خداع الشعب الفلسطيني عبر الزعامات العربية
مع أن الفلسطينيين حاولوا إنجاح “مؤتمر بلودان” عام ١٩٣٧ بأي طريقة وبعناوين واضحة ومحددة حتى لا تتخلق الأنظمة العربية الأعذار لمقاطعته كما فعلت مع المؤتمر الإسلامي في القدس عام ١٩٣١، حين ادعى ملك السعودية ابن سعود وملك مصر الملك فؤاد، بأن المؤتمر سيختار خليفة للمسلمين دونهما!، وحتى بعض مشايخ مصر ادعوا أن المؤتمر سيقر إنشاء جامعة إسلامية في القدس وأنها ستشكل خطرا على جامع الأزهر.
ومع أن ظرف “مؤتمر بلودان” كان خاصا وواضحا فبريطانيا قررت تقسيم فلسطين وتسليم أكثر من نصفها لليهود، وهناك ثورة فلسطينية عارمة فلا بد من دعمها، ومع ذلك قوطع المؤتمر من قبل أنظمة وشاركت فيه أنظمة رفعا للعتب، وأنظمة أخرى شاركت كي تتجسس على مجرياته، ومع أنه لم يلق ذاك النجاح، إلا أن الشعب الفلسطيني قرر أن يخلع شوكه بيده وليكن ما يكون، فقاوم واستمر بثورته أشد مما كان، “حاصر حصارك لا مفر .. ذهب الذين تحبهم.. ذهبوا.”
لم تتعرض بريطانيا في تاريخ حروبها الاستعمارية في مختلف دول العالم التي ابتليت باحتلالها لمقاومة شرسة من قبل قوات غير نظامية وفقيرة في موارد التمويل والتسليح وفي بقعة جغرافية صغيرة كالتي حدثت خلال ثورة ١٩٣٦- ١٩٣٩ في فلسطين، ولم تمنى بريطانيا بخسائر مادية وبشرية فاقت توقعاتها وحساباتها إلا في هذه الثورة.
فانحصر جيشها داخل المدن وقاموا بترحيل أسرهم خارج فلسطين، لكنها إزاء ذلك استخدمت الإرهاب والإجرام والوحشية التي فاقت كل الحدود، وكسرت كل قوانين الحرب، وما تركت أسلوب تعذيب وحشي في التحقيقات مع الثوار إلا وقامت به، فشنقتهم في صيامهم وخلعت أسنانهم وقلعت عيونهم.
كما واتخذتهم دروعا بشرية وأجبرتهم على السير فوق حقول الألغام وفجرتها بهم عمدا، كما حدث في “البصة” بعكا، وحقنتهم بالمورفين، وكوتهم بالحديد المحمي بالنار وقلعت أظافرهم وحبستهم في الثلاجات، وعلقتهم من أرجلهم ومن ثم جلدهم حتى الموت، لقد عذبتهم بريطانيا المتوحشة باحط أساليب التعذيب، وما تركت مجرم حرب من عسكرييها إلا وزجت به في هذه الثورة، من المجرم الصهيوني والمريض نفسيا “اوردي ونقيت” وحتى المجرم الذي لم يتورع عن فعل كل شاذ، جارلز تيقارت.
ومع كل هذا ومع قلة السلاح ومع ما تعرضوا له من خذلان عربي بل وفي كثير من الأحيان خيانات وطعن في الظهر، الا أن الثوار الفلسطينيين استطاعوا أن يهزموا الغزاة الإنجليز ويهودهم وعربهم، فقد كسروا الجيش البريطاني الأول الذي كان تحت قيادة الجنرال جون ديل، ثم هزموا الجيش البريطاني الثاني الذي جاء بعده عام ١٩٣٨ والذي كان تحت قيادة الجنرال ارشيبالد ويفل.
ثم مزقوا الجيش البريطاني الثالث والذي كان تحت قيادة الجنرال روبرت هايننج عام ١٩٣٩، والذي رفد معه بأسوأ عسكري بريطاني كقائد للمشاة، والذي ذاع صيت إجرامه في أيرلندا حين أخضعها والذي أطلق عليه “سفاح ايرلندا” وهو الجنرال برنارد مونتغمري، حين لم يفرق بين المدني والعسكري فيها.
وفي فلسطين كرر إجرامه بأسوأ ما كان ومع ذلك خرج منهكا وغادر مريضا، ولم تجلبه بريطانيا إلا في معركة العلمين ليقودها ضد ألمانيا وإيطاليا والتي انتصر فيها مع انه خاب في فلسطين.
وأخيرا استبدلت بريطانيا المندوب السامي نفسه “ووتشوب” والذي حملته الفشل بمندوب سامي آخر وهو “هارولد ماكمايكل”، وقبل ذلك بفترة قصيرة استبدلت مفتش الشرطة العام “روي سبايسر” واستبدلته “بالان سوندرز”، ومع هذه التبديلات التي لا نهاية لها وفي وقت قصير إلا أنها لم تحدث بسبب فشل هؤلاء المجرمين ولكن بسبب بطولات من يقابلهم.
ومع هذه الهزائم البريطانية المتوالية في أواخر عام ١٩٣٨ وبدايات عام ١٩٣٩، اضطرت بريطانيا من جديد أن تلجأ للزعامات العربية علها تستطيع مرة أخرى خداع الشعب الفلسطيني من جديد وتوقف الثورة، فطلبت من ابن سعود مجددا التدخل.
وكأن الشعب الفلسطيني نسي وعوده المخادعة في المرة الأولى والعجيب أنه دون أدنى خجل عرض على الفلسطينيين التدخل من جديد وبشروط مريبة، فقد عرض عليهم “أن يضعوا القضية الفلسطينية بأكملها بين يديه، وأن لا يتدخلوا في أي قرار يتخذه وأن لا يتوقعوا منه أن يراجعهم في أي قضية ما تتعلق بقضيتهم أثناء سير عمله!” وهو ما رفض رفضا باتا من القادة الفلسطينيين، فواضح من هذه الشروط أنه يبيت النية بأسوأ مما فعله في السابق.
أما على الأرض فقد أعانهم، فوزي القاوقجي والذي ساعد في الإيقاف الميداني الأول للثورة ١٩٣٦، حين دخل بطلب من الألمان والذي كان يعمل لصالحهم آنذاك، لكن الإنجليز استطاعوا تجنيده لصالحهم دون علم الألمان، (راتبه ظل مستمرا من قبل الالمان حتى بداية الأربعينات)، الآن تحاول بريطانيا إعادته إلى الميدان، وتخيلوا معي أن بريطانيا تطلب من “ثائر” أن يعود ليحاربهم!، فما الذي كان يفعله لصالحهم، من أجل هذا أجمعت عليه أنظمة العرب عام ١٩٤٨ ليقود جيش “الإنقاذ” التابع لجامعة الدول العربية.
وكأن غبن الأنظمة العربية وعسكرييها لم يكف الشعب الفلسطيني الذي كان يكافح لإنقاذ وطنه، فجاء لهم أميرا سنوسيا من ليبيا، كي يساعد الإنجليز في إجرامهم بحق الشعب الفلسطيني على طريقة الفاشيست الإيطاليين ضد ثوار ليبيا.
فساعد “فايز بيك الإدريسي”، الضابط الإنجليزي “جارلز تيقارت” في بناء سياج الأسلاك الشائك ما بين فلسطين من جهة ولبنان وسوريا وقسم من شرق الأردن من جهة أخرى، حيث أجبروا سكان القرى الفلسطينيين على العمل في هذا السياج بالسخرة الجبرية ودون مقابل، فكان لنجاح هذا السياج في ليبيا في احتلال الكفرة وكسر المقاومة الليبية التي انتهت بأسر عمر المختار رحمه الله وشنقه وإنهاء الثورة الليبية، كان هذا أكبر الأسباب التي دفعت البريطانيين لبناء هذا السياج.
كان هذا الأمير العربي فايز الإدريسي في خدمة الإنجليز منذ عام ١٩٢١ وكان أكبر عون لهم في حربه ضد الشعب الفلسطيني من بئر السبع إلى جنين ونابلس والقدس وأريحا، مما جعل الإنجليز يقدمون له أعلى وسام تم تقديمه لعربي في فلسطين. حاول المجاهدون قتله لكنهم ما استطاعوا، وتمكنوا من شقيقه فيما بعد والذي جاء به ليصون تاج بريطانيا معه، وقتلوه، أما السياج فقد نسفه الثوار وجعلوه صفصفا، حتى أن أجزاء منه نسفت أثناء العمل على إنشاءه.
عندما خذل الجميع الثورة الفلسطينية، اتجه بعض الفلسطينيين لبعض القوى الغربية التي كانت تعادي بريطانيا، لأسباب عديدة، أهمها المنافسات الاستعمارية التي بينهما، وعلى رأسها، الطليان والألمان، فعرض الطليان بعض المال والسلاح، حيث قدموا عونا بقيمة ٧٥ ألف جنيها إسترلينيا أي ما يعادل سبعة ملايين ونصف جنيها إسترلينيا في زمننا هذا، حيث سلم هذا المبلغ على دفعات خلال فترات الثورة الفلسطينية ١٩٣٦- ١٩٣٩، لثلاث شخصيات من أجل تسليمه للفلسطينيين، وهم إحسان الجابري وشكيب أرسلان والقنصل الإيطالي في القدس ماريانو دي انجليس.
الأول إحسان الجابري مسؤول سوري، وابن مفتي حلب، ربما لهذا السبب وثق به الفلسطينيون ليدير لهم صندوق الثورة الفلسطينية في دمشق، والثاني شكيب أرسلان من زعماء الدروز في لبنان كان يعمل لصالح الاستخبارات الإيطالية، والثالث ديبلوماسي ايطالي.
إحسان الجابري لوحده استلم من الايطاليين لصندوق الثورة الفلسطينية ٤٠،٠٠٠ جنيها إسترلينيا من المبلغ الكامل (٧٥،٠٠٠ جنيها استرلينيا) والذي لم يسلم منها للفلسطينيين سوى ١٧،٠٠٠ جنيها استرلينيا، أي استولى على أكثر من نصف المبلغ، وحتى شكيب أرسلان لم يسلم المبلغ كاملا باعترافه أن جزء من المبلغ ذهب لغير مكانه!.
وأيضا الدبلوماسي الإيطالي “دي انجلس” تلاعب ببعض المبالغ، والمؤلم أن الأموال المسروقة من الأموال المتبرع بها للشعب الفلسطيني، لم تكن حديثة عهد فالسرقات بدأت منذ عام ١٩٢١ وعلى يد قادة كبار في سوريا كان على رأسهم، ميشيل لطف الله، ود. عبدالرحمن الشهبندر، ورشيد رضا، وشكري القوتلي، عندما أسسوا الحزب السوري الفلسطيني وجرى نهب أموال الفلسطينيين من خلال صندوقه الذي تأسس لعون الفلسطينيين.
وميشيل لطف الله هو الوسيط البنكي بين الإنجليز وقادة الثورة العربية الكبرى وصاحب بنك الحجاز البديل عن البنك العثماني سابقا في الحجاز، وسبق لوالده حبيب لطف الله أيضا تمويل احتلال الانجليز للسودان، وهذه العائلة من أغنى أسر مصر وهي عائلة نصرانية من أصول شامية، وكم أعجب أنه في تلك الفترة ما من خنجر تجده مغروزا في ظهر الأمة من أعداءها إلا وتجد هذا المريب رشيد رضا من القابضين على نصله معهم.
اما السلاح فقد عانى الفلسطينيون الأمرين للحصول عليه، أما في محاولة شراءه أو في محاولة إيصاله، حتى أنهم اضطروا لجمع الخراطيش الفارغة وتعبئتها بالبارود.
وكانت أسوأ تجربة مرت على الفلسطينيين في الحصول على السلاح خلال الثورة الفلسطينية الكبرى، هي عندما سهلت لهم الظروف وتمكنوا من الحصول على صفقة سلاح كبيرة من إيطاليا، وهي أسلحة بلجيكية كانت قد اشترتها إيطاليا لتمنع غيرها من شرائها، ولم يحتاجها جيشها فقررت بيعها للفلسطينيين.
وعندما تمت الصفقة، لم يجد الإيطاليون ولا الفلسطينيون طريقا من أجل إيصالها لقادة الثورة الفلسطينية داخل فلسطين، فقد حاولوا إيصالها عبر جدة وتارة عبر موانىء لبنان وسوريا، لكن كل المحاولات باءت بالفشل، حتى أن الايطاليين طلبوا من ابن سعود أن يحصل على بعض السلاح الإيطالي مجانا مقابل تمرير صفقة السلاح، وحاول عدة رسل من فلسطين إقناع ابن سعود باستلام السلاح لحاجتهم الماسة إليه.
لكنه بداية تعذر بأنه لا توجد طريقة آمنة لنقل السلاح عبر شرق الأردن لداخل فلسطين، حينها دخل أحد شيوخ قبائل شرق الأردن على الخط وهو “مثقال الفايز” والذي تعهد بتأمين نقل السلاح من جدة وحتى تسليمه لداخل فلسطين، حينها أسقط في يد ابن سعود وتعذر بأن بريطانيا لن تسمح له، وانه لا يستطيع إغضابها فيما لو سمح بإدخال هذا السلاح.
وجاء ذلك رغم أن ابن سعود استلم سلاحا إيطاليا وتعاون معهم في احتلال إرتيريا حين قدم لجيشهم بعض البعارين من أجل نقل المعدات العسكرية في الجبال، وهكذا ضاعت على الفلسطينيين صفقة سلاح التي كان بإمكانها أن تقلب معادلات ومعادلات لو وصلت، ولكن الخذلان العربي حرمهم من ذلك.
ارسال التعليق