للمرة الرابعة.. مليارات السعودية تفشل في مواجهة "أمطار جدّة"
للمرة الرابعة، لم تحل مئات المليارات من الدولارات التي أنفقتها المملكة العربية السعودية على استثمارات البنية التحتية، منذ ستينيات القرن الماضي، دون إغراق مياه الأمطار مدينة جدة الساحلية ومناطق أخرى رئيسية بالبلاد.
وفي مشهد جديد قديم، غمرت السيول الناتجة عن الأمطار الغزيرة، الثلاثاء 21 نوفمبر 2017، أحياء جدة التي تمثل عاصمة تجارية للمملكة، لتُغرق شوارعها الرئيسية وعدداً من أنفاقها، ما تسبب بتعطيل الدراسة وتوقف حركة الملاحة البحرية بميناء جدة الإسلامي لعدة ساعات.
هذا الحادث لم يكن الأول من نوعه، فلطالما عانت مدينة جدة (التي يصفها أهل المملكة بأنها عروس البحر الأحمر)، على مدار سنوات طويلة، من غرق شوارعها وأحيائها بالسيول جراء أزمة تصريف مياه الأمطار، رغم مئات المليارات التي التهمتها مشاريع البنى التحتية.
وخلال السنوات الماضية، احتلت السعودية مراكز متقدمة في قائمة الدول الأفضل استثماراً بمشاريع البنى التحتية؛ فهي تنفق المليارات سنوياً لبناء شبكات تصريف مياه الأمطار، والصرف الصحي، والطرقات، والأنفاق، وغيرها من المنشآت.
وتنتهج المملكة، صاحبة الاقتصاد الأقوى عربياً، سياسة توسعية في الإنفاق، فبلغ إجمالي نفقات ميزانياتها في آخر 10 سنوات نحو 1.57 تريليون دولار أمريكي، تركّز الجزء الأكبر منها على مشاريع البنية التحتية.
وفي رصد أعدّه "الخليج أونلاين"، استناداً لبيانات البنك الدولي وموازنات الأعوام 2015 و2016 و2017، المنشورة على موقع وزارة المالية السعودية، تبيّن أن المملكة أنفقت على مشاريع البنى التحتية والاستثمارات البلدية، في الفترة ما بين 1968 وحتى 2017، نحو تريليونين و156 ملياراً و418 مليوناً و911 ألف دولار.
ويستعرض الجدول التالي النفقات السعودية منذ العام 1968 على البنة التحتية، بما يشمل تحسينات الأراضي (الغرامات، والخنادق، والمصارف، وغيرها)، وشراء الآلات والمعدات، وبناء الطرق والسكك الحديدية، وما شابه ذلك.
جدول حنين
- تسلسل الإنفاق
في الفترة ما بين عامي 1968 و1972، وصل حجم الإنفاق السعودي على مشاريع البنى التحتية إلى 3 مليارات و923 مليوناً و332 ألف دولار، ثم ارتفع في الفترة ما بين 1973 و1977 ليصل إلى قرابة 47 ملياراً.
في الفترة ما بين 1978 و1982، بلغ حجم الإنفاق على هذه المشاريع 163 ملياراً و820 مليون دولار تقريباً. وفي الفترة ما بين 1983 و1987، بلغ حجم الإنفاق 126 ملياراً و818 مليوناً تقريباً.
في الفترة من 1988 وحتى 1992، وصل إنفاق المملكة في هذا القطاع إلى 111 ملياراً و150 مليوناً و735 ألف دولار، ثم وصل إلى 138 ملياراً و112 مليوناً و500 ألف دولار في الفترة ما بين 1993 و1997.
وبلغ حجم الإنفاق في الفترة ما بين 1998 و2002 أكثر من 162 ملياراً و300 مليون، ليرتفع بعدها في الفترة ما بين 2003 و2007 إلى ما يقارب الـ 328 ملياراً، قبل أن يصل الإنفاق إلى ذروته في الفترة ما بين 2008 و2012، مقترباً من حاجز الـ 674 ملياراً.
وما بين عامي 2013 و2017 وصل حجم الإنفاق السعودي على البنى التحتية إلى 402 مليار و132 مليوناً و133 ألف دولار.
هذه الأرقام الكبيرة ربما نجحت إلى حدٍّ ما في إنشاء بنية تحتية قوية لمناطق واسعة من المملكة، إلا أنها فشلت في إنقاذ العاصمة التجارية للبلاد من الغرق قبل أيام، بعد 4 ساعات من هطول الأمطار.
- أبرز المشاريع
وفي محاولة للاقتراب أكثر من واقع البنية التحتية الخاصة بمدينة جدة، صاحبة أكبر معاناة مع تصريف مياه الأمطار، والتي امتدّت على مدار 13 عاماً، نرصد فيما يلي أبرز مشاريع البنى التحتية التي نُفّذت بالمدينة منذ العام 2005 حتى 2015، استناداً إلى مصادر رسمية ومعلومات نشرتها صحيفة "المدينة" السعودية.
- فبراير 2005، تم توقيع عقود لتنفيذ مشروع إنشاء خطوط رئيسية للصرف الصحي في 21 منطقة رئيسية بمدينة جدة، بتكلفة إجمالية وصلت إلى 1.39 مليار دولار.
- ديسمبر 2007، نفّذت أمانة جدة مشروعات لتصريف مياه الأمطار تغطي كامل محافظة جدة، بتكلفة قُدّرت بـ 533 مليوناً و334 ألفاً و85 دولاراً.
- ديسمبر 2007، اعتمد أمين محافظة جدة السابق، عادل فقيه، خطة العمل الرئيسة لتصريف ورفع مياه الأمطار لعام 2008، في التقاطعات والشوارع الرئيسة والداخلية والساحات؛ من خلال استخدام شبكة التصريف والتوصيلات أو بواسطة الناقلات.
- مارس 2009، توقيع عقد مدته ثلاث سنوات لمشروع صيانة شبكات تصريف مياه الأمطار شمال جدة، بتكلفة إجمالية وصلت إلى 1.10 مليون دولار، وفي شرق المدينة بتكلفة 1.90 مليون دولار، وكذلك توقيع عقد مشروع صيانة وتأهيل شوارع الأحياء المكتملة في محافظة جدة بقيمة 1.91 مليون دولار.
- أكتوبر 2010، أعلن علي القحطاني، وكيل أمين جدة للخدمات، عن اعتماد دراسات تتضمّن إنشاء سدود وغيرها من الاحتياطات اللازمة في إطار الحلول طويلة الأجل لإشكاليات شبكات تصريف مياه الأمطار بجدة، في ظل توفير الدولة الاعتمادات المالية المطلوبة، التي تصل إلى نحو 160 مليون دولار.
- يناير 2013، أعلنت إدارة مشروع مياه الأمطار وتصريف السيول في محافظة جدة أنها انتهت من جميع أعمال مشروعات تصريف السيول الناتجة عن الأمطار، بتكلفة إجمالية وصلت إلى نحو 103.55 ملايين دولار.
- أكتوبر 2015، أعلن هاني أبو راس، أمين محافظة جدة، اكتمال جميع الاستعدادات لموسم الأمطار، بعد إعادة تشكيل لجنة الأمطار والسيول، وتوفير الدعم اللازم لنجاح خطة الأمطار والسيول.
ولعل أكثر ما يثبت فشل معظم مشاريع البنى التحتية سابقة الذكر، وفق مختصين سعوديين، هو وقوع 4 كوارث خطيرة في جدة خلال الأعوام التسعة الماضية؛ جرّاء السيول الناتجة عن مياه الأمطار.
بداية تلك الكوارث كانت في 25 نوفمبر 2009، عندما وقعت فيضانات في جدة أدت إلى مصرع 116 شخصاً، وأُعلن عن فقدان 350، ففي ذلك الوقت غُمرت الطرقات بنحو متر من المياه، وجُرفت آلاف السيارات، بعد 4 ساعات فقط من سقوط الأمطار.
ووقعت الكارثة الثانية في 26 يناير 2011، عندما ضربت المدينة سيول عارمة، أودت بحياة أكثر من 100 شخص، وإصابة مئات آخرين، كما قُطع التيار الكهربائي، ما استدعى استخدام الطائرات المروحية لإنقاذ المنكوبين.
وفي 17 نوفمبر 2015، تكرّرت ذات الأزمة، وغرقت جدة مرة أخرى بالسيول، بعد فشل شبكات البنية التحتية في تصريف مياه الأمطار الغزيرة.
أما الكارثة الأخيرة فوقعت في 21 نوفمبر 2017، حيث غمرت السيول الناتجة عن مياه الأمطار أحياء جدة وشوارعها الرئيسية وعدداً من الأنفاق، ما أدى لتعطيل الدراسة، وتوقف حركة الملاحة البحرية بميناء جدة الإسلامي لعدة ساعات، وما زالت الجهات الرسمية تعمل على حصر الأضرار الناتجة عن هذه السيول.
- فشل متكرر
هذه المآسي المتكررة في المدينة تؤكد أن الأرقام والمشاريع الضخمة التي فشلت على مدار عقود في إنقاذ واحدة من أهم محافظات المملكة من الغرق بمياه الأمطار، تعكس حقيقة أن الفساد المتجذّر منذ عقود في السعودية، وليس وليد السنوات القليلة الماضية، بحسب مراقبين.
ووفقاً لمنظمة الشفافية الدولية التي تنشر مؤشر مدركات الفساد السنوي، فإن المملكة العربية السعودية زاد الفساد فيها بين عامي 2015 و2016، لينخفض تقييم شفافيتها من المرتبة الـ 52 إلى المرتبة الـ 46 في قائمة تضم 100 دولة.
وحول ذلك قال الكاتب السعودي جمال خاشقجي، في ندوة نُظّمت بالمركز العربي في العاصمة الأمريكية واشنطن، بعد يوم واحد من كارثة سيول جدة الأخيرة، إن الأسرة الحاكمة في الرياض أصل الفساد في المملكة العربية السعودية؛ "لأن الأمراء هم من يتدخّلون في العقود ويحصلون على المليارات منها".
وأشار خاشقجي إلى وجود هدر سنوي يقدر بأكثر من 100 مليار دولار في المملكة، يتم إنفاقها بشكل غير فاعل.
من جانبه أعرب الكاتب السعودي خلف الحربي، في مقال له نشرته صحيفة "عين اليوم" السعودية، عن خشيته من أن تتحوّل مأساة جدة جرّاء السيول إلى "مهرجان سنوي للعبث بحياة الناس".
وقال الحربي: "للعام التاسع أو العاشر على التوالي يدخل الشتاء فتغرق جدة، تمتلئ الأنفاق الجديدة بالماء وتطفح الشوارع بالسيارات، وتخرّ سقوف المستشفيات والجامعات، وتضحك المشاريع القديمة على المشاريع الجديدة وبالعكس، بينما هناك في الزاوية التي لم يصلها المطر ثمة أموال نُهبت، وثقة شعبية اهتزّت، حتى لم تعد قادرة على الوقوف على قدميها، وأنظمة وإجراءات تكدّست فوق بعضها حتى أصبحت بلا قيمة".
وأضاف: "يمكننا اليوم أن نقول بأن غرق جدة الدائم تحوّل إلى أيقونة للفساد ورمز اللصوصية الفاضح، الذي يتحدّى أحلام بلد كامل، ومع تكرار التحقيقات والمحاكمات، وخطط مقاومة الأمطار، ومشاريع نهب المال، كدنا نفقد الأمل في التخلص من الحال المزري".
وفي تقرير سابق حول الفساد في المملكة، نشرته مؤخراً صحيفة الفايننشال تايمز البريطانية، ذكرت أن مخصصات النفط الهائلة يذهب جزء كبير منها إلى الأسرة الحاكمة بكافة مكوّناتها.
وأوضحت أن أكثر من 25 ألف أمير سعودي يقتطعون جزءاً كبيراً من ثروات البلاد النفطية، سواء من كان في منصب بالحكومة أو بعيداً عنها.
وذكرت الصحيفة ذاتها أن كل أمير يتقاضى راتباً شهرياً يُقدّر بنحو 26 ألف دولار، إضافة إلى منحة سنوية تقدر بـ 106 آلاف دولار، هذا إلى جانب سهولة تملّك الأراضي في أنحاء المملكة، وإقامة المشاريع والأعمال الضخمة.
بقلم : حنين ياسين
ارسال التعليق