حمد بن جاسم يحذر من سوء الواقع العربي!! وينسى دوره في صنع هذا الواقع
[عبد العزيز المكي]
بين الحين والآخر يطلُّ علينا وزير الخارجية ورئيس الوزراء القطري السابق، حمد بن جاسم آل ثاني ويتحدث بأحاديث مثيرة يكشف فيها بعض ما كان مستوراً من سياسات بعض الأنظمة العربية، أو يبين فيها طبيعة المؤامرة الدولية على الأمة ومساهمة بعض الأنظمة الحاكمة في تمرير هذه المؤامرات أو تشكيل الغطاء لها، أو حتى القيام بها نيابة عن أعداء هذه الأمة وتوظيفها- أي تلك الأنظمة- كل ثروات الأمة وإمكاناتها وشبابها لانجاز تلك المشاريع والطروحات الاستعمارية، وآخر ما أدلى به بن جاسم في هذا السياق، وليس أخيره بالتأكيد، هو تحذيره من الواقع السيئ الذي تعيشه الأمة الآن! وذلك في تصريحاته التي أدلى بها في مطلع شهر اغسطس/2023 ومما جاء فيها: " تمر الأمة العربية الآن بمرحلة بالغة الصعوبة تذكر بمرارة بما مرت به بعد اجتياح المغول لبغداد وانهيار الخلافة العباسية في القرن الثالث عشر" وأضاف " ما أشبه اليوم بالبارحة، بل أكاد أقول ان واقعنا العربي اليوم أسوأ مما كان قبل 800 عام".
و طالب بن جاسم الأمة بالتحرك ضد هذا الواقع على غرار ما قام به أسلافها ضد المغول وانتصروا عليهم، لكن بن جاسم لا يطالب بهذا الانتصار وإنما بالتحرك ضمن معادلة أضعف الإيمان!! إذ يقول: " اليوم نحن لا نطالب بفتوحات ولا انتصارات بل نطالب بالدفاع بأضعف الأيمان عن عقيدتنا ومقدساتنا وحفظ حقوق الأمة التي يتطاول عليها القريب والبعيد والقوي والضعيف كل يوم"!! على حد زعمه. واعتبر بن جاسم ما يجري للفلسطينيين في الأرض المحتلة اكبر مثال على الهوان الذي تعيشه الأمة!! في القرن الحادي والعشرين!! وذلك لما يقوم به العدو من قتل بدم بارد وانتهاك للحقوق وتهديم للمنازل ومن تجويع وحصار وتهجير وما الى ذلك من العسف والظلم والحرمان، وسط سكوت هذه الامة وتفرجها بدون حراك بينما الشعب الفلسطيني يذبح من الوريد إلى الوريد!! وهذا كلام حق لكن يراد منه باطل كما سنبين بعد قليل.
نتابع ما قاله بن جاسم، إذ انتقد التطبيع والهرولة نحن العدو في إشارة إلى هرولة الأمارات والبحرين والسعودية والمغرب والسودان وما إلى ذلك!!
و قال بلغة ومنطق لا تخرج من دائرة الذل والهوان الذي تعيشه الأنظمة ويقوم هو بنقده وضرورة التخلص منه!!".. ونظل نتكلم عن التطبيع بل نبادر إليه دون أن " نتوسل" الى من يدعمون " إسرائيل" لحفظ حقوق الفلسطينيين" وبالرغم من ان بن جاسم يركز على تبني أسلوب الذل والهوان واستجداء الحقوق من حماة العدو، يؤكد على هذا المنطق بالقول..." وانتم تتذكرون عندما قلت يوماً كلمة " التوسل" وقامت الدنيا ولم تقعد، اليوم حتى "التوسل" من أجل الحد الأدنى من الحقوق أصبحنا عاجزين عنه والعالم العربي يتمزق ونحن " نتوسل" فقط لمن يحمينا"!!
واختتم الشيخ بن جاسم تغريداته بالقول: " لسان حالنا يقول، افعلوا كل ما تريدون فقط إسمحوا لنا أن نسرح ونمرح في ملذاتنا"... وأضاف مستنكراً: " وياليتنا نسرح في ملذاتنا ونحن منتصرون ونحافظ على مقدسات وحقوق ومقدرات الأمة التي تتبدد.
فبئس التأريخ الذي نكتبه اليوم، وبئس الـتأريخ الذي سيكتبه زوراً من يؤمرون بتزويره" على حد قوله.
وكان بن جاسم قد اعترف في تصريحات مثيرة، بأن بلاده والسعودية هما من قادتا المؤامرة وبأوامر أمريكية و" إسرائيلية"، والجماعات الإرهابية، تمويلاً واعداداً آيديولوجيا وعسكرياً، وقال أنه في البداية كان نحن من نقود هذه المؤامرة لتفكيك سوريا وإسقاط نظامها، ومن ثم انسحبنا وتولت السعودية قيادة المجاميع الدموية الإرهابية في سوريا، والتي تسببت في تدمير هذا البلد وتشريد أكثر من ثلث شعبه إلى الخارج فضلا عن الضحايا الذين سقطوا من هذا الشعب وهم بمئات الآلاف!!..
على أي حال، أعود إلى تصريحات بن جاسم الآنفة، لأثير حولها عدد من الملاحظات بما يلي:-
1- مما هو معروف، ان بن جاسم حتى عام 2013 كان جزءاً لا يتجزأ من منظومة النظام العربي الرسمي، وكان رئيس وزراء ووزير خارجية قطر الأكثر حماساً ونشاطاً في قيادة المؤامرة الأمريكية الصهيونية على الأمة، وكما مرّبنا اعترف بعظمة لسانه بأن قطر قادت تلك المؤامرة على سوريا بأوامر أمريكية، وكان بن جاسم نفسه قد اضطلع بدور بارز في إخراج الحكومة السورية من الجامعة العربية! وقبل ذلك أقامت بلاده اكبر قاعدة أمريكية عسكرية في الشرق الأوسط، كان لها الدور البارز في الغزو الأمريكي للعراق، وفي تدمير هذا البلد وقتل أهله وتشريدهم! ولم يكتف بن جاسم بتمكين الاميركان في هذه القاعدة، من المساهمة الفعالة والأساسية في تدمير العراق، إنما واصل هو وبلاده هذا الدور في تسخير الأموال الطائلة بمعية السعودية والإمارات في زرع قطعان القاعدة والقتلة والذين ارتكبوا المجازر بحق الأبرياء في المناطق الشيعية في العراق بتفجير السيارات المفخخة وسط الجموع البريئة، وراح ضحية تلك التفجيرات مئات الآلاف من الأبرياء شهداء وجرحى، ذلك من استنزاف الشعب العراقي وإثارة الفتنة الطائفية في البلد وصولاً إلى حرب سنية شيعية لا تبقى ولا تذر!!و كادت أن تشتعل هذه الحرب بفعل الضخ القطري السعودي والدفع الأمريكي الصهيوني، لولا حكمة حكماء وعلماء الشعب العراقي الشيعة والسنة!!
2- انتقد بن جاسم " توسل" وهرولة بعض الأنظمة العربية والخليجية منها أو بعضها، بشكل خاص، للتطبيع مع العدو " دون تحقيق الحد الأدنى من الحقوق، ومن حقه أن ينتقد، لأن حتى المسؤولين الصهاينة اعترفوا في لحظة فرح وتبجح بأن بعض أنظمة الخليج تهرول للتطبيع معهم، دون إعارة القضية الفلسطينية أي اهتمام، وقال بعضهم أن أكثر الأنظمة العربية وضع هذه القضية وراءه ولم تعد عائقا أمام التطبيع معنا!! نعم من حق بن جاسم أن ينتقد الهرولة العربية للتطبيع مع العدو الصهيوني.. لكن يبدو ان بن جاسم وبلاده نسيا، إنهما أول من قاد هذه الهرولة نحو الارتماء في أحضان العدو ومهد السبل النفسية وغير النفسية لاختراقات الصهاينة لكل المنظومات العربية الثقافية والنفسية والفكرية حتى تمكن العدو وحماته الأمريكان من تغيير المناهج المدرسية في كل المراحل وتغيير المنظومات الثقافية للمجتمعات في قطر نفسها ويجري الآن في السعودية على قدم وساق وقبل ذلك في الأمارات والبحرين وما إلى ذلك.. كان ذلك قبل أكثر من عشرين سنة مضت، وقاد بن جاسم هذه الهرولة القطرية بنفسه باعتباره وزيراً للخارجية، ومن ثم رئيساً للوزراء، فالكل يعرف أن قطر بقناتها " الجزيرة" كسرت الحواجز النفسية وكسرت المحرمات، وأدخلت المسؤولين الصهاينة إلى كل بيت عربي وإسلامي تحت لافتة زائفة هي " الرأي والرأي الآخر" وبعد هذا الانجاز استقبلت قطر القاتل وبطل مجزرة قانا المقبور شيمون أو شمعون بيريز في الدوحة، حيث وضع له يومذاك أمير قطر السابق حمد بن خليفة آل ثاني، والد الأمير الحالي تميم، السجاد الأحمر! ومنذ ذلك الوقت فُتح الطريق للعدو نحو دول الخليج العربية حتى وصلنا إلى هرولة بعضها و" التوسل" لدى العدو بحسب توصيف بن جاسم للتطبيع معه!
3- يقول بن جاسم كما مرّبنا اننا.. " نظل نتكلم عن التطبيع بل نبادر إليه دون أن " نتوسل" إلى من يدعمون إسرائيل لحفظ حقوق الفلسطينيين"!! ويشير هذا المنطق، إلى أن بن جاسم يستخدم ذات المنطق الذي كان يتبناه ويتبناه " النظام العربي الرسمي" وهو منطق الذل والهوان والضعف، بل الانكى من ذلك انه يدافع عن هذا المنطق رغم كل تجارب الصراع خلال الثلاثة عقود الماضية، حيث هزمت الأمة المشروع الاستعماري الأمريكي الصهيوني الغربي في العراق وفي لبنان وفي سوريا واليمن و.و. واليوم القوة الأمريكية تتراجع والهيمنة تتقلص، والعدو الصهيوني يتآكل من الداخل والخارج وعلى كل الأصعدة ويتحدث المسؤولون فيه باستمرار عن قرب تفككه وزواله، فيد الأمة ومقاومتها عالية جداً، والأعداء يعترفون لها بهذه اليد الطويلة التي باتت تنالهم بقوة الصفع والمبادرة متى شاءت، ما يعني تجاهل بن جاسم لهذه الحقائق انه لم يتحرر رغم خروجه من السلطة، من محور الأنظمة العميلة المهزومة، بل انه يؤكد بما لا يقبل الشك ان محور هذه الأنظمة جزء لا ينفك من المحور الأمريكي الصهيوني العدو ويخاطب ابن جاسم الامة في هذا الإطار قائلاً، كما مرّ بنا في بداية الحديث: " أنتم تتذكرون عند ما قلت يوماً كلمة " التوسل" وقامت الدنيا ولم تقعد، اليوم حتى " التوسل" من أجل الحد الأدنى من الحقوق أصبحنا عاجزين عنه، والعالم العربي يتمزق ونحن " نتوسل" فقط لمن يحمينا"!! أنا لا أستبعد أن تكون أمريكا هي من دفعت هذا الرجل الى المطالبة " بالتوسل" بها من أجل الحفاظ على هيبتها التي كسرتها المقاومة، ومرغتها في الوحل، للإيحاء بأنها مازالت قوية!!
4- عبّر بن جاسم عن بغضه للتأريخ الذي يكتبونه اليوم" بئس التأريخ الذي نكتبه اليوم، وبئس التأريخ الذي سيكتبه زوراً من يؤمرون بتزويره" ولأن بن جاسم جزء من المنظومة التي تصنع هذا التأريخ البائس بحسب وصفه، فهو يدين نفسه وتلك المنظومة، وفي الحقيقة يرجع بؤس تاريخ هذه المنظومة، الى ان الأمة بوعيها وبمقاومتها للغربيين والصهاينة، كشفت عمالة تلك المنظومة وكشفت تزويرها للحقائق، ومنها حقائق التاريخ، وكشفت عدائها للأمة ووقوفها بصف الأعداء، فمقاومة الأمة التي أفشلت مشاريع التآمر الاستعماري في المنطقة كما أشرنا، كتبت بدماء شهدائها وجرحاها وبمعاناة أهلها وعمقها الجماهيري تأريخاً مشرقاً وزاهياً يشهد على هزائم أمريكا في العراق وفي أفغانستان وشاهداً على هزائم العدو في لبنان(2000،2006) وشاهداً على هزائم الغرب وكل عملاء المنطقة الذين اصطفوا لإسقاط النظام في سوريا وافتراس هذا البلد، وشاهد على هزائم عملاء أمريكا السعودية والإمارات في اليمن... ففي الحقيقة ان بن جاسم يتباكى على بؤس منظومته العربية الرسمية التي ينتمي اليها لانكشافها وانكشاف عمالتها ولأفولها وأفول من يحميها!!
عبد العزيز المكي
ارسال التعليق