العوامية.. خريف سعودي مشتعل
تتعرض أهالي المنطقة الشرقية في السعودية التي تضم أغلب ثروة المملكة من النفط، للتمييز السلبي والتهميش في جميع مناحي الحياة؛ بداية من الخدمات الأساسية والتنمية العامة وتنمية البنية التحتية، وصولاً إلى حرمانهم من وظائف بعينها ومن تملُك الأرض واستصلاحها في مناطقهم، وكل المناشدات كان مصيرها التجاهل أو المماطلة، وصولاً إلى المأساة الحالية في بلدة العوامية بمحافظة القطيف.
ظاهريا، تزعم سلطات المملكة أن العملية تهدف إلى “تطوير” حي المسورة العريق بالعوامية الذي يعود بناؤه إلى حوالي 400 عام، الأمر الذي يجعله أثرا تاريخيا بالنظر إلى عمر الكيان السعودي، ما يستلزم طرد جميع سكانه لإخضاعه لعملية إعادة بناء، مع تعويضات زهيدة لآلاف الأسر المتضررة من فقراء السعوديين المتركزين إلى حد كبير في القطيف أصلا، حيث تدني الخدمات والتهميش والإقصاء المجتمعي والاضطهاد المذهبي.
عن القطيف والأحساء، لا يتوقف الاضطهاد على جانب “ثقافي” معنوي مذهبي، إنما ينطلق التهميش والتمييز السلبي من الواقع أساساً وما يشمله من احتكار مطلق من النظام السعودي للسلطة والثروة، مع تركّز لهذا بخصوص المنطقة الشرقية حصراً، حيث التضييق على البناء والإسكان في المنطقة بتقليص الحدود الإدارية لمنطقة القطيف ومنع البناء أو إعادة البناء فيها إلا بإذن من شركة آرامكو، وصرف مخلفات المصانع الكيماوية والصرف الصحي في البحر، ومنع زراعة واستصلاح ما يُسمى في البيئة السعودية بـ”الأراضي البيضاء” المتاخمة للمناطق الزراعية والسكانية مما يدفع السكان إلى تجريف أراضيهم الزراعية، إذا ما اضطروا إلى البناء، بالإضافة إلى تعمُد إهمال الوضع الزراعي كليّاً والذي يحتاج بطبيعته إلى عناية شاملة لضمان إنتاجية وجودة المحاصيل بل واستمرار الزراعة أصلاً في مواجهة ما يصيب المزروعات من أمراض أو آفات.
لم يكن المعارض السعودي الشيخ نمر نمر، الذي اُعدِم عام 2016 لانتقاده النظام في المملكة مبتكِراً للاحتجاج بالقول على الاضطهاد المذهبي، فشهد عام 2011، بموازاة “الربيع العربي”، تظاهرات في المنطقة الشرقية طالبت بإنهاء التمييز المذهبي والطائفي والاجتماعي وجاءت في مناخ بالغ الخطورة على الحكم هناك نظراً لوضع إقليمي كامل، وقبلها بعقود شهد عام 1979 تظاهرات كادت أن تتحول لانتفاضة كاملة وأثمرت بعد فترة طويلة عن تفاهم هش أقامه الملك فهد بن عبد العزيز مع قوى المعارضة في المنطقة الشرقية عام 1994 بعد حوار استغرق عامين.
وفي أواخر نوفمبر عام 2011، سقط أول شهيد برصاص قوات أمن المملكة هو الشاب ناصر المحيشي، وتبعه شهيدان في اليوم التالي برصاص قناصة، كنتيجة طبيعية للدفع بجحافل أمنية مسلحة بالذخيرة الحية إلى الشوارع في مواجهة مطالب لم تتجاوز الإفراج عن 9 معتقلين قضوا 16 عاماً في السجن بلا اتهام ولا محاكمة، بالإضافة إلى رفض التمييز الطائفي والإساءة المذهبية المتكررة والثابتة في أجهزة الدولة والإعلام والمناهج التعليمية، بسقوط الشهداء انفجر الوضع في القطيف وحُرقت صور الملك عبدالله ليتسع الاحتجاج وينحو إلى موقف أكبر مضاد للسلطة.
تحوّلت مطالب أهل المنطقة الشرقية إلى تطلعات سياسية مع تتابع سقوط الشهداء والجرحى والمعتقلين، فطالبوا بالمشاركة السياسية في الإدارة المحلية لشؤون المنطقة وإقرار الخطط التنموية الشاملة للمناطق ذات الأقلية الشيعية التي استثنيت دائماً وطوال 7 عقود من خطط التنمية والتطوير والإعمار، وتمسّك المتظاهرون بإطلاق سراح جميع السجناء السياسيين سنة وشيعة، وكعادتهم، قابل آل سعود التصعيد الشعبي بدموية أكثر فدفعوا بالمدرعات إلى الشوارع والأحياء السكنية لترتفع أعداد الشهداء والجرحى والمعتقلين مع اتهام السلطة لمسلحين مندسين وسط المتظاهرين بإطلاق الرصاص، وهو ما كذّبه المتظاهرون بتوثيقهم للأحداث بمقاطع فيديو وصور فوتوغرافية، ما دفع القوات الأمنية إلى استهداف المصورين واغتيالهم بهدف منع التوثيق، فتم اغتيال أربعة مصورين فوتوغرافيين هم علي الفلفل وأكبر الشاخوري وزهير السعيد وحسين الفرج، ولجأ أمير المنطقة الشرقية محمد بن فهد، قبل عزله في يناير 2013، إلى استمالة مقرّبين من النظام في الأحساء والقطيف واستخدامهم في اصطناع “قوى محلية” مزيّفة تصوّر أنها تمثل الأهالي وهو ما مُني بفشل واضح، إذ كان هؤلاء ممثلين لسلطات المملكة.
منذ وقتها وحتى الآن، لم يفوّت نظام آل سعود، بطائفيته ومذهبيته، فرصة ترديد الاتهامات لأهل المنطقة الشرقية بالعِمالة للخارج والخيانة الوطنية، اتهامات ينفيها الواقع، كما ينفيها الصمت الدولي والأممي المريب والمفهوم منطقياً في آن واحد، وينفيها أيضاً أنها تكررت بعد الأزمة السعودية الخليجية مع قطر، حيث تم اتهام المحتجين في القطيف بدعم قطر وهي دولة سنّية بالكامل، بل كانت إلى وقت قريب في تحالف مع السعودية، ويمارس إعلامها شحناً طائفياً مذهبياً مماثلاً للشحن الذي تقوم به وسائل إعلام المملكة، والذي لم تكتفِ المملكة بممارسته ضد شعوب مجاورة بل وجّهته ضد مواطنيها أنفسهم، متجاهلة حقيقة أنها تُحكَم أصلاً من قِبل أقلية، وإن كانت غير مذهبية، وهي أقلية نجدية وهابية، فضلاً عن اضطهادها لجميع معارضيها السنّة واتهامهم أيضاً بالخيانة والارتباط بالخارج في مواجهة مطالب بسيطة ومشروعة.
ارسال التعليق