الاستراتيجية السعودية في استلاب الضمير العربي
[ادارة الموقع]
سعيد محمد
جنباً إلى جنب مع أسلحة الدّمار الشامل، والموارد الطبيعيّة، والتكنولوجيّات المتقدمة ورأس المال، يضع المفكر المصري الراحل سمير أمين الإعلام بوصفه المكمل لمصادر القوّة التي يمتلكها المركز الرأسمالي المهيمن في مواجهة الأطرف المهمشة في الجنوب. وهي المصادر التي لا يتهاون المركز مطلقاً في أمر تسرّب أيّ منها للآخرين. هذه الحقيقة الأساسيّة من ديناميكيات عمل الرأسماليّة المتأخرة لم تعد شيئاً خفيّاً بأي مقياس، إذ إن أي تلميذ في السنة الجامعيّة الأولى، يدرك أن هيمنة سلالة أو مجموعة عرقيّة أو طبقة اجتماعيّة على بقيّة المجتمع تتم من خلال مزيج متشابك من أدوات العنف المحتكر (جيش وشرطة واستخبارات وسجون) وتقنيات التحكم بالأفكار من خلال الإعلام والتعليم والدين الرسمي وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني.
منذ الكشف عن وجود الدولة السعوديّة رسمياً عام 1932 ـــ بعد سنوات من العمل المكثف مع رجالات الإمبراطوريّة البريطانيّة قبل ذلك ــــ لم تكن دولة من النوع الذي تتوافق أمة على تكوينها بحكم الواقع التاريخي والجغرافي والثقافي كما فرنسا أو مصر أو الصين مثلاً، بل نظاماً مفتعلاً فوق الجغرافيا والتاريخ وأماني السكان المحليين لخدمة أغراض وظيفيّة في خدمة المركز الغربي المهيمن أنشئ بالتوازي مع المشروع الإسرائيلي في المنطقة. ولا غرابة أن الاسم الذي أطلق عليه كان عائلياً محضاً وليس له أيّة جذور على الأرض. هكذا أنظمة تقوم على أساس احتكار الدولة وأدواتها لخدمة فئة محددة مع إدارة الفئات الأخرى وفق الحد الأدنى اللازم لضمان تدفق الموارد الطبيعية والمنافع على المركز الغربي المهيمن، مستندة في ذلك إلى شرعيّة ملفقة من أساطير دينية مؤسسة. وهكذا منذ وقت مبكر، تبنت السعوديّة ـــ وفق توجيهات المستشارين الغربيين دائماً ــــ استراتيجية إعلاميّة ثابتة لحماية شرعيتها الملفقة تلك، نفّذتها خلال عدّة عقود متلاحقة على أساس التجهيل المستمر للرّعايا في الداخل وعزلهم عن إعلام الخارج، واحتواء الإعلاميين ومؤسسات الصحافة المؤثرة في الخارج من خلال سياسة توزيع «الدراهم» بكثافة.
ورغم انعدام الكفاءة المعروف عن الديبلوماسيّة السعوديّة، فإن معظم الأدوات الإعلاميّة في العالم والمرتبطة بنيوياً بمنظومة الرأسماليّة المعولمة تسابقت للالتحاق بموسم صيد الدراهم الدائم هذا، سواء من خلال التلميع الباذخ للسلالة الحاكمة أو إبداء الطاعة عبر إغلاق البوابات بوجه منتقديها أو حتى بمجرد تولي الصمت وتجنّب التعليق على الأحداث. وكثيراً ما كانت الممثليات السعوديّة في الخارج التي تتولى الإنفاق مباشرة على بناء القوّة السعوديّة الناعمة، تتفاجأ من تسابق الكبير قبل الصغير من المؤسسات الإعلاميّة للتزلف لمملكة آل سعود وإبداء الولاء لها حتى من دون مبادرة السّعوديين للتواصل معها. وقد اعتبر السعوديّون دائماً تلك الأموال التي تصرف في بناء العلاقات العامة في الخارج بمثابة استثمار ضروري لتسييج الشرعيّة السعوديّة الملفقة وحمايتها. وهم لذلك انتهوا أحياناً للخضوع إلى ابتزاز إعلاميين امتلكوا وثائق أو معلومات تدين المملكة أو سلالتها الحاكمة ودفع مبالغ طائلة لشراء سكوتهم، وربما المبادرة في أحيان أخرى إلى إقناع بعضهم بتغيير مواقفهم المعادية للمملكة بالتهديد أو بالوعيد.
قبل عصر الإنترنت في العقدين الأخيرين، كانت الصحافة المكتوبة هي الأداة الإعلاميّة الأفعل في تشكيل الرأي العام العربي تحديداً. ولذا تدفقت كميّة مهولة من أموال النفط العربي عموماً للسيطرة على الصحف اليوميّة والمجلات الأسبوعية لا سيّما تلك التي تحظى بتوزيع خارج حدودها المحليّة، حتى لم يعد هناك عنوان تقريباً لا تنفق عليه السعودية أو ليبيا أو العراق أو الإمارات أو منظمة التحرير الفلسطينية. وقد أطلقت السعوديّة وقتها صحيفة «الشرق الأوسط» مشروعها الصحافي الأضخم الموجه أساساً للخارج، كما تمت سعودة «الحياة» اللبنانية، بينما حوصرت العناوين المعارضة للمملكة وقلب بعضها ولاءه مرات عدة أحياناً خلال الشهر الواحد (أسبوعيّة «الوطن العربي» مثال مخجل) بناء على حجم الدّفعات المتدفقة من الأطراف الممولة.
تغير كل المشهد الإعلامي العربي في يوم وليلة عندما اجتاحت القوات العراقيّة جارتها، وأنهت الحالة الكويتيّة خلال ساعات قليلة صبيحة الثاني من آب (أغسطس) عام 1990. لم تنبس الصحف السعوديّة وقتها بحرف عن الحدث الجلل ومنع توزيع كل الصحف العربيّة والأجنبيّة داخل المملكة لثلاثة أيام بلياليها. لكن ذلك لم يمنع المقيمين في السعودية من تتبع تطورات الأوضاع في الكويت التي كانت تنتقل عبر العلاقات العائليّة الوثيقة، ومن خلال الخدمة الإخبارية التلفزيونيّة المستمرة على مدار الساعة والتي كانت أطلقتها حديثاً السلطات الأميركية (CNN).
أدرك السعوديون لحظتها أن سياساتهم الإعلاميّة التي خدمتهم لعقود، لم تعد كافية لحماية شرعيتهم الملفقة، وأنهم إذا لم يسارعوا في السيطرة على الشكل الجديد من الإعلام المعتمد أساساً على الصورة فإنهم لا محالة خاسرون. وهكذا شهدت مرحلة التسعينات تحولات جذرية في إدارة الهيمنة السعوديّة على الإعلام العربي، إذ تم خلالها إنفاق مليارات عدة على إطلاق مجموعة شبكات تلفزيونية متقاطعة قادرة على تغطية العالم العربي كله من زاخو إلى نواديبو (MBC وأخواتها)، يدعمها تشبيك محكم مع احتكارات صناعة الإعلان في العالم العربي للقضاء على أي منافسة محتملة. كما تم تبني سياسات رشوة مكثفة لشراء القنوات والإعلاميين في الأسواق العربيّة المحليّة الخاضعة للنفوذ السعودي ــ مصر والأردن ولبنان واليمن ــ مع تنفيذ السفارات السعوديّة فيها سياسة ضغط سياسي لا يرحم على سلطات تلك الدّول لملاحقة أقل تلميح بالانتقاد للمملكة أو سياساتها.
في لبنان مثلاً ومع الغياب النهائي للعراق وليبيا ومنظمة التحرير الفلسطينية عن الساحة الإعلاميّة، والضعف البنيوي في الإعلام السوري، وسيطرة النخب الطائفيّة المنحازة إلى الخط السعودي بحكم التكوين على أغلب الإعلام اللبناني، فإن الهيمنة السعوديّة شبه التامة على الإعلام العربي التي ربما لا يزعجها في ملعبها اليوم سوى أبواق النظام القطري ــ المنحازة إلى مشروع موازٍ لكنه أكثر ارتباطاً بالإسلام السياسي المتأمرك ــ تجد مع ذلك متسعاً من الوقت لملاحقة وسيلة إعلاميّة لبنانيّة واحدة لأنها نشرت خبراً عن سوء إدارة صكوك الغفران (تصاريح الحج) التي توزعها المملكة على محاسيبها في لبنان (والعالم). فالعقل السعودي الرسمي ــ إذا جاز لنا معرفياً اعتبار وجود عقل في السلطة ـــ يصعب عليه استيعاب حقيقة أنه في بلد فقير اشتري معظم إعلامه وإعلاميوه (في الداخل أو في المنافي)، بقيت فيه مع ذلك وسائل إعلاميّة ــ ولو واحدة - تقول لا للغلام المحمّل بأكياس الدراهم (اقرأها الرّيالات).
لا أوهام عند أحد بشأن آفاق استمرار الهيمنة السعوديّة الإعلاميّة على العالم العربي، فهذا أحد مصادر القوة اللازمة لبقاء الكيان المفتعل، وستستمر المملكة في تخصيص جزء هام من عوائد أسرتها المالكة في حربها المستمرة بلا هوادة ضد الأصوات التي قد تجرؤ على تقديم سرديات بديلة تتحدى شرعيتها الملفقة - قطريّة كانت أم معادية للهيمنة الأميركيّة على الشرق ـ لكن مشهد الغلام حامل الدراهم غاضباً على إحدى القنوات الصديقة للمملكة في لبنان، لا شك يبقي جذوة الأمل بأن تلك الهيمنة ستكسر يوماً. يا له من مشهد جميل
ارسال التعليق