لم ينفذ من تلك الوعود، ويبدو لي أن أمرين يقفان وراء هذا التراجع هما :
1- إن النظام السعودي يرى بأن العراق سوف يقسّم وبالتالي فأن المشهد في هذا البلد سيتغير، وسيتغير معه المشهد في المنطقة برمتها، وفي حينها كان ثمة تحرك واضح من جماعة مسعود البارزاني في هذا الاتجاه، كما أن الدعم والحماس الصهيوني كان هو الآخر واضح، ورئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو قد صرح أكثر من مرة بدعم الأكراد، وبدعم انفصالهم عن الجسم العراقي لتحقيق مصالح استراتيجية للكيان الغاصب، لم يتردد الصهاينة في الإفصاح عنها وأهمها تحويل " كردستان العراق المستقلة " إلى منصة للانطلاق باتجاه الأضرار ببعض دول المنطقة. واللافت أن النظامين السعودي والإماراتي انضما إلى هذا الدعم سراً..وفي هذا السياق يقول موقع (ميدل إيست آي)..."وبالنسبة للخطاب المعلن كان موقف السعودية هو دعم وحدة العراق، إلا أن السعودية أرسلت أربعة مبعوثين إلى مسعود بارزاني لتشجيعه على المضي بمشروع تقسيم العراق، وبالتالي تهديد مصالح تركيا وإيران، وكان الجنرال المتقاعد أنور عشقي، الذي يشغل حالياً منصب رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط في جدة أحد هؤلاء المبعوثين السعوديين " ويضيف الموقع الآنف قائلاً " كان عشقي صريحاً حول منطق المملكة، حيث قال لمجلس العلاقات الخارجية إن ( إنشاء كردستان الكبرى بالوسائل السلمية سيؤدي إلى تقليص الطموحات الإيرانية والتركية والعراقية، وسيحول ثلث أراضي كل من هذه الدول إلى تبعية دولة كردستان. وكرر عشقي دعمه لدولة كردستان المستقلة باتصال هاتفي مع وكالة سبوتينك الروسية، حيث قال " إن المملكة لن تقف في طريق إرادة الشعب، وأعتقد أن الأكراد لهم الحق في أن يكون لديهم دولة مستقلة." على حد قوله. موقع ميدل ايست آي أشار أيضاً إلى أن السعودية كانت قد أرسلت رسالة أخرى في نفس السياق في شهر آذار/مارس الماضي، حيث قال مستشار الديوان الملكي السعودي عبد الله الربيعة، لصحيفة عكاظ إن كردستان تتمتع بقدرات اقتصادية وثقافية وسياسية وعسكرية عالية، ومن المستحيل على إيران وتركيا تقويض حلم كردستان بالانفصال. مايعني كل ذلك أن النظام السعودي كان يتوقع إلى حد كبير نجاح مشروع انفصال كردستان العراق، ومن ثم تتالي عملية تجزئة وتقسيم تركيا وإيران وحتى العراق نفسه، حيث يقسم وفق الخريطة التي وضعها الصهاينة والاميركان إلى ثلاث دويلات سنية وشيعية وكردية. ذلك خاصة مع كل هذا الدعم والحماس الذي أبداه وأعلنه الصهاينة لمشروع الانفصال الكردي في شمال العراق.
2- كان السعوديون موعودون على ما يبدو من حلفائهم الصهاينة أو من الأمريكيين أنفسهم، أو حتى من كليهما، أن ترامب سيعلن عن التخلي عن الاتفاق النووي الإيراني وإعادة الوضع في المنطقة إلى المربع صفر، حيث سيتغير بنظر هؤلاء المشهد في المنطقة وستتغير معه الأولويات، وستكون مواجهة إيران، أو شن حرب عليها تحظى بالأهمية القصوى أو الأولوية في السياسات والخطط الأمريكية والصهيونية القادمة، وعلى خلفية هذا التصور وجدت السلطات السعودية انه من الأجدر التفاعل مع هذه المواقف الجديدة ومنحها زخماً وغطاءاً عربياً وسعودياً، والتوقف عن الخطوات الانفتاحية الخجولة تجاه العراق وإيران، حيث أرادت السعودية من العراق أن يكون وسيطاً بينها وبين إيران في ذلك الوقت.وما تقدم يفسر لنا، دعم الحملة الإعلامية السعودية لتهديدات ترامب ووعوده بإلغاء الاتفاق، والتطبيل لها، لدرجة أن صورت هذه الحملة الإعلامية أن الحرب مع إيران باتت قدراً مؤكداً، وان الأمور تتجه الصدام بين إيران والولايات المتحدة !!.
خيبة أمل السعوديين
المشكلة بالنسبة للسعوديين، هي أن الأمور لم تمض وفق تصوراتهم، فمحاولة بارزاني للانفصال عن العراق أجهضت ،فتلاشت الأحلام الصهيونية والسعودية، لا بل إن الصهاينة والاميركان تركوا حليفهم مسعود البارزاني وحده في مواجهة غضب عراقي وإقليمي، وبالتالي تلاشي وفشل المشروع البديل لداعش، وهو إقامة إقليم كردستان وإعلانه الانفصال لاستنزاف المنطقة، ومحور المقاومة بشكل خاص.. هذا من ناحية ومن ناحية ثانية أن ترامب لم يمزق الاتفاق النووي، بل إن حملته على هذا الاتفاق وامتناعه عن توقيع التزام ايران بالاتفاق عزلته حيث رفض شركاؤه الاوربيون هذا الموقف واعتبروا محاولات ترامب غير قانونية ولا مبرر لها مطلقاً مؤكدين استمرارهم في تأييد هذا الاتفاق، وادى هذا الموقف إلى معارضة أمريكية داخلية لإجراءات ترامب التصعيدية، حتى على الصعد العسكرية مع إيران.
هذه التطورات شكلت خيبة أمل وإحباط كبيرين للنظام السعودي، ولذلك قرر الاستدارة مرة أخرى نحو العراق، وشهدنا تبادل الزيارات والوفود لكلا البلدين، والتي حظيت باستقبال سعودي مميز واهتمام كبير بهذه الزيارة، التي شهدت ولادة تشكيل مجلس تنسيق مشترك بين البلدين كما أشرنا...هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، وجد النظام السعودي نفسه بالإضافة إلى خيبة أمله وإحباط من فشل المشاريع الأمريكية والصهيونية، محاطاً بمخاطر كبيرة وجدية، سيما مع تلاحق الانتصارات التي يحققها محور المقاومة في سوريا والعراق وفي مناطق أخرى، ولعل أهم تلك المخاطر، هي الحرب التي يشنها النظام على اليمن من ثلاث سنوات، والتي تكبد فيها النظام خسائر مادية وبشرية فادحة فيما اخفق في تحقيق ادنى أهدافه من هذا العدوان، فنتيجة لضغوط هذه الحرب المتواصلة نفسياً وعسكرياً ومالياً على النظام، وصل هذا الأخير إلى قناعة إيقافها والانسحاب منها قبل أن تؤدي إلى تداعيات خطيرة قد تهدد مستقبل وجود الأسرة الحاكمة نفسها، غير ان الولايات المتحدة الأمريكية ترفض إيقاف الحرب، وتفرض على النظام السعودي مواصلتها، الأمر الذي ادى بالملك سلمان إلى التوسل بالروس في زيارتة الأخيرة لموسكو من أجل إقناعهم أي الروس، الاميركان لإيقاف هذه الحرب. وأيضاً التحرك الدبلوماسي السعودي على العراق، يدخل في اطار هذه المساعي السعودية لإيجاد مناخات سياسية إقليمية مناسبة لإيقاف حرب اليمن، ولإقناع الحوثيين بالتوقف عن مواصلة مواجهة العدوان، عن طريق تدخل حلفائهم وأصدقائهم في المنطقة.
إذن، الاستدارة السعودية نحو العراق، المراد منها ربما يهدف الى أن يكون الأخيرة جسراً للنظام السعودي نحو التهدئة مع إيران، ووصولاً إلى حلحلة بعض ملفات المنطقة، بما يحصن النظام في تقلبات المشهد الذي يتجه نحو اندحار كبير للمشاريع الأمريكية والصهيونية، وانكشاف لعملاء أمريكا وبالتالي إمكانية تعرضهم لأخطار جدية. هذا أولاً، وثانياً...إن هذه الاستدارة لا يعني أن النظام السعودي تخلى عن عدائه للعراقيين وللمنطقة وعن مخططات أسياده الأميركان والصهاينة مطلقاً، ولكن انتقل من المرحلة الخشنة، إذا جاز التعبير، باستخدام التكفيريين وبقية الأساليب الأمنية والعسكرية والتدخلات المباشرة وغير المباشرة، إلى المرحلة الناعمة، باستخدام الأساليب الناعمة من تغلغل اقتصادي وسياسي واستثمارات داخل النسيج العراقي بهدف إثارة الفتنة والانقسامات الداخلية، وإيجاد عملاء جدد، وإنشاء تشكيلات سرية جديدة معادية لتطلعات العراقيين، ذلك أن الاميركان والصهاينة لديهم استراتيجية ثابتة تجاه العراق، بعدم السماح له بالاستقرار والثبات، إنما لابد أن يظل يستنزف نفسه، من خلال مكائد عملاء أمريكا والصهيونية، ولعل ذلك يفسر حضور وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون مراسم افتتاح مجلس التنسيق السعودي العراقي المشترك، حيث فضح تيلرسون من خلال تصريحاته المعادية للقوات الشعبية العراقية، أن التقارب السعودي مع العراق يجري بدفع أمريكي أيضاً من أجل التغلغل والتأثير في الجسم العراقي بما يقوض ما يسمونه النفوذ الإيراني. وهذا ما يؤكده تصريح لوزير عراقي لم يذكر اسمه لموقع " العربي الجديد "في 22/10/2017، حيث قال أن القمة العراقية السعودية جرت برعاية أمريكية، وأضاف أن " واشنطن ضغطت على بغداد من أجل اتخاذ خطوات جديدة حيال تطبيع أكثر للعلاقات بين البلدين، خاصة بعد فتور وتراجع شهدته العلاقة بالأسابيع الماضية "
ووصف الوزير الاجتماع العراقي السعودي بأنه " موجه سياسياً بالدرجة الأولى نحو إيران، ويصب في صالح السعوديين والأمريكيين بالدرجة الأولى، لا في صالح بغداد".
ما يعزز ذلك، ما قاله إتش آر ماكماستر، مستشار ترامب للأمن القومي الأسبوع الماضي حول أن السعودية يمكن أن تلعب دوراً محورياً في احتواء العراق وسحبه من " دائرة النفوذ الإيراني" بحسب زعمه. ولهذا حددّ تيلرسون تحسين العلاقات السعودية العراقية كأولوية في السياسة الأوسع للإدارة الأمريكية لمواجهة إيران.
على أي حال، السعودية بدأت خطواتها تجاه العراق بإيفاد وفد سعودي اقتصادي مكون من200شخصية برئاسة وزير النفط خالد الفالح يرافقه رؤساء كبرى الشركات السعودية، وصل إلى العراق في الوقت الذي كان العبادي في الرياض...
ورغم ذلك، فإن العراقيين يقظين ويعون جيداً، ان الانفتاح السعودي المعمد بالدعم الأمريكي يجري ضمن لعبة جديدة تستهدف العراق واستقراره، وهذا ما أشار إليه النائب العراقي وعضو التحالف الوطني منصور البعيجي في تصريحاته عن زيارة العبادي للسعودية حيث قال إن أي اتفاقات للعبادي مع السعودية مقيدة بالبرلمان، وأضاف " لدينا مشاكل مع السعودية وأدلة على الإرهاب طيلة السنوات الماضية، ويمكن القول انه من غير السهل فتح صفحة جديدة معها دون اعتذار رسمي وتعويض لأسر الضحايا العراقيين، وتصويت داخل البرلمان العراقي على أي اتفاق جديد مع السعودية يتوصل إليه رئيس الوزراء العبادي في زيارته للسعودية.." وبالتالي فأن العراقيين سوف يفشلون تلك المحاولات الناعمة للسعوديين والأميركان، بعد ان أفشلوا أساليبهم الخشنة.
عبد العزيز المكي
ارسال التعليق