الاخبار
مهرجان الرياض… تبييض ثقافي ومحاولة فاشلة لشراء روح الدعابة
قدّمت السلطات السعودية مهرجان الرياض الكوميدي بوصفه بوابة إلى الحداثة والانفتاح، لكنه بدا في جوهره استعراضًا مدفوعًا بالثروة لشراء شرعية ثقافية لا يمكن أن تزدهر تحت قيود الرقابة والخوف.
وقد كان الرهان السياسي واضحًا: تحويل منصة الكوميديا إلى ورشة تجميل لصورة دولة تلاحق المعارضين، وتقمع الأصوات المستقلة، وتتعامل مع حرية التعبير كامتياز قابل للإلغاء عند أول نكتة غير مرغوبة.
وانتهى المهرجان في 9 أكتوبر وقد قدّم الدليل الأقوى على عكس ما أراد منظّموه: لا يمكنك استيراد روح الدعابة وتدجينها بمرسوم، ولا شراء الجرأة بشيك مصرفي.
الإلغاء الذي طال الفنان الأسترالي الأميركي جيم جيفريز يلخّص الفكرة. مجرد حديث نقدي – ولو متناقضًا ومثيرًا للجدل بحد ذاته – عن جريمة قتل جمال خاشقجي، كان كافيًا لإخراج اسم كبير من الملصق.
الرسالة كانت فاقعة: المهرجان ليس مسرحًا لقول ما لا يُقال، بل مسرحًا لعدم قول ما يجب أن يُقال. هكذا تتحوّل منصة يفترض أن تهزّ الثوابت إلى مساحة معقمة، تُدار بقوائم محظورات تبدأ بالسياسة والدين وحقوق الإنسان ولا تنتهي بنكتة عن أمراء ونظام وقضاء.
في المقابل، مرّ بعض الأسماء اللامعة عبر بوابة التدقيق الرسمي بسلاسة لافتة. بيل بور، ديف شابِيل، كيفن هارت، جيمي كار، جاك وايتهول، وعميد جليلي وغيرهم.
صفقات سباعية الأرقام لملء المقاعد بضحكات مضبوطة الإيقاع، وجمهور ذكوري الطابع يغادر القاعة وقد حصل على منتج ترفيهي فاخر منزوعة منه أسلحته الحقيقية: السخرية من السلطة، تفكيك المقدّسات السياسية، ومساءلة القوة.
النتيجة موكب من مهرّجي بلاط يعرفون جيدًا من يوقّع الشيكات، ويعرف المنظمون جيدًا ما الذي لن يُقال على خشبة المسرح.
المفارقة أن بعض هؤلاء الكوميديين يرفعون لواء حرية التعبير في الغرب بوثوقية عالية، ويقدّمون أنفسهم كمدافعين عن الحق في الصدمة والإسفاف والتجريب. لكنهم هنا يقبلون عقودًا تتضمن بنودًا صريحة تمنع التعرّض للمملكة ورموزها ودينها وسجلها الحقوقي.
أي حرية هذه التي تتبخر عند بوابة المطار؟ وأي تبادل ثقافي هذا الذي يُحاصر في قاعات مكيّفة، بأسعار تذاكر فلكية، وبقوائم محظورات تُدار على طريقة الرقابة الوقائية؟ تبدو الدعوات إلى “الجسور الثقافية” مجرد غطاء لتعاقدات مربحة، لا فعلاً لفتح فضاءات قول جريء في مجتمع يُعاقَب فيه القول الحر.
الأخطر أن هذه العروض، مهما بلغت نجومية أصحابها، لا تمسّ التناقض البنيوي: السعودية تملك جمهورًا كوميديًا محليًا نابضًا على يوتيوب وتيك توك وفي المقاهي والدوائر الخاصة، لكنه يعمل تحت سقف منخفض وتهديد دائم.
يكفي التذكير بقصص ملاحقات وحبس وإعدامات طالت أصحاب حسابات ساخرة. كيف يمكن لمشهد كوميدي أن يزدهر حقًا في بيئة تُجرّم السخرية السياسية، وتحوّل النكتة إلى دليل إدانة؟ كيف تُصنع الكوميديا حين تُمنع موادها الخام: الوقاحة، العفوية، نقد السلطة، والحق في الخطأ؟
الكرنفالية التي تحدّث عنها باختين – قلب الهرمية والضحك على الأقوياء – تُفقد معناها حين يقف المهرّج على خشبة مُحاطة بالحرس، ووراءه عقد يمنع “الاقتراب والخوض”.
نكتة عن المثليين تمرّ بسهولة، ونكتة عن النساء قد تمرّ، لكن نكتة عن ولي العهد أو عن حرب مدمّرة أو عن سجين رأي؟ خط أحمر. هذا ليس تحررًا ثقافيًا، بل إعادة تدوير للأذى عبر قنوات ترفيهية. إنّها كوميديا مخصيّة وظيفتها تبديد الانتباه، لا توسيع الهامش.
من الناحية السياسية، يندرج المهرجان في خط مستقيم مع مشاريع تلميع الصورة: فعاليات رياضية عابرة، معارض فنية مستوردة، وسياحة ترفيهية مبهرة. الفكرة واحدة: إغراق الفضاء العام بصخب استهلاكي يغطي على واقع قاسٍ. لكن النتيجة عكسية: كلما تعاظم الاستثمار في واجهة البهرجة، ازدادت الفجوة فجاجة بين الصورة والواقع.
لا يمكن لكأس عالم أو حفلة نجوم أو مهرجان كوميديا أن يشيّد مصداقية لا يشيّدها إلا قانون واضح، وقضاء مستقل، وحريات مكفولة، ومحاسبة على الانتهاكات.
الحقيقة التي تهرب منها الرياض أن روح الدعابة لا تُستورد ولا تُفرض. تُخلق من احتكاك المجتمع بذاته، من احتكاك المواطن بسلطته، من القدرة على تحويل الألم إلى ضحك مُحرِّر، والمهانة إلى سخرية تقوّض جبروت المتسلّط.
ولأن الحكومة السعودية لا تستطيع – ولا تريد – السماح بهذه العملية الطبيعية، تلجأ إلى بديل مشوّه: شراء الواجهة واستئجار الأصوات. لكن شراء الأصوات لا يشتري الضمير، وشراء العروض لا يشتري الحرية، وشراء الكوميديين لا يشتري الضحك الحقيقي.
الدرس واضح لمن يريد أن يراه: إذا كان النظام واثقًا من قوة مشروعه، فليترك النكتة تسقط حيث تسقط. فليسمح بالسخرية منه قبل غيره.
أمّا حين تُحاط الضحكة بسياج من المحظورات، فإن ما يُباع للجمهور ليس فنًا، بل صمتًا مُعلّبًا. عندها يصبح هذا الحدث التافه بالذات دليل إدانة، ومحاولة فاشلة لشراء ما لا يُشترى: ثقافة شعبية أصيلة لا تنمو إلا في هواء الحرية.
ارسال التعليق