الدب الداشر يغامر مع الدب الروسي ويفجير غضب شعبي عارم
أثار قرار محمد بن سلمان، رفع إنتاج بلاده من النفط، والدخول في متاهة حرب أسعار، مع “الدب الروسي” فلاديمير بوتين، علامات استفهام، واستغراب الباحثين والمحللين.
وتساءل كثيرون عن الدوافع الكامنة وراء إقحام الشاب الثلاثيني، نفسه في مأزق ستكون له انعكاسات سلبية على استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية في المملكة. ومن المؤكد أن الغضب الشعبي المتزايد بسبب المتاعب الكثيرة، التي يعاني منها المواطنون، وتدني مداخيلهم، بسبب القرارات المتعاقبة في السنوات الأخيرة، سيكون أحد العوامل الرئيسية في قيادة أي تغير في البلد.
لماذا شنت السعودية حرب أسعار؟
التهديد السعودي بتأديب روسيا، بعد تخلي الأخيرة عن توافقات “أوبك+” والشروع فعلياً في اتخاذ خطوات تعتقد الرياض أنها أنجع وسيلة لتركيع موسكو، يعتبره المراقبون الاختبار الحقيقي للأمير محمد بن سلمان، والتأكد من إمكاناته في التعامل مع ملف محفوف بالمخاطر.
ويسعى ولي العهد إلى إظهار قدرته على قيادة مرحلة التغيير في المملكة، ويُعد نفسه ليكون ملكاً متوجاً، وخليفة لوالده المتقدم في السن الملك سلمان بن عبد العزيز.
لكن القيادة السعودية لم تحسب بدقة عامل الزمن، وقدرات غريمتها روسيا، التي يبدو أنها منخرطة في لعبة حرب الأسعار، وتوحي للآخرين أنها لن تتأثر بقدرِ من أشعل فتيل الأزمة، وهي في المقابل تحوِّل المعركة نحو تسويق نفسها مصدرا آمناً للطاقة، قادما من الشمال، أبعد ما يكون عن منطقة التوترات الحاصلة في مضيق هرمز.
ميزان الربح والخسارة الداخلي:
تراهن الرياض في لعبتها الأخيرة، وسعيها لخفض الأسعار، على ما تعتقد أنه عامل قوة لصالحها، وهو تدني تكلفة برميل النفط الذي تنتجه، والمقدرة بعشرة دولارات تقريباً، وهو ما يعني أن الأسعار المتدنية عند 33 دولاراً، عند النظر إليها من دون الأخذ بالعوامل المحددة الأخرى، ما زالت تغطي التكلفة بشقيها (الاستثماري + التشغيلي).
القيادة السعودية، لا يبدو أنها حتى الآن، مهتمة بالعجز المسجل في موازنة عام 2020 والمقدر بنحو 49.8 مليار دولار، وهو ما يعادل 6.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي وضعت سعراً مرجعياً لبرميل النفط في حدود 55 دولارا.
ورغم اعتقاد فريق محمد بن سلمان الذي يدير لعبة الأسعار، أن السعودية ستكسب حربها، وتُدخل روسيا بيت الطاعة في الأخير، إلا أن المؤشرات تقول عكس ذلك، وتثبت الأرقام والمعطيات، أن الرياض لن تستطيع تحمل تكاليفها المرتفعة، إذا استمرت الحرب لفترة طويلة.
وحسب دراسة حديثة لوكالة “بلومبيرغ” للأنباء، فإنه إذا لم ترتفع أسعار النفط وظلت عند مستواها الحالي، وهو تقريبا نصف السعر المطلوب لتغطية نفقات الموازنة السعودية للعام الحالي، فإن الخطط الطموحة ابن سلمان لإصلاح الاقتصاد السعودي، قد تجعل منها أكبر ضحايا هذه الحرب.
وهذا انطلاقاً من كون قطاع الطاقة، يمثل حوالي 80 في المئة من صادرات المملكة، ويشكل نحو ثلثي مواردها المالية.
وحسب بنك أبو ظبي التجاري، فإن استمرار سعر خام برنت القياسي للنفط العالمي عند مستوى 35 دولاراً للبرميل، وبدون تعديل بنود الإنفاق في الموازنة السعودية للعام الحالي، يعني وصول عجز الموازنة إلى حوالي 15في المئة من إجمالي الناتج المحلي. ويشدد المصدر، أنه يمكن أن يَنفد احتياطي النقد الأجنبي السعودي خلال خمس سنوات، إذا لم تلجأ المملكة إلى مصادر أخرى لتمويل الإنفاق.
أما بنك غولدمان ساكس غروب الأمريكي، فيعتبر أن العجز المالي لدى السعودية يمكن أن يصل خلال العام الحالي إلى حوالي 12 في المئة وهو ما يعني أنها ستحتاج إلى اقتراض حوالي 35 مليار دولار أمريكي.
الدائرة المقربة من الحاكم الفعلي للسعودية، كانت تعتقد سلفاً أن المملكة، راكمت احتياطياً كافياً من النقد الأجنبي، يسمح لها بتحمل انخفاض أسعار النفط لفترة أطول. ويُعتقد وفق المؤشرات التي يتم استنباطها من الخطوات المفعلة في الفترة الأخيرة، أنه كلما استمرت أسعار النفط في الانخفاض، فسيتباطأ نمو الاقتصاد السعودي، ويزداد عجز الموازنة، ويقل احتياطي النقد الأجنبي، ويرتفع معدل الدين العام. وبالمنطق الحسابي نفسه، فإنه لو انخفض سعر النفط إلى 20 دولارا للبرميل، أو ما دون، واستمر هذا السعر لسنوات، فحتماً، ستزداد معاناة اقتصاد المملكة، وربما تصل حد الانهيار الفعلي.
فشل الحلول الترقيعية:
لتخفيف الضغوط المالية الناجمة عن تراجع العائدات النفطية، لجأت السعودية، مسبقاً لبيع سندات الخزانة في أسواق المال الدولية، فقبل أقل من شهرين طرحت الرياض، سندات خزانة دولية بقيمة 5 مليارات دولار كجزء من خطة لبيع سندات بقيمة 32 مليار دولار خلال العام الحالي ككل.
ويعتبر ستيفن غولف الباحث في كلية لندن للاقتصاد، إنه في الوقت الذي تواجه فيه الحكومة السعودية ارتفاعاً في عجز الميزانية حتى مع أسعار النفط المرتفعة، فإن المملكة تحتاج إلى احتياطي من النقد الأجنبي بما يسمح لها بالتعديل التدريجي للسياسة المالية. ويضيف أن انخفاض أسعار النفط، سيقلل الفرصة المتاحة أمامها لعمل ذلك، وهو ما قد يجبرها على تبني تعديلات أسرع وأشد إيلاماً.
ويضع مراقبون خطاً واضحاً على الجملة الأخيرة، التي تشير إلى انعكاسات تلك القرارات المصيرية على استقرار الأوضاع داخلياً.
ويختتم المحلل البريطاني حديثه، بالتأكيد على أن “الاحتياطيات المالية لدى السعودية، تتيح لها تحمل تداعيات حرب أسعار النفط لفترة من الوقت، لكن هذه الاحتياطيات اليوم، أقل بمقدار الثلث عما كانت عليه في الانهيار السابق لأسعار النفط عام 2014 وهو ما يعني أن تداعيات استمرار أسعار النفط المنخفضة حاليا لفترة طويلة ستكون أشد قسوة.
تعليق العمرة والحج يزيد من المتاعب:
وشدد غريق برو الخبير والباحث في جامعة ميثوديست الأمريكية، أن الخطوة التي اتخذها بن سلمان، تشكل تدميراً مؤكداً لأي اقتصاد يعتمد على النفط.
وأشار الكاتب إلى أن “بن سلمان أعطى الضوء الأخضر لبلاده، لضخ النفط بأقصى كمية” لكن النتائج المترتبة عنها، ليست مثلما يأمل هو وفريقه.
ووفق تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” فإن “السعودية لا تزال تعتمد بشكل كبير على النفط، والأكثر من ذلك فإن احتياطياتها النقدية ظلت ثابتة منذ حوالي أربع سنوات عند نحو 500 مليار دولار، بانخفاض عن ذروتها البالغة حوالي 740 مليار دولار” في صيف عام 2014.
ويقول المحللون – حسب الصحيفة- إن السعودية تحتاج إلى ما يسمى سعر التعادل البالغ نحو ثمانين دولارا للبرميل للوفاء بميزانيتها، بدون خفض جديد للاحتياطيات، أو اعتماد تدابير تقشفية مؤلمة.
وزادت من متاعب بن سلمان الأزمة التي يواجهها الاقتصاد السعودي بسبب فيروس كورونا المستجد، الذي كاد أن يشل البلد.
وكان لتعليق العمرة حالياً، وامكانية حظر أداء مناسك الحج هذا الموسم، تأثير على المداخيل التي تنعش عدداً من القطاعات الحيوية، وترتبط بشكل مباشر بفئات اجتماعية واسعة ستتأثر حتماً بالقرار.
هل تكفي المساعدات للجم ثورة الغضب؟:
يعتقد الأمير محمد بن سلمان أن المساعدات والمنح البسيطة التي أعلنها والده في وقت سابق للفئات المتوسطة والضعيفة، ستكون صمام أمان لامتصاص أي غضب شعبي، في حال اضطر لاتخاذ إجراءات قاسية للخروج من مأزق حربه.
والمساعدات والمنح التي أمر الملك سلمان، بصرفها، بدل غلاء المعيشة الشهري والمقدرة بـ 1000 ريال (حوالي 370 دولارا أمريكيا) للمواطنين من الموظفين المدنيين والعسكريين، لم تحدث أي فرق فعلي لدى الفئات المعنية والمتضررة من القرارات المتخذة في السنوات الأخيرة منذ اعتلاء نجله محمد مقاليد الحكم خلف الستار.
ولا تزال المملكة تعاني من نسب بطالة تصل إلى نحو 13 في المئة بالرغم من الوعود الرسمية للقضاء عليها، خصوصاً في دولة تعتبر أول منتج للنفط في العالم.
ويتوقع أن تساهم اللعبة التي يخوضها ابن سلمان، لكسر عظام الدب الروسي، في تفاقم نسب البطالة، وارتفاع نسب الفقر في المملكة التي تنتج أزيد من 10 ملايين برميل من النفط يومياً.
ويتوقع اقتصاديون، وباحثون، أن تزداد معاناة الشعب السعودي بسبب غلاء المعيشة، يرافقها انخفاض عائدات النفط، وارتفاع معدلات البطالة، وما تلاها من انسحاب لشركات استثمارية غربية من السوق السعودي.
ونشرت صحيفة “الفايننشال تايمز” تقريراً بعنوان “السعودية ستعاني بعد قرارها التدميري” وأوردت فيه عدداً من التأكيدات على المتاعب التي تواجهها الرياض، داخلياً، بسبب قرار قيادتها المتهور، واقتحامه مجالاً يفوق قدرات حاكمها الفعلي، الذي يوصف بالمتهور، من قبل عدد من المسؤولين والدبلوماسيين الأجانب. .
اللاعب المتهور:
النتائج المستخلصة حتى الآن من مباراة الضرب المفتوح التي باشرتها السعودية، تشير إلى أن المعطيات جميعاً ليست لصالح ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
ودفعت هذه الملاحظات إلى تحليل شخصية المسؤول عن هذه الحالة، والتي عبر عنها ديفد كيركباتريك في مقال في صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية.
وأشار الكاتب إلى أن إن حرب أسعار النفط التي شنها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، أدت إلى حدوث هزة قوية في الاقتصاد العالمي، وأحيت النقاش في أروقة العواصم الغربية، عن تهور بن سلمان، ومدى قدرته على أن يكون شخصاً يمكن الاعتماد عليه.
ترامب قد يقلب الطاولة:
وفي السياق نفسه، تذهب رولا جبريل في تحليل لها في مجلة “نيوزويك” إلى أن محمد بن سلمان المتقلب، يثير أعصاب المسؤولين في البنتاغون و”لانغلي” مقر المخابرات الأمريكية، والتي كانت تفضل منافسه الأمير محمد بن نايف.
وتشير إلى أنه في البيت الأبيض تم الدفاع عن وحشية محمد بن سلمان، بل ويتم الاحتفاء بها.
فبعد مقتل خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، دافع دونالد ترامب عن ولي العهد، واصفا حكمه بأنه “يشبه ثورة بكل المعاني الإيجابية”. ومنذ ذلك الوقت كانت الاستراتيجية واضحة تقوم على تشابك المصالح السياسية والتجارية بين آل سعود، وآل ترامب، والحفاظ على الأمير في السلطة وإثراء عائلته.
وتشير المقالة إلى أن ترامب هو العامل الوحيد الذي يحمي محمد بن سلمان وقبضته على السلطة في السعودية. ولهذا فالأمير القاسي (على حد وصف المقال) يلعب دور منفذ أوامر ترامب، من خلال حرق ميزانيته، في وقت يقوم فيه نزيل البيت الأبيض، بخنق الاقتصاديات النفطية، والدفع بعملية تغيير النظام في طهران، وكركاس، وإشعال حرب اقتصادية خطيرة مع موسكو. وأصبح محمد بن سلمان وبيت آل ترامب يشتركان في الأعداء والحلفاء.
وتعلق جبريل، “أن بيت آل ترامب يلعب بالنار، فقد قدم عدداً من الأفضليات لمحمد بن سلمان منذ وصولهم إلى السلطة”.
هذه الصورة للحاكم السعودي، تثير حنق وغضب الكثيرين في المملكة، التي يضرها تحول بلادهم إلى بقرة حلوب يستغلها حاكم البيت الأبيض ويهين مالكها بشكل متكرر.
كما ساهمت الصفقات الخيالية التي وقعها بن سلمان لشراء ولاء ترامب ودائرته الضيقة في اهتزاز صورته شعبياً مع إدراك الكثير من النخب أن ذلك ينعكس على البيئة الداخلية ويؤثر على سياسات الدعم الحكومي واستنزاف مقدرات الفئات المتوسطة والفقيرة والمعدمة.
متنمر يقتحم ملعب الحي:
يرى كثيرون أن مضي ولي العهد السعودي، في حربه الجديدة، لاركاع روسيا، يعادل إلى حد كبير، اقتحام طفل متنمر، ملعباً جوارياً، ومحاولة فرض نفسه لاعباً أساسياً، من دون أن يكون ملماً بأبجديات اللعبة.
ويخشى كثيرون في المملكة، انهيار الوضع الاقتصادي في البلد، مع ما يترتب على القرار من تداعيات، يدفع ثمنها، المواطن البسيط، الذي تزداد متاعبه، وامكانية تحول ذلك إلى غضب شعبي ينقلب تدريجيا على الأسرة الحاكمة.
ارسال التعليق