عبدالعزيز ال سعود يؤكد للانكليز بأنه هو الذي أوقف الثورة الفلسطينية
كان ذلك التاريخ هو أيلول عام ١٩٣٩ حين توقفت إحدى أعظم الثورات في التاريخ، تلك التي خاضها شعب فلسطين في وجه كل العالم، بريطانيا، ويهودها ومعهما جل الدول الاستعمارية، ومعها أيضا ويا للعار أنظمة العرب، كلهم بأسلحتهم وأموالهم ونفيرهم وشخيرهم.
سنوات والشعب الفلسطيني يخوض حربه ضد هؤلاء وما هانت عزيمته لولا الحصار الذي ضاق عليه حتى الجنون ومعه طعن الأخوة في الظهر، وكفى أن هذه البقعة المقدسة التي تداعى عليها مجرمي العالم، يحيط بها ملايين العرب من كل اتجاه، ووقفت وقفة المتفرج.
كل حكوماتهم العربية كانت تعمل مع المستعمر، إنجليزيا كان أو فرنسيا لخنق الفلسطيني بكل أسلوب وطريقة، برلماناتهم محرم عليها الخوض في قضية فلسطين، صحافتهم محرم عليها نشر ما يجري، بعض الصحف العربية كانت ترد على من يطلب منها كشف ما يجري في فلسطين، بأنها لا تتدخل في القضايا الطائفية، وصحف عربية كانت ترفض نشر أي مقال عن فلسطين إلا إذا كان هناك مقالا يهوديا يرد عليه.
وبعضها كانت ترفض نشر أي شيء يتعلق بفلسطين بسبب نشر التجار اليهود دعاياتهم فيها، وبلغ بالصحيفة الناطقة بلسان حال ابن سعود “أم القرى” أن ترد حين سئلت عن عدم خوضها بأي خبر يتعلق بفلسطين، ردت بأن “الصمت أبلغ رد على الإنجليز”!!!.
ولعل أبلغ ما كتب آنذاك عن هذه الحالة المزرية هو مقال شهير للقانوني المصري احمد حسين رئيس “مصر الفتاة”، فضح فيه كل الأنظمة العربية بما فيها مصر من خذلانها وخيانتها للشعب الفلسطيني ولثورته وكيف سلمته بسطوتها ونفوذها للإنجليز، وكيف أنها كانت تحاول إجبار الشعب الفلسطيني على التسليم والاستلام إرضاء لبريطانيا.
ننقل منه وصفه لهذه الثورة العظيمة التي خذلها صغار العرب: “كانت في فلسطين ثورة، ثورة دامية لم يسمع بمثلها في التاريخ، فلم يحدث في تاريخ العالم أن ثارت أمة صغيرة لا يبلغ سكانها المليون بمن فيهم من أطفال ونساء وشيوخ ولا يكاد يوجد فيهم من المقاتلة ما يزيد على بضعة آلاف لا يملكون سلاحا، لم يحدثنا التاريخ فيما حدثنا عن مثل هذه الثورة واندلاعها من مثل هؤلاء الأشخاص ضد إمبراطورية هي أضخم الإمبراطوريات، وضد أسلحة القرن العشرين الفتاكة المخيفة التي تزلزل الأرض وتدك الجبال، لا لم يحدثنا التاريخ بمثل هذا إلا في فترة واحدة عندما اندفع المسلمون من جزيرة العرب نحو الفرس والرومان وهم لا يملكون إلا إيمانهم بالله..” جريدة مصر الفتاة ٢٠ مايو ١٩٣٩.
كان الفلسطيني لوحده وليتهم تركوه لوحده، فلقد بلغ بأنظمة العرب حتى أن ترسل بجواسيس ليتجسسوا على الثوار وإعاقة نضالهم بل وحتى التخلص منهم بالديناميت.
في ١١ يونيو عام ١٩٣٨ اضطر الثوار الفلسطينيون إلى محاكمة وإعدام ثلاثة أشخاص من عرب نجد والحجاز وهم (مسيفر بن حمد الهذيلي وآخر باسم محمد بن كريم والثالث باسم عبدالله)، كانوا قد التحقوا بالثوار قبل شهر واستقبلوا استقبال الأنصار الأبطال لكن تبين فيما بعد أنهم فجار أنذال ولهم أهدافا تختلف عما كان يعتقده الثوار من خيرة فيهم، ومنها التشكيك في قيادات الثورة، وإطلاق اتهامات بحق قادة الثورة.
ومع شك الثوار فيهم بسبب اتصالاتهم المريبة، وديدنهم في الإفساد بين الثوار، إلا أن الثوار الفلسطينيين استيقظوا في منتصف الليل عليهم وأحدهم يعد أصابع الديناميت لتفجيرها فيهم، وحين حقق معهم واعترفوا بجريمتهم التي كانوا يعدون لها وبأهدافهم وبمرسلهم تم إعدامهم.
في تلك الفترة كانت آمال الفلسطينيين منعقدة على أن يوافق ابن سعود على مؤتمر عن فلسطين خلال موسم الحج في بداية عام ١٩٣٩، ولكن آمالهم ذهبت أدراج الرياح، فقد رفض ابن سعود ذلك رفضا قاطعا لعيون الإنجليز، والذي تبين أنه شريك مع الإنجليز في حربه على الثوار.
وبلغ بوفد من “جمعية المجاهدين السورية” وعلى رأسهم، الشيخ محمد حجازي كيلاني وهو “شيخ” وسبق وأن اشترك في معركة ميسلون، أن يزور القنصل البريطاني في دمشق، ويندد ويستنكر ما يفعله الفلسطينيون ضد بريطانيا.
“إن كل سوري نزيه يستنكر أعمال الإرهاب في فلسطين، لا من حيث جرائم القتل التي ترتكب فحسب بل من أجل الضرر الذي يصيب الصداقة البريطانية العربية جراء ذلك، وإن المجاهدين السوريين سيعملون كل جهدهم من أجل إنهاء حالة العداء ضد بريطانيا”.. هذا ما قاله الوفد للقنصل البريطاني في دمشق خلال هذا اللقاء، والذي نشرته صحيفة “الأهرام” بتاريخ ٢٦ مايو ١٩٣٩.
وحين نكب الشعب الفلسطيني بثمانية عشر ألفا من أيتام الشهداء عانوا الفاقة، استطاع بعض المقتدرين الفلسطينيين دمج بعضهم في أسرهم، وبعضهم استطاعت اللجان النسائية في فلسطين تدبير بعضهم في بيوتها، ولكن تبقى الكثير، خاصة في بلد دمر كل شيء فيه الإنجليز ويهودهم بوحشية لا مثيل لها، فوجهت المقدسية زليخة الشهابي مديرة إحدى اللجان النسائية نداء محزنا للحكام العرب ولأثرياءهم للعون في إنقاذ هؤلاء الأيتام، “لا تخذلوا آبائهم الشهداء الذين قدموا أرواحهم فداء لفلسطين.. هل نقول لهم خذلناكم في أطفالكم الذين تركتوهم خلفكم”.
جاء رد وحيد من أمير عربي يطلب فيه بعض الصبيان الأيتام شرط أن يكونوا بيض الوجوه شقر الشعر زرق العيون، فاشمئزت الجمعية من هذا الطلب الشاذ وتجاهلته. صحيفة العلم المصري ٣٠- ٨- ١٩٣٩.
في نهاية عام ١٩٣٦ ذهبت لجنة منكوبي فلسطين إلى مكتب الرئيس السوري محمد علي العابد والذي كان أثرى حاكم عربي في ذلك الوقت، وطلبت منه اللجنة العون للشعب الفلسطيني المنكوب، فتبرم منها غيضا ثم قذف بليرة سورية واحدة.
مما حدا باللجنة رفضها ومغادرة مكتبه، مسكينة هذه اللجنة التي اعتقدت فيه خيرا لم تدري أنه آنذاك كان يطالب الفرنسيين بحكم سوريا بالحديد والنار والبقاء أكثر في سوريا لأن الشعب السوري غير مؤهل لأن يحكم نفسه بنفسه.
لو قدر لأكبر مخرجي الأفلام صناعة لقطة سينمائية تختصر إلى أي درجة بلغ خذلان العرب والمسلمين لقضية فلسطين، لكان يكفيه هذا المشهد: الحاج أمين الحسيني في محطة قطارات صوفيا في بلغاريا يدخل في نوبة بكاء شديدة، حين تذكر كيف نجا من الموت المحقق في رحلة الهروب الشهيرة من فلسطين، بعد شهر من الاحتماء بالمسجد الأقصى حيث استطاع النفاذ من الحصار المطبق عليه.
وتسلل ليلا إلى لبنان وفيها سجن ومن سجنها الفرنسي هرب إلى سوريا ومنها قطع صحراءها حتى وصل العراق دخيلا، وهناك حاولوا خطفه تارة وتارة قتله ومنها نفذ إلى إيران، وفيها أعلنت بريطانيا جائزة كبرى على رأسه كان حيا أو ميتا، فهرب إلى تركيا وفيها حاولوا اعتقاله فهرب إلى بلغاريا.. حيث وجد الأمان أخيرا.
كان الذي أبكاه أنه واجه كل هذا في “دار الإسلام” وما رأى الأمان إلا حين خرج منها وبالذات في محطة قطار صوفيا في بلغاريا!.
لم يكن أمين الحسيني من المتشددين بل كان أكثر فلسطيني ساير الأنظمة العربية وحاول قدر استطاعته أن لا يضع علاقاتهم في حرج مع الإنجليز والذي كان يعلمها جيدا، وتحمل بسبب ذلك الكثير من التهم ولكنه في نفس الوقت حافظ على كلمته للثوار وكلمة الثوار إليه قدر استطاعته.
فدفع الثمن من الإنجليز والعرب، فتخيل معي أن أنظمة العرب، لم تقبل حتى بالفلسطيني “الكيوت” والمتستر على مخازيهم، فما بالكم بالثوار الذين بايعوا على أرواحهم في سبيل تحرير وطنهم، وفاوضوا عبر الرصاص والديناميت.
لقد بلغ بابن سعود أن يوجه برقية إلى أمين الحسيني وهو في العراق عبر سفيره في بغداد أثناء رحلة تشريده الطويلة والتي رفض ابن سعود أن يستقبله خلالها، حيث كتب له ولجمال الحسيني معا: “إياكم والاشتراك في أي دعاية ضد بريطانيا العظمى، إن في هذا دمار للعالم العربي”.
كانت هذه البرقية قد عرضها ابن سعود على الوكيل البريطاني في جدة “ريدر بولارد”، ليؤكد له مدى إخلاصه لبريطانيا، كما عرض عليه ملفا آخر فيه برقيات ورسائل تؤكد أنه يعود له الجهد الأكبر في الإيقاف الأخير للثورة الفلسطينية، أيلول ١٩٣٩، بعد أن كان هو السبب أيضا في الإيقاف الأول.
(IOR/R/15/1/572- ٢٤ أكتوبر ١٩٣٩ جدة)
ارسال التعليق