في قضية سعد الجبري ومخاطرها
التغيير
لم تحظ قضية وزير الدولة ومسؤول الاستخبارات السعودي السابق، سعد الجبري، بالاهتمام نفسه الذي حازته قضية اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، والتي جذبت أنظار العالم أسابيع، وتحولت إلى أزمة دولية للنظام السعودي.
ومع ذلك، تكشف تفاصيل قضية الجبري وصراعه مع محمد بن سلمان، عن تفاصيل خطرة، إلى درجة دفعت صحافيين غربيين، كالبريطاني ديفيد هيرست، رئيس تحرير موقع ميدل إيست آي، إلى وصف الجبري بأنه قادر على "إسقاط" محمد بن سلمان.
وبعيدا عن أي تنبؤات قطعية بالمستقبل، والذي يعتمد على عوامل كثيرة للغاية، لم يتبلور بعضها بعد، يبدو الجبري وشكواه وما أثاره من جدل مصدر تهديد حقيقي لمحمد بن سلمان واستقرار حكمه، لأكثر من سبب.
لعل أولها ما أشار إليه هيرست في مقاله، ويتعلق بأن الجبري أكثر معرفة بأسرار مملكة آل سعود من خاشقجي، فالأخير كان "صحافيا واسع الصلات"، أما الجبري فوزير دولة سابق ورجل أمن منذ منتصف السبعينيات، ترقى في المناصب حتى أصبح المسؤول الأول عن مكافحة الإرهاب في المملكة، وثاني أكبر رجال وزارة الداخلية بمملكة آل سعود بعد وزير الداخلية وولي العهد السابق، محمد بن نايف.
وتفيد تقارير صحافية عديدة بأن الجبري كان حلقة الوصل بين مملكة آل سعود وأكبر أجهزة الاستخبارات الدولية منذ أحداث "11 سبتمبر" في عام 2011 وحتى إقالته من منصبه في 2015، وأنه ما زال يحتفظ بصلات مباشرة وقوية مع بعض أكبر مسؤولي الاستخبارات الغربيين الحاليين والسابقين، خاصة في الولايات المتحدة.
ويحظى باهتمام وحماية ليس مؤسسات الأمن في كندا حيث يقيم حاليا فحسب، بل الاستخبارات الأميركية نفسها، والتي حذّرته منذ أوائل عام 2018 بأن حياته في خطر وعملت على حمايته، كما تشير ادعاءات قضية رفعها في واشنطن أخيرا ضد محمد بن سلمان، ومساعدين كبار للأخير، يتهمهم فيها بمحاولة قتله.
وهذا يعني أننا أمام ما هو أكثر من صحافي واسع الصلات، ربطته علاقات مع مؤسسات أمنية وأمراء نافذين، مثل جمال خاشقجي، وما هو أكثر من رجل أعمال نافذ أو أحد أعضاء العائلة الحاكمة نفسها.
نحن أمام أحد أهم مسؤولي الاستخبارات السعوديين على مدى حوالي عقدين، رجل يقال إنه المسؤول عن تطوير استخبارات مملكة آل سعود وأسلوب عملها، ويمتلك صلات ومعلومات داخل المملكة وخارجها، ساعدته على الهروب من مملكة آل سعود قبل إقالة رئيسه بن نايف، وعلى الحفاظ على سلامته وسلامة جزء كبير من أسرته، على الرغم من محاولات النيْل منهم، أو كما تفيد ادّعاءات القضية بأن الجبري "يمتلك ثروة من المعلومات عن أعمال محمد بن سلمان والبلاط الملكي السعودي".
ثانيا: ما نشر عن قضية الجبري في وسائل الإعلام الدولية، ومن ادّعاءات في قضيته المرفوعة أمام القضاء الأميركي، يلقي ظلالا سلبية على طبيعة عمل حكومة آل سعود ومؤسساتها، حيث يرد في ادعاءات القضية أن أحد أوائل أسباب الخلاف بين بن سلمان والجبري يعود إلى سبتمبر/ أيلول 2015، حين رفض الأخير طلب بن سلمان استخدام إدارة المباحث التابعة لوزارة الداخلية بمملكة آل سعود في القيام بعمليات انتقامية خارج إطار القانون ضد بعض أبناء الأسرة الحاكمة المقيمين في أوروبا بسبب انتقاداتهم العلنية.
وتقول ادعاءات القضية إن الجبري رفض الطلب، خوفا على صورة مملكة آل سعود ومصالحها، ما دفع بن سلمان إلى تكوين "فرقة النمر" من 50 من رجال الأمن والاستخبارات المنتمين إلى مؤسسات حكومية مختلفة، للقيام بأي أعمال يطلبها منهم، بما في ذلك خطف المعارضين واغتيالهم وتعذيبهم، وأن الفرقة نفسها هي المسؤولة عن اغتيال خاشقجي وارتكابات أخرى.
ولمواجهة ادعاءات الجبري، تحدث مسؤولون سعوديون لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية في الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، متهمين الجبري بالضلوع في تبديد 11 مليار دولار أميركي من صندوق مكافحة الإرهاب في وزارة الداخلية بمملكة آل سعود خلال فترة رئاسته الصندوق، وسوء استخدام هذه الأموال، غير أن أسرة الرجل تردّ بأن الاتهامات غير حقيقية وغرضها تشويه سمعته.
أما الصحيفة فقد سعت، في تقرير نشرته، إلى تفنيد الاتهامات من خلال الحديث مع مسؤولي استخبارات أميركيين، على دراية بأسلوب عمل استخبارات مملكة آل سعود. وتقول الاتهامات إن الجبري قام بإنشاء وتمويل شبكة من الشركات التي عملت على تمويل شبكة واسعة من عملاء المملكة الأمنيين حول العالم.
وأن الشركات التي كوّنها، وعمل فيها مقرّبون منه أو أفراد من أسرته، تلقت تحويلاتٍ مباشرةً وضخمةً بالملايين من الصندوق الحكومي. وهنا تفيد تقارير صحافية بأن حكومة آل سعود لم تقدم أدلة واضحة على أخطاء وقع فيها الجبري.
وينقل تقرير "وول ستريت جورنال"، عن خبراء استعان بهم، إن ما قام به الجبري كان أمرا معتادا في مؤسسات الأمن بمملكة آل سعود، وهو ما يجعل اتهامات الفساد ترتد سلبيا على حكومة آل سعود نفسها، والتي لم تقدم الكثير لتبريرها، ولم تتبع الأساليب القانونية في تعقب الجبري، وقامت بالتشكيك في أساليب عمل مؤسساتها الأمنية، وسبل إنفاق مئات ملايين الدولارات سنوات، وربما عقودا.
وبهذا تثير قضية الجبري مخاوف عميقة بخصوص أساليب عمل مؤسسات حكومة آل سعود، فتارة نسمع عن تشكيل فرقة النمر لقتل المعارضين وخطفهم وتعذيبهم، وتارّة أخرى نسمع عن اتهامات بلا دليل عن تبديد مليارات الدولارات سنوات في أكبر مؤسسات الأمن بمملكة آل سعود.
ثالثا: لا ترتبط قضية الجبري بنفوذه الشخصي، أو بطبيعة عمل المؤسسات بمملكة آل سعود فقط، ولكنها ترتبط أيضا بقضية مركزية أهم، وهي الصراع على السلطة داخل العائلة الحاكمة نفسها. مشكلة بن سلمان الرئيسية مع الجبري ليست ما يمتلكه من معلومات أو أسلوب إدارة صندوق مكافحة الإرهاب، ولكنها علاقته ببن نايف ورغبة بن سلمان في السيطرة على السلطة، والتخلص من كبار منافسيه ومساعديهم.
ولهذا يعدّ إسكات الجبري ضرورة لبن سلمان، لأن الرجل هو أكبر مساعدي محمد بن نايف. وتفيد ادعاءات القضية والتقارير الصحافية المنشورة بأن الصدام بين بن سلمان والجبري ارتبط، في مراحله المختلفة، بصدام بن سلمان مع بن نايف.
ومن أسباب إقالة الجبري المباشرة لقاءات عقدها مع مدير الاستخبارات الأميركية، جون برينان، بعلم بن نايف ومن دون علم بن سلمان. وقبل إقالة بن نايف، شارك بعض أنصاره في تمويل حملة علاقات عامة ولوبي في واشنطن لتحسين صورته، في مواجهة ضغوط بن سلمان لحشد دعم إدارة الرئيس ترامب لتولّيه ولاية العهد، إذ شك بن نايف بأن الجبري يقف وراء تلك الجهود.
ومع اعتقال بن نايف للمرة الثانية في مارس/ آذار الماضي، تم اعتقال نجل الجبري وابنته الممنوعين من السفر وإخفائهما، في محاولة إضافية للضغط عليه للعودة إلى مملكة آل سعود، وكأن ضغوط بن سلمان على بن نايف لا تكتمل من دون الضغط على الجبري.
وهذا يعني أن صراع بن سلمان مع الجبري في الجوهر لتثبيت أركان حكم بن سلمان، بالتخلص من كبار منافسيه في الأسرة الحاكمة ومساعديهم، وهو المسعى الذي يواجه تحدّياتٍ في الخارج، وخصوصا من مؤسسات الأمن والاستخبارات الدولية، كما هو الحال في الولايات المتحدة، حيث قرّرت حماية الجبري والدفاع عنه.
ومع تغير الإدارة الأميركية برحيل إدارة ترامب، عاجلا أو أجلا، قد يجد محمد بن سلمان نفسه في مواجهة ضغوط دولية متزايدة للإفراج عن منافسيه المعتقلين، ووقف تصرّفاته خارج إطار القانون، وربما محاسبته على ما سبق منهما، وهي جهود قد يلعب الجبري فيها دورا أساسيا بحكم مكانته وصلاته وما يمتلكه من معلومات.
ارسال التعليق