شبح خاشقجي يطارد بن سلمان.. هل تنجح محاولاته في إسدال الستار على الجريمة
[عبد العزيز المكي]
بقلم: عبدالعزيز المكيمرة أخرى تعود جريمة قتل الصحافي الذي خدم النظام السعودي قرابة الأربعين عاماً، في قنصلية بلاده في اسطنبول بتركيا في أكتوبر عام 2018، جمال خاشقجي، وتقطيع جثته وتذويبها وإخفائها، على يد فريق مقرب من بن سلمان، متخصص في الإجرام وفي التصفيات الجسدية.. نقول مرة أخرى تعود هذه الجريمة لتتصدر اهتمام الأوساط السياسية والإعلامية في أمريكا وفي الغرب، مع اقتراب الذكرى الأولى لهذه الجريمة في أكتوبر القادم، وفي الحقيقة أن الحديث عن هذه الجريمة وإثارتها لم ينقطع طيلة المدة الماضية، أي منذ قتله وحتى اليوم فبين الحين والآخر تثار هذه القضية، لكن الاهتمام بها خلال الأسبوعين الماضيين اتسع بشكل لافت، لاسيما بعد ما كشفت صحيفة صباح التركية في يوم 17 أيلول/2019، أن السعودية باعت مبنى قنصليتها في اسطنبول (مسرح جريمة قتل خاشقجي) بشكل سري، في الوقت الذي تستعد فيه النيابة العامة باسطنبول لإصدار لائحة اتهام قبيل ذكرى الاغتيال في أكتوبر الماضي. ما يعني ذلك أمور عديدة وفي غاية الأهمية نذكر أو نشير إلى بعضٍ منها ما يلي:
فشل الجهد السعودي، جهد بن سلمان، لطوي الجريمة والتخلص من تفاعلاتها المتواصلة، والتي باتت تشكل كابوساً، وتحولت سلاحاً أمريكيا وغربياً للضغط على بن سلمان كلما دعت الحاجة لابتزازه مالياً، أو إجباره على عقد صفقات تسليحية، أو إملاء أوامر عليه لانجازها، وللتخلص من هذا الضغط والنفس، ومن هذا الكابوس الذي بات من وجهة نظر بن سلمان يهدد وصوله إلى عرش المملكة بذل جهوداً استثنائية من أجل إسدال الستار على وجه هذه الجريمة، ومن جملة هذه الجهود، تقديم الأموال الطائلة وبمليارات الدولارات للرئيس الأمريكي ترامب من أجل أن يمارس الأخير الضغط على الأوساط الأمريكية السياسية والإعلامية التي ظلت تثير القضية وتضغط بدورها على ترامب من أجل أن يوقف دعمه لهذا القاتل المتهور، الذي بات دعمه كما تؤكد الأوساط الأمريكية- من قبل ترامب، يشكل سقوطاً أخلاقياً للولايات المتحدة، قبل ترامب، يشكل سقوطاً أخلاقياً للولايات المتحدة، ويكلف واشنطن سمعتها في المجتمع الدولي والمنطقة. وللإشارة، فإن ترامب قاوم هذه الضغوط في الاتجاه المذكور، والتي تمارس عليه أحيانا من قيادات أمريكية عالية المستوى في مجلس الشيوخ أو في مؤسسات أخرى وأصر على دعم بن سلمان، مبرراً ذلك، بأن بن سلمان منح أمريكا مئات المليارات من الدولارات التي أنعشت الاقتصاد الأمريكي، وحقق بها ترامب بعض وعوده الانتخابية، ومنها تحسين الوضع المعيشي للمواطن الأمريكي. يبد انه، ورغم كل هذا التمرد من جانب الرئيس الأمريكي على تلك الضغوط، إلا أن الأوساط الأمريكية في مجلس الشيوخ والنواب وفي المؤسسات الأخرى، تثير قضية خاشقجي بوجه بن سلمان إلى الآن، وتتهمه بأنه وراء عملية القتل، في مناسبة وفي غير مناسبة، ففي هذا السياق نشير إلى واحدة من هذا الاثارات في نهاية شهر أيلول الماضي، والتي تمثلت في إقدام قناة الـ (سي. بي. إس) الأمريكية على بث فلم وثائقي يتحدث عن قصة صعود بن سلمان إلى الحكم وكيف أطاح بمعارضيه الواحد تلو الآخر، وتناول الفيلم أيضاً قضية مقتل خاشقجي، حيث أشار معد الفيلم الذي يمتد الساعتين من الزمان، مارتن سميث إلى أن بن سلمان تهرب من الإجابة وإذا كان لابد من اللقاء فبدون كاميرا!! وأشار سميث أيضاً إلى أن حتى عادل الجبير وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية تهرب من الأسئلة حول مكان سعود القحطاني مستشار بن سلمان المقرب في الديوان الملكي، والمتهم الرئيس في فريق الاغتيال السعودي.. وفي هذا الفيلم يشكك مارتن سميث بالرواية السعودية حول كيفية قتل خاشقجي، ويتهم بن سلمان بأنه وراء عملية القتل، لدرجة أن اضطر الأخير إلى الدفاع عن نفسه رغم اعترافه غير المباشر بأنه المسؤول عن عملية القتل حيث قال في تصريح جديد للقناة الأمريكية المذكورة أي الـ (سي.بي.اس)، قال فيه انه يتحمل المسؤولية عن هذه العملية التي وصفها بالشنعاء، لأنه يعتبر قائد في الحكم السعودي، منكراً علاقته بفريق الاغتيال، وبنفس الوقت اعترف أن هذا الفريق قام بهذا العمل بدون علم القيادة السعودية، وبأن هذا الفريق جزء من منظومة الحكم السعودي، الأمر الذي يكشف حالة الإرباك لدى بن سلمان، ومقدار تأثير الضغوط عليه نفسياً وإعلاميا، ويكشف أيضاً، أن عملية قتل خاشقجي ومواصلة بعض الأوساط الأمريكية والغربية أثارتها بين الحين والأخر، باتت معولاً في جسد النظام السعودي، ويهدد صعوده إلى العرش.
إن فشل الجهود السعودية، رغم كل المليارات والتحركات السياسية والدبلوماسية التي قام بها بن سلمان، وسخّر لها ابن عمه تركي الفيصل وابنه عمه الأخر بندر بن سلطان اللذين كانا سفيرين في واشنطن، ورئيس جهاز المخابرات السعودي، ولديهما علاقات واسعة بالمؤسسات الأمريكية وباللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة.. نقول إن فشله لحد الآن في طوي قضية خاشقجي ودفع الأوساط الإعلامية وبعض السياسية في أمريكا والغرب إلى نسيانها، جعل النظام السعودي تحت الرصد والمتابعة، بل جعله مكشوفاً أمام نظر الأعين، من ناحية ممارساته القمعية، وساهم ذلك في كشف الجانب الدموي والقمعي لهذا النظام والذي كان مغطى بالتضليل الإعلامي، وببذل المليارات للإعلام الخارجي أو للمؤسسات الغربية والأمريكية من أجل التعتيم على هذا الوجه الدموي والقمعي، فهذه الجريمة جعلت بعض الأوساط الإعلامية الأمريكية تشعر بأن من المستحيل بامكان التغاضي عن جرائم النظام بحق المعارضين والناشطين والناشطات داخل السعودية مهما بلغ العطاء السعودي من مبالغ ضخمة خوفاً على سمعتها وعلى سقوط حرفيتها، ولذلك لاحظ المتابعون، أن بعض الصحف الغربية تثير بين الحين والآخر قضية الناشطة لجين الهذلول، وأخواتها الناشطات، والتعذيب البشع الذي يتعرضن له في السجون السعودية وانتقاد هذه الصحف للقضاء السعودي، حيث تتهمه بالافتقار إلى القوانين التي تحترم حقوق الإنسان، وبالافتقار إلى العدالة، بل ذهب بعضها إلى القول بعدم وجود قضاء في السعودية إنما هو مجرد ديكور إعلامي تختبئ وراءه قرارات وأحكام الملك المعتوه سلمان وابنه محمد. كل ذلك، فتح عيون الرأي العالم الغربي والأمريكي على النظام السعودي، وعلى الوجه الإجرامي الدموي التكفيري له، وراح يضغط على حكوماته سواء في دول الغرب أو في أمريكا بإيقاف المساعدات العسكرية لهذا النظام القاتل المستبد، وإيقاف التعامل معه أو قطع العلاقات معه، لدرجة أن بعض أوساط الرأي العام الغربي، أشارت صراحة إلى السقوط الأخلاقي في لحكوماتها بسبب استمرارها في دعم النظام السعودي، لقاء الأموال الطائلة التي سرقها من ثروات الشعب في المملكة، التي يرشي بها تلك الحكومات من أجل السكوت أو التغطية على جرائمه التي يرتكبها داخل المملكة. ذلك ما تسبب في مرارة النظام السعودي ومعاناته اليومية بسبب هذا الانكشاف في أمام الرأي العالم الدولي والإقليمي، وقد عبر بوضوح عن هذه المرارة سفير المملكة السعودية في العاصمة البريطانية الأمير خالد بن بندر آل سعود حيث قال "إن مقتل خاشقجي على أيدي مسؤولين حكوميين، وصمة على المملكة السعودية كلها". جاء ذلك في تصريح له لهيئة الإذاعة البريطانية البي بي سي في 18 أيلول، أي الشهر الماضي.
إضافة إلى ذلك، فأن انفتاح عيون الرأي العام على الوجه البشع للنظام السعودي، جعل الكثير من أوساط هذا الرأي العام تتابع الجرائم المروعة التي يقترفها هذا النظام في اليمن، وما سببه من قتل وتجويع وتشريد وتخريب للبنية التحتية وللمرافق العامة لهذا البلد، بسبب شنه حرب ظالمة على الشعب اليمني المسالم، واقترافه المجازر تلو المجازر بحقه، وفرض الحصار بكل الحصار بكل أنواعه عليه، والتسبب في هذه الكارثة والمأساة الإنسانية، التي قالت المنظمات الإنسانية الدولية، أن القرن الماضي لم يشهد لها مثيلاً! ذلك رغم ما يقوم به النظام من تحرك دبلوماسي وتوظيف المالي لإخفاء هذه الجرائم.. وبالتالي فأن ذلك شكل كابوساً على النظام وعلى بن سلمان تحديداً، إذا لا تستبعد بعض الأوساط القضائية جر بن سلمان إلى المحكمة الدولية، سيما وان جرائم السعودية في اليمن قالت هذه الأوساط تعتبر جرائم حرب.
ونتيجة لفشل بن سلمان في إسدال الستار على جرائمه، ثم ازدياد الضغط الدولي باتهامه بقضية خاشقجي.. كل ذلك جعل ولي العهد السعودي أكثر استعداداً لتقديم القرابين من مقربيه دائرته الضيقة لتبرئة نفسه من جريمة قتل خاشقجي، لأنه ولاخفاقه في تجاوز تلك الجريمة، بدأ يشعر أن النار بدأت تصل إلى أذيال ثوبه، ويمكن أن تكون حائلاً بينه وبين العرش، إذا لم تحرقه، وتوصله إلى غياهب المحاكم الدولية.. وذلك ما يفسر تصريحات بن سلمان الأخيرة لقناة السي بي اس الأمريكية التي اشرنا إليها، وادعى فيها أن الفريق الذي قتل خاشقجي قام بهذا العمل من تلقاء نفسه! رغم انه زعم انه يتحمل المسؤولية لأنه هو من يقود البلد، أو حصلت الجريمة في عهده!! وهو ادعاء لم يصدقه الناس مطلقاً، لان النظام السعودي نظام دكتاتوري استبدادي يحصي الشاردة والواردة على المواطن في المملكة، فكيف فريق ضخم بهذه العملية الضخمة دون علم بن سلمان، إذا لم تكن بعلمه وبإشرافه وبأوامر منه؟!
وإلى ذلك، فأن الاعترافات الأخيرة التي أدلى بها رئيس فريق الاغتيال والمقرب من بن سلمان ونائب رئيس الاستخبارات السعودي السابق، أحمد العسيري، تصب في هذا الاتجاه، أي محاولة تبرئة بن سلمان، حيث قال العسيري " أنه أسس ثلاث فرق وهي فريق التخابر، وفريق الإقناع والتفاوض، والدعم اللوجستي على أن يكون الجنرال منصور أبو حسين مسؤولاً عن الفرق الثلاثة " بحسب صحيفة الصباح التركية، التي قالت " انه الأول مرة يتضح أن المسؤول عن فريق التنفيذ والمكون من ثلاث مجموعات هو منصور أبو حسين، وليس كما كان يعتقد سابقاً ماهر المطرب المكلف بعملية التفاوض مع خاشقجي، ويعد الرجل الثاني في الفريق ".
بعد سنة على قتله الصحافي جمال خاشقجي، يجد بن سلمان نفسه منبوذاً ملاحقة اللعنات والاتهامات، من أوساط سياسية غربية وأمريكية وعربية وإسلامية، ويتلقى النعوت المختلفة والتوصيفات المتنوعة، ومن هذه الأوساط الإعلامية والسياسية المشار إليها، فمرة تصفه بالقاتل، ومرة بالدموي والمستبد وأخرى بالمجرم، ولذلك يجد نفسه اليوم معزولاً، مقارنة بلمعان نجمه قبل الجريمة، ففي ذلك الوقت كانت بعض الدول الغربية ترحب به بل بعضها تتلهف للقاء به طمعاً بأمواله الضخمة، أما اليوم، فرغم هذه الأموال، لا تريد اللقاء به، لئلا تسقط سمعتها، أو تتلوث صفحتها باحتضانها قاتل ومجرم يرتكب المذابح المروعة بحق أبناء الشعب اليمني ويذبح ويقطع جثث العشرات بل المئات يومياً منهم بصواريخه وطائراته الحربية، على شاكلة تقطيع وتصفية خاشقجي، أما الفرق أن الضحية الأخير قُطع بالمنشار وذوبت جثته بينما أبناء اليمن قطعت أجسادهم بسكاكين شظايا الصواريخ الساقطة على سقوف بيوتهم، ومدارسهم، ومرافقهم الحياتية الأخرى، ودفنت أوصال أجسامهم المقطعة المتناثرة تحت ركام أنقاض البيوت والمدارس والدوائر والمخازن وما إلى ذلك.. واللافت، أن الرئيس الأمريكي ترامب حاول توظيف مكانته وبلاده، كرئيس اكبر دولة في العالم لتسويق صورة بن سلمان، وتزويقها، وتلميعها، أمام العالم، بعد هذه الجريمة التي عرت هذا الجزار وكشفت تجاعيد وجهه الإجرامية، كما تمثل ذلك في قمة العشرين قبل عدة أشهر، لكن ذلك كما يبدو الآن من الهجوم الإعلامي والسياسي على بن سلمان، لم يسعفه كثيراً، ولم يخفِ تلك التجاعيد التي لم تترك ندبها وبصماتها على صورة هذا القاتل وحسب، بل على ما يبدو حفرت ندباً بل حفراً في وعي وشعور الرأي العام الغربي والأمريكي والعربي والإسلامي، بات من المستحيل على بن سلمان ردمها وإخفائها برغم كل الأساليب والأموال المصروفة، لشراء الذمم ونفوس المطبلين المريضة، وهذا مما سيكون له تأثير بالغ ليس على سمعته وسمعة النظام السعودي التي وصلت للحضيض اليوم وحسب، بل وسيكون سبباً من أسباب تقويض طموحاته في الوصول إلى العرش، أكثر من ذلك، يمكن أن يترك ذلك تأثيراً على استقرار واستمرار النظام برمته، سيما وان الهزات الارتدادية التي يتعرض لها النظام هذه الأيام على الصعيدين العسكري والنفطي وعلى صعيد الدعم الأمريكي، يعزز هذه التوقعات، نتيجة السياسات الكارثية التي يتبناها هذا الصغير الدكتاتور والمستبد !
ارسال التعليق