التطبيع السعودي في ميزان الربح والخسارة
[عبد الرحمن الهاشمي]
بقلم عبد الرحمن الهاشمي
إذا أردنا أن نقارب التطبيع السعودي من زاوية نفعية صرفة، أي بميزان الربح والخسارة، بعيدا عن الإعتبارات الشرعية والأخلاقية والسياسية والمبدئية، وتساءلنا كالآتي: ما الذي ستجنيه "السعودية" من تطبيع العلاقة مع الكيان الصهيوني في ضوء متغيرات الصراع المديد والذي إنتهى ب(إسرائيل) دولة فاقدة لقوة الردع تعيش قلقا وجوديا غير مسبوق منذ نشأتها؟! وإستطرادا نسأل -أيضا- هل "السعودية" مضطرة فعلا إلى هذا التطبيع..وهل هو بمستوى حاجة إستراتيجية لأمنها وإقتصادها؟
سنترك كل المسار التطبيعي غير المعلن ومنذ العقود، ونركز على اللحظة الراهنة والتي وصفها محمد بن سلمان بالمفاوضات المتواصلة والتي تتسم بدعم من إدارة الرئيس بايدن للوصول إلى تلك النقطة، نقطة المصافحة الآثمة إيذانا بإعلان الإتفاق.
الأكاديمي والمحلل السياسي السعودي في جامعة الفيصل، الدكتور خالد محمد باطرفي يعتبر أن الإنخراط السعودي في مفاوضات التطبيع يمثل "استجابة لطلب أمريكي بهذا الخصوص وأيضاً رغبة سعودية حقيقية لتصفير المشاكل في المنطقة بدءاً من المشكلة الفلسطينية التي طال أمدها وآن الأوان لحلها".
وعن العائد من هذا التطبيع مع (إسرائيل)، يرى نفس الأكاديمي السعودي، أن "السعودية"، "لديها مشروع حضاري عظيم ولديها الرؤية 2030 والتي تحتاج فيما تحتاج إلى استقرار وأمن وإلى تعاون جميع دول المنطقة بما فيها (إسرائيل)..".
سيكثر مثل هذا الكلام، وستنبري الأقلام بجهد إستثنائي لتحويل القرار السعودي الخطير إلى إنجاز تاريخي وفتح إستراتيجي يسيّد النظام السعودي كزعامة فذة على العالم العربي!
وبالعودة إلى طرح الأكاديمي السعودي، وهو قد أجمَل التبرير الذي سنسمعه كثيرا، فإن الانخراط السعودي في مفاوضات تطبيعية هو مصلحة أمريكية وتوقيت أمريكي بلا شك، ف"السعودية" حليف إستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، وبتعبير أوضح نظام تابع ومندمج في الإستراتيجية الأمريكية لا يتخلف عن مصالحها أبدا. وأما عن الرغبة "السعودية" في تصفير المشاكل في المنطقة، فإن تصفير المشاكل يقتضي؛ على المفروض؛ البناء على الهدنة اليمنية والوصول إلى حل نهائي للنزاع مع تحمل النظام السعودي مسؤوليته في التعويض عن خسائر العدوان على شعب اليمن، كما أن تصفير المشاكل يفرض على النظام السعودي المساعدة على حل مشكلة الفراغ الرئاسي في لبنان، ومساعدة سوريا في الخروج من تداعيات الحرب الكونية التي تعرضت لها، و"السعودية" كانت شريكا في الحرب على سوريا..أما القضية الفلسطينية التي طالت أزمتها، فإن الطرف الإسرائيلي – وعلى وفق المنطق التسووي- هو الذي لم يلتزم بإتفاقيات أوسلو ولم يتجاوب مع مبادرة السلام_المقيتة_ التي أقرتها القمة العربية التي عقدت في بيروت عام 2002. وتنص المبادرة على الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة في يونيو/ حزيران 1967 مقابل سلام شامل وتطبيع كامل بين الدول العربية الأعضاء في جامعة الدول العربية و(إسرائيل)، وهو- الطرف الإسرائيلي- من فرّغ حل الدولتين من أية قيمة فعلية على الأرض بفعل سياسات الإستيطان. الكاتب والمحلل الإسرائيلي إيلي نيسان يؤكد بأنه لا يعتقد أن (إسرائيل) مستعدة لتقديم تنازلات للجانب الفلسطيني في ظل تشكيلة الحكومة الحالية كالموافقة على بنود المبادرة العربية للسلام بما تتضمنه من الانسحاب إلى حدود 67. ولكنه قال إن (إسرائيل) يمكن أن تقدم تنازلات اقتصادية ويمكن أن توافق على نقل المناطق الفلسطينية المصنفة "ج" والخاضعة للسيطرة الإسرائيلية إلى مناطق "أ" الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية. ثم إن الطرف السعودي يخوض المفاوضات وهو يعي أن الجانب الإسرائيلي متمسك بالفرضية القائلة إنه من الممكن تعزيز “السلام مقابل السلام” والتطبيع مع العالم العربي، مع تخطي القضية الفلسطينية. فعن أي حل للقضية الفلسطينية يتحدث الأكاديمي السعودي إذا كان مسؤولون أمريكيون يشاركون في المحادثات يؤكدون أن "السعودية" قد “وضعت جانبا” مبادرتها للسلام كشرط للتطبيع. بل إن منطق الأشياء يفيد أن نتنياهو لا يمكن أن يجازف بوحدة حكومته بتركيبتها الحالية، في ظل المعارضة القوية من جانب ممثلي الصهيونية الدينية، وبعض أعضاء حزب الليكود، لأي خطوات مهمة لفائدة الفلسطينيين. فإذا كانت إقامة دولة فلسطينية مستحيلة لتحقيق “الجائزة السعودية" كما يسميها بعض الإعلام العبري ، فإن المعروض فعلياً أمام الرياض، هو تطبيع مقابل وعود لا ضمانات بتنفيذها حتى إذا تمّ التوصل إليها.
وأما القول بأن رؤية 2030 ترقى إلى مشروع حضاري يتطلب بيئة إقليمية هادئة ومستقرة، وشراكة إقليمية موسعة تكون (إسرائيل) طرفا فيها، فهذا الكلام فضلا عن المبالغة المفرطة فيه، فإنه يتعارض مع الأطماع الصهيونية في المنطقة وخططها في أن تتحول إلى دينامو إقتصادي في منطقة الشرق الأوسط. ففي غضون هذا الشهر إحتفى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بإعلان كل من الهند والولايات المتحدة و"السعودية" ودول أخرى، انطلاق مشروع يربط شرق آسيا ودول الخليج بأوروبا، من خلال خط سكك حديدة وكابلات كهرباء ومنظومة أنابيب لنقل الطاقة "الخضراء"، تمر ب(إسرائيل)، وقد اعتبر نتنياهو أن هذا الإعلان الذي جاء على هامش انعقاد قمة العشرين في نيودلهي، سيكون بمثابة "بشرى هائلة لشعب إسرائيل"، مشيراً إلى أن تل أبيب تمثل "مكونا اقتصاديا مهماً في هذا الممر" الذي يربط أوروبا بكل من الخليج وشرق آسيا. واصفا المشروع بأنه "تجسيد لحلم راوده منذ سنين طويلة"، ومشدّداً على أنه سيغير واقع منطقة الشرق الأوسط وصورة (إسرائيل).
في هذا السياق الإسرائيلي المأزوم داخليا، مع تفجر تناقضات المجتمع الصهيوني، والمتزلزل وجوديا بفعل تعاظم قوة المقاومة تبدو الخطوة السعودية تجاه (إسرائيل) بلا معنى وبلا أي مردود إيجابي يخدم النظام السعودي، فالمطالب السعودية من وراء هذه الصفقة تتلخص بتأمين قدرات لتخصيب اليورانيوم للإستعمال المدني، وإتفاق حماية بين الولايات المتحدة و"السعودية"، وتوريد وسائل قتالية أمريكية متطورة للسعودية.
ولنناقش هذه المطالب بإختصار، فسعي "السعودية" التزود بمثل هذه القدرة التخصيبية؛ بمعزل عن التحفظ الإسرائيلي؛ هدفه الأساس ردم الفجوة مع إيران، مع أنه لن يمر من دون رقابة أمريكية مشددة، بما يعزز التبعية "السعودية" لأمريكا ويخرج بالمشروع عن أي توجه تنموي حقيقي.
وفيما يخص الإتفاق الدفاعي مع الولايات المتحدة الأمريكية، فهل يتصور محمد بن سلمان أن واشنطن يمكن أن تعقد معاهدة عسكرية انطلاقا من متطلّبات أمنية سعودية وليس من مصلحة أميركية؟ خاصة مع التوجه الأمريكي المعلن، والمتمثّل في إعادة توجيه القوة العسكرية الأميركية بعيدا عن منطقة الشرق الأوسط، وتكريسها لمواجهة الصين. هذا مع العلم أن إتفاق كهذا سيواجه بمعارضة قوية من الكونغرس الأمريكي لإعتبارات تتصل بطبيعة النظام السعودي. فطلب السعودية توقيع معاهدة عسكرية مع الولايات المتحدة، ليس له من ترجمة إلا التزام أمريكي بحماية النظام السعودي من التهديدات، الخارجية والداخلية، ما سيعتبر تبنيّا لحكم ابن سلمان.
بقى مطلب التزود بأسلحة أمريكية متطورة، وهذا مطلب يناقض التوجه المدعى في بيئة إقليمية هادئة ومستقرة، كما أنه يعاكس منطق المصالحة السعودية الإيرانية، والذي يخفض من مستوى التهديدات التي كانت تستشعرها السعودية، هذا طبعا حتى وإن تحقق فإن المعادلة ستظل هي ضمان التفوق العسكري الإسرائيلي.
وهكذا نخلص إلى أن لا دواعي فعلية تبرر الخطوة السعودية في التطبيع، وحتى المطالب سواء في شقها الفلسطيني أو في شقها السعودي، فهي مطالب سطحية تكرس التبعية لأمريكا وتتجاهل مفاعيل الإتفاق السعودي الإيراني على صعيد أمن منطقة الخليج، كما تفوّت فرصة إستغلال المتغيرات الدولية لإفتكاك هامش تحرر يصلح وحده، مع توفر الإرادة السياسية، أساسا لأي مشروع تنموي جاد. وأما التنويع الاقتصادي الذي يركزعلى السياحة والترفيه والإستثمار في الطاقة المتجددة والتكنولوجيا والتعليم والصناعات التحويلية البسيطة والمشاريع الإستعراضية فهذا لا يعتبر مشروع تنمية بل تدابير إقتصادية لا تمثل خرقا في منظومة التبعية لقوى الهيمنة في العالم.
فعلا إنها "الجائزة السعودية" التي تصب في الحساب الخالص ل (إسرائيل) في لحظة ضعفها وتخبطها وعجزها فتمنحها ربحا إستراتيجيا لم تكن تحلم به. وسيكتب التاريخ أن محمد بن سلمان سهّل ل(إسرائيل) إستعادة نفوذها الجيوستراتيجي، وهذا يفوق كلّ خيانة عظمى.
ارسال التعليق