تحريك البيدق السعودي في لبنان.. انعكاس الفشل ورهان أخير للكسب
جاءت الإجراءات السعودية الأخيرة في العراق ولبنان والداخل ذاته، بعد فترة انحسار شهدتها قوة المملكة، حتى بعد التحاقها بمشروع الصياغة الأمريكية للمنطقة، شهور عدة بعد زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الرياض، كانت كافية ليتضح واقع التراجع السعودي، بعد إخفاقات متوالية وممتدة دفعت السلطة هناك نحو تصليب تحالفها مع الولايات المتحدة.
رهان على رهان آخر لترامب، أنه يمكن الخصم من قوة إيران وحلفائها بتفعيل الوسيلة الأمريكية المعهودة، أي تعميق وتحريك روابط تبعية الخليج العربي لأمريكا والمنظومة الاقتصادية والعسكرية والسياسية للغرب، رهان لم يثمر خلال أشهر سوى عن إنفاقات سعودية هائلة على التسليح، استفاد منها المجمع الصناعي العسكري الأمريكي وحده، وفشل سعودي متزايد في تحقيق أي هدف، رئيسي أو هامشي، في عدوانها على اليمن، وتحرك سعودي في العراق، سعيا لتهدئة تحافظ على ما تبقى من نفوذ للمملكة هناك، بعد تراجع طبيعي صنعه الدعم السعودي القديم والمتواصل للسلفية الجهادية المسلحة، تحت شعار طائفي “حماية أهل السنّة”، لم يلبث أن فقد كل مصداقية له بتوالي مذابح تنظيم القاعدة ثم داعش في حق العراقيين السنة قبل غيرهم من الطوائف.
بقدر ما جاء تولّي سعد الحريري رئاسة الوزراء أواخر العام الماضي في سياق طبيعي، وفقا لمفردات الداخل اللبناني وموازين القوى فيه وإطار اتفاق الطائف، بقدر ما مثّل ذلك، للوهلة الأولى، مكسبا سعوديا نسبيا جاء في توقيت حرج أرادت فيه المملكة حيازة أي شكل، ولو معنوي، من المكاسب، وكفل تولّي الحريري للمنصب توازنا داخليا لبنانيا مقبولا من جميع الأطراف في ظل تولّي ميشال عون، حليف محور المقاومة، منصب رئاسة الجمهورية، إلا أن وسيلة وتوقيت استقالة الحريري قد يكشفان الكثير عما حدث خلال توليه المنصب، استقالة جاءت بعد يوم من لقاء جمعه في بيروت بمستشار المرشد الإيراني، وصفه الأخير بالإيجابي والبنّاء، وبعد أشهر من الهجمات السياسية الأمريكية على عون، بلغت حد تهديده بإدخال لبنان في أزمة سياسية ما لم يضغط على حزب الله ليوقِف معركة تحرير شرق لبنان من سيطرة داعش والنصرة، التنظيمين الإرهابيين وفق التصنيف الأمريكي نفسه، أو يسحب الجيش اللبناني من المشاركة في صف الحزب ضد الإرهابيين.
على أي حال، حُسمت المعركة لصالح اللبنانيين خلال الصيف الماضي في ظل ابتزاز أمريكي واضح للجيش اللبناني باستخدام ملف المساعدات العسكرية، موقف أمريكي انضمت له المملكة السعودية وشهدت أشهر المعركة وما بعدها هجوما إعلاميا سعوديا على الرئيس عون، الذي بادر منذ توليه المنصب بالإعلان عن الانحياز لخيار الردع والمواجهة في مقابل التهديدات الصهيونية المستمرة للبنان، بعد حرصه على أن تكون المملكة وجهة لأول زياراته الخارجية كرئيس، في رسالة مبكرة كان مفادها أنه لا يرغب في عداوات إقليمية وأن المصير السياسي والاجتماعي للداخل اللبناني هو التوافق وإقامة التوازن، رغم الاختلافات الكبيرة والجوهرية.
خلال فترة تولّي الحريري للمنصب، لم ينجح في تفعيل أي من مفردات الأجندة السعودية في لبنان، بل على العكس، شهدت إخفاقا في ملفين مترابطين وبالغي الأهمية للمملكة؛ الملف الأول كبح نفوذ حزب الله والخصم من قوّته المتزايدة من خلال العمل في جهاز الدولة اللبنانية ذاته، الأمر الذي اصطدم بصلاحيات رئيس الجمهورية ومتانة تحالف عون – حزب الله، رغم التنسيق مع الأطراف المسيحية المغايرة للتيار الوطني الحر وزعيمه الرئيس عون، أي حزب الكتائب بزعامة سمير جعجع وحزب القوات بزعامة سامي الجميّل، زعيمان قاما معا بزيارة مطوّلة للمملكة قبل شهر من استقالة الحريري، وتباحثا خلالها مع محمد بن سلمان شخصيا بمشاركة وزير الاستخبارات السعودي ووسط احتفاء سعودي كبير.
والملف الثاني، منْع عودة العلاقات اللبنانية السورية وبذل فيه الحريري جهدا حقيقيا، وإن لم يثمر بحكم الأمر الواقع والجغرافيا والوضع السياسي والانتصار السوري، وسار الملف في اتجاه معاكس للرغبة السعودية، نتيجة لارتباطه بالأمن القومي اللبناني وبوحدة المصير بين الشعبين ووحدة الخطر الذي يتهددهما أمنيا، ولإدراك قطاع عريض من شعب لبنان كارثية الخيار الذي تبنّاه المعسكر السعودي هناك بقبول ودعم الوجود التكفيري في البلاد والقطيعة مع سوريا.
يمكن القول إن نهاية الصيف الماضي، التي شهدت اندحار داعش من العراق وسوريا ولبنان، وحملت معها نهاية مشروع قطع الحدود السورية العراقية، كما حملت تبلوّر حلف إيراني سوري عراقي لبناني يمثّل له اليمن ظهيرا حقيقيا بإطلالة جغرافية على أراضي السعودية، كانت بداية إدراك المملكة لحقيقة أن لبنان يعد الخاصرة الرخوة المثالية للحلف، أي لبنان بتعقيداته الطائفية والثغرات الواضحة لنظامه السياسي الحالي القائم على اتفاق تم وضعه في مدينة الطائف بالمملكة أواخر ثمانينات القرن الماضي، ومن ثم لم تبقَ إمكانية لتحقيق مكسب للمملكة يعوّض تراجع أهدافها ويغطيه، سياسيا، سوى التحريك السلبي للوضع اللبناني، بهشاشته وخطورة خرق توازناته، واللعب بالورقة السعودية “الوازنة” الأخيرة في المنطقة، أي الهيمنة المطلقة للمملكة على تيار المستقبل وزعيمه.
من هنا، تعمل المملكة على أن تذهب الأمور إما إلى إعادة ترتيب عاجلة لتمثيل الطائفة السنّية في لبنان ومنصب رئيس الوزراء، بتصعيد زعامة جديدة كأشرف ريفي أو نجيب ميقاتي الذي أعلن رفضه حتى الآن لتولّي المنصب، أو غيرهما، بكل ما سيتطلبه ذلك من وقت وجهد وتعقيدات لا حصر لها، أو إلى إعادة ترتيب “جذرية”، حيث فتح قضية تركيبة السلطة والحكم في لبنان والمحاصصة الطائفية فيها، بكل ما يشمله ذلك من صعوبة مطلقة قد ترغم الشعب اللبناني على العودة إلى المربع صفر، أي وضعية ما بعد الحرب الأهلية مباشرة، وفي الحالتين، يتمثل المكسب السعودي في الرهان على أن يُرغَم حزب الله والتيار الوطني الحر ومحور المقاومة على تسوية تصب في صالح المملكة، خوفا من تفجُر للوضع الداخلي برمته ومن تصعيد لا تمانع المملكة وكتلتها الخليجية من القيام به، حتى لو نتج عنه تخريب لبنان اقتصاديا أو سياسيا أو تفجير العيش المشترك بداخله.
بقلم : محمود عبدالحكيم
ارسال التعليق