في الرد على الساعد في زعمه أنّ (السعودية) تكاد تكون «أمريكا الشرق الأوسط»!
[عبد الرحمن الهاشمي]
بقلم عبد الرحمن الهاشمي
كان متوقعا أن يتصدر المتزلفون واجهة الإعلام لتحويل إنتصار كروي حققه الفريق "السعودي" على منتخب الأرجنتين في مونديال قطر؛ وهو إنتصار مهم بلا شك؛ إلى أحد أكبر وأعظم إنجازات الأمير "محمد بن سلمان"، لكن لا أحد تصور أن تذهب الهلوسة بأحد كتاب جريدة "عكاظ" إلى حد كتابة مقال عنونه ب"السعودية التي أيقظت الشرق الأوسط"، متحدثا عن المارد الذي يخرج من قمقمه وعن المشروع السعودي الذي تُرُبِّص به قبل 300 سنة ، حتى جاء الأمير بـ"الرؤية" التي" كشفت خلال فترة زمنية قصيرة حجم النهضة التي ستعمر السعودية وتعلي من سقفها في العالم". وهذه صيغة مضطربة في التعبير يُفهم منها أنها كشفت بأنها ستكشف! والتي عمادها كما قال «البدوي العبقري» الذي تحدى ظروف الصحراء القاسية، قبل أن يقع في تناقض فاضح إذ سرعان ما تتبدد هذه العبقرية حين يقر بالقول وأمام الحقائق الصلبة "لا نخجل من أن نقول إننا لا نعرف هذه الطريقة في العمل، ولذلك نجلب أهم وأفضل الخبرات في العالم"، لكنه سرعان ما يشعر بأنه نقض غزله من بعد العبقرية المدعاة لأهل الحكم انكاثا فيستدرك على نفسه بما سماه بالقاعدة الثانية "إننا ذهبنا بأنفسنا وأولادنا وبناتنا إلى أقصى العالم بحثاً عن العلم والمعرفة والخبرات المتراكمة، ثم عدنا بها وبنينا بلادنا". ثم يخلص إلى تقرير أمرٍ عُجاب تخلص فيه من كل خجل ومن مسؤولية الكلمة، وما همّه أنه ينسلك بكلامه هذا في زمرة المشعوذين، يقول:"السعودية تكاد تكون «أمريكا الشرق الأوسط»"!، وأنّى لها ذلك؟ فيجيب:" بزخمها وثرائها المعرفي والثقافي والفلكلوري والآثاري، بقوتها الاقتصادية وطغيان تأثيرها الفني والرياضي، نعم يغار البعض منها، وربما يكرهها آخرون، لكنّ أحداً لا يستطيع الاستغناء عنها"!لسنا من المنبهرين بأمريكا، لكن منطق السجال مع منطق الهذيان يلزمنا بتسطير بعض الحقائق. لقد قامت أمريكا على مؤسسين ورؤيويين كبار من أمثال جون آدمز، بنجامين فرانكلين، ألكساندر هاميلتون، جون جاي، توماس جيفرسون، جيمس ماديسون، وجورج واشنطن. وقد كان آدمز، وجيفرسون، وفرانكلين أعضاء في لجنة الخمسة التي صاغت إعلان الاستقلال. يذكر المؤرخون أنه حين انتهى الآباء المؤسسون من صياغة دستور الولايات المتحدة، استشعر توماس جيفرسون دبيب الملائكة بين الكلمات. لكأنها جمهورية أفلاطون بعد 2136 عاماً من وفاة الفيلسوف الاغريقي! وكانت نبوءة توماس جيفرسون بأن "تكون هذه البلاد الفناء الخلفي للملائكة" و"الحارسة الالهية" للعدالة والحرية في سائر أرجاء الكون. أين هذا من نظام قام على التقاطع الرهيب بين البنية القبلية بكل أبعادها التوتاليتارية والبنية الدينية التي كرست بـ"الخيزرانة"، ثقافة الانغلاق والتطرف، بالدرجة الأولى ثقافة الطاعة العمياء لأولي الأمر "ولو جاروا" ، كما يذهب إلى ذلك أحد المهتمين بالشأن "السعودي". بل أين الشبه في الثقافة السياسية و الكاريزما أو في الوهج الشخصي بين توماس جيفرسون مثلا ومحمد بن سلمان؟! كيف تتساوق لحظة صياغة الدستور الأمريكي مع اللادستور والهيكلية التوتاليتارية للدولة السعودية منذ نشأتها، فحتى "التحديث" الذي يتم الحديث عنه اليوم، ما هو إلاّ المعادل الرث للترفيه والتمييع بعد قرار رفع يد الهيئة الدينية عن المجتمع على وفق ما اقتضته الحاجة إلى التطوير التكتيكي لصفقة عبدالعزيز ـ روزفلت، وذلك بعد مجيء دونالد ترامب وبروز محمد بن سلمان في المشهد السعودي.واما عن الرؤية والتي ستعلي من سقف (السعودية) في العالم كما يذهب كاتب صحيفة عكاظ، فمن الجيد أن نعود إلى الإنطباع الذي انتهت إليه إحدى الحلقات البحثية في جامعة هارفارد عام 2018. "الحلقة تناولت التوقعات في الشرق الأوسط، ولاسيما الخليج، مع التركيز على المثال السعودي. لم ينطلق الباحثون من حادثة قتل جمال خاشقجي، وتقطيع جثته، ومن ثم تذويبها. اعتبروا أن ما حصل كان نتيجة جدلية لذلك النوع من التوتاليتارية العمياء. الحلقة البحثية لاحظت أن الإدارات المتعاقبة، ومنذ لقاء عبد العزيز آل سعود وفرنكلين روزفلت، في قناة السويس، غداة مؤتمر يالطا في شباط 1945، أرست - في إطار يتقاطع فيه الإيديولوجي مع الإستراتيجي- تلك الظاهرة (أو الظواهر) العجيبة، البعيدة كلياً، أو المناقضة كلياً، لديناميكية العصر.الأرقام مذهلة، بل صادمة. عائدات النفط بتريليونات الدولارات. ذهب نحو ستين بالمئة منها إلى الولايات المتحدة، عبر قنوات شتى (من صفقات السلاح وتوابعها، إلى الاستثمارات، والودائع ,والرشاوى،والتوظيفات السياسية…). الأرقام المتبقية إلى دول غربية أخرى، وإلى العائلة المالكة. ما يتبقى للرعايا الفتات، من دون لحظ أي مبلغ للتحديث البنيوي للمجتمع بفئاته كافة".فالتحديث ممتنع سعوديا، لأنّ من لوازمه الحتمية تصدّع البنية التاريخية للبلاط السعودي، لذلك فليس هناك بعثات علمية جدية إلى الخارج، ولا إستلهام للنماذج الإقتصادية الناجحة في دول جنوب شرق آسيا أو ما عرف بالنمور الآسيوية. بل لن تكون هناك إرادة جدية للتحديث والذي يتطلب شرطه السياسي ويستدعيه، فالتحديث لا يستغني عن "الحداثة" السياسية ومقومها الأساس الديمقراطية والحريات السياسية. المال قد يشتري مدنا عصرية وشديدة التطور لكن ذلك يعني تحديثا ولا يصنف على أنه نهضة أو إندماج في ديناميات العصر. "بول كروغمان"، الحائز على نوبل في الاقتصاد يشير إلى ظاهرة خطيرة تتمثل في تحول المال إلى ايديولوجية، ما يحد من ديناميكية المفاهيم الأخلاقية وحتى الدينية. فهو وحده بات العامل الأساسي ليس فقط في قيام الدولة بل وفي بقائها أيضا. لكن ما لم ينتبه إليه "كروغمان" هو العمران الذي يتأسس في بيئة مشبعة بالتاريخ وإستطرادا بالدين لا يمكن أن يحرسه المال إلى ما لا نهاية أو يضمن بقاءه. وأخيرا فإن الخطير في كلام كاتب صحيفة عكاظ، ليس فقط تمحوره حول (السعودية) متجاهلا أن قضية النهضة تظل محكومة بمجمل سياقها العربي، بل وفي تجاهله لدول عربية وازنة وذات ثقل تاريخي وعمق ثقافي كمصر والعراق وسوريا! لكنه التزلف والشعوذة الكلامية وعوراتها. يحكى أنه وفي إثر الزلزال القوي الذي ضرب مصر عام ( 702 هـ - 1303 م ) ايام المماليك واهلك العديد من البشر قام أحد الشعراء المتزلفين في ظل هذا الجو الكارثي و قال للسلطان الناصر بن محمد قلاوون متملقًا: ما زُلزلت مصر من كيدٍ أُريد بها ... لكنها رقصت من عدلكم طرباإنه مجرد فوز في مباراة لكرة القدم، وإلى اليوم فإن الإنتقال إلى الدور القادم ليس مضمونا، وهذا لا يرقى في شيء - ومهما كان موقفنا من أمريكا- لهذا المقطع من خطاب أبراهام لينكولن "..وأن هذه الأمة، تحت سلطة الرب سوف تنعم بنهضة جديدة للحرية وأنه حكم للشعب، و بيد الشعب، ومن أجله، ويجب أن يبقى كذلك ويُحفظ من الفناء".قل لنا- يا كاتب عكاظ- أين الشعب أولا، ثم اقترف " السعودية تكاد تكون أمريكا الشرق الأوسط"، هكذا على الأقل لن تتناهى إلينا قهقهات الحجاج بن يوسف الثقفي من قعر التاريخ..
ارسال التعليق