أو عندما تقوم "جدّة" بالتقويض الرمزي ل"نيوم"!
[عبد الرحمن الهاشمي]
أن تغرق "جدّة" مرة أخرى بسبب الأمطار، وتعيش نفس كارثة الفيضانات كما قبل 13 سنة خلت ، فإن الأمر لا يمكن أن يمر دون محاسبة، ومن دون تساؤلات كبرى تندرج في منطق الدولة والقانون، وعن علاقة الدولة بالمجتمع، وعن وضع الحريات فيما هو الحق في الإحتجاج والمطالبة بمحاسبة المتسببين في الكارثة والكشف عن طريقة تدبير مشاريع التصريف وإعادة تهيئة البنية التحتية وعن مآل الموارد المالية الضخمة التي تم تخصيصها لذلك عقب فيضانات عام 2009 ، وعن حقيقة وجود هيئة للرقابة ومكافحة الفساد!
يتكرر المشهد المؤلم عن السيول وهي تجرف السيارات وتعطّل حركة الحياة وتلحق الأضرار بالممتلكات العامة والخاصة، وتتسبب في جرف ضحايا يكون الرزء مع فقدانهم أفدح من أن تنفع معه تصريحات إعلامية أو وعود عن المحاسبة أو تعهد بضخ ميزانيات ضخمة –مرة أخرى- بزعم المعالجة الجذرية لمسببات الكارثة، ومع تكرر المشهد الصادم يلتقط الوعي الجمعي للمواطنين المفارقة العظمى بين فكرة "نيوم" وطموحها المجنون وبين واقع مدينة بحجم وأهمية مدينة "جدّة" وهي تغرق! وعندما يوشك المواطن أن يتساءل مع نفسه عن أين الدولة؟ يداهمه إحساس بغرابة هذا السؤال، إذ سرعان ما ينتبه إلى أنه ليست هناك دولة ولا معنى للدولة هنا أصلا، بل فقط أمير بجهاز يضمن له السيطرة وإحتكار كل السلطات بل والتسلط حتى على نمط حياة وتفكير الناس، وفرض أحلامه المجنونة عليهم لتغدو هي أحلام كل إنسان في بلاد الحرمين الشريفين وصورته عن وطنه، فـ" محمد بن سلمان" هو الدولة وهو القانون وهو الإرادة الشعبية وترجمان تطلعاتها وهو الحاضر والمصير والمستقبل!
بين "جدّة" اليوم و"نيوم" الغد، تكمن حقيقة صارخة، وهي العمل والسعي اللاهث على صورة تُقدَم للخارج، فما يهّم محمد بن سلمان هو أن يسوّق نفسه للخارج وأن يجذب أضواء إعلام هذا الخارج، وأن يتم الحديث عنه كشخص حداثي طموح إمتلك الجرأة على نقل مجتمع من طور التقليد بالمعنى السيوسيولوجي إلى عتبات الحداثة، أمير وصل به طموحه إلى الشروع في تغيير التشكل الإجتماعي والثقافي التاريخي لشعب (السعودية)، يحب بن سلمان أن يسمع بأنه وكملك واعد هو المؤهل بأن يدمج (السعودية) في ديناميات العصر، بل يستهويه أن يقال عنه أنه يعيد صياغة حتى الإسلام نفسه! وأما –وإن كان التساؤل غير بديهي- أن يكون مهتما بصورته أمام شعب الجزيرة العربية، من خلال مثلا تدبير خلاق لثرواته وحقوق أجياله القادمة، وصيانة كرامته عبر إقرار الحريات السياسية، والعمل على خطط تنموية معقولة وراشدة، والإستثمار في التعليم وجعله بوابة النهوض الفعلي والحقيقي بالوطن.. هذه الصورة لا يريدها "ولي العهد" ولا يعبأ بها أصلا، بل هو لا يرى أن هناك شعبا وأن من أبسط حقوقه أن يفهم إلى أين يُقاد وماذا يُفعل به وبثرواته، ومن المسؤول عن الكوارث التي تحل به!
وأن تأتي سيول "جدّة" المفجعة بعد فوز الفريق الوطني على الأرجنتين في مونديال قطر، فهذا التزامن يفضح التضليل الذي مارسه الإعلام الأميري في تسويق الفوز وكأنه أم الفتوحات الاقتصادية والتنموية وأنّ المشاعر الوطنية يجب أن تجيّر الإنتصار الكروي العظيم لولي العهد، فهو من يقود السفينة من نصر إلى إنجاز في أفق رؤية 2030 وما بعدها! ليتبدى أنّ كلّ ذلك وهمٌ وإستغلال بئيس للرياضة في كسب مشروعية زائفة، مادام أنّ الرياضة لا تقضم من السلطة شيئا فهي إستثمار رابح. وأما الحقيقة فهي ما عايشه الناس من أهوال السيول وهي تجتاح شوارع وأحياء "جدّة"، والحقيقة أيضا أن ليس هناك محاسبة جدية ولن تكون، وأن المنطومة القانونية لا يمكنها العمل ضمن بنية حكم يتحول فيها شخص ولي العهد إلى إله!
سيول "جدّة" الجارفة، عليها أن تجرف كل أوهام محمد بن سلمان، وأن تؤسس للحظة وعي شعبي حول عبثية المشهد "السعودي" في كلّ أبعاده. فـ"جدّة" المنكوبة اليوم تقوم بالتقويض الرمزي لفكرة "نيوم"، ويجب أن يعقب الكارثة سؤال أساسي: إلى أين نمضي؟!
ارسال التعليق