لا عزاء للنوكى والمغفلين.. انه عجل السامري في "بلد العميان"
[حسن العمري]
التففنا من حولها ودعمناها بكل ما أوتينا من قوة وآمنا بحكامها وما أفتى به وعاظ عروشهم طيلة القرن الماضي على أقل تقدير، وصدقنا كل ما قيل لنا على المنابر وفي خطب الجمعات وعبر وسائل اعلامهم الضال المضل وكأن كل ما يقولونه وحي منزل غير مسموح مناقشته، مطأطئين رؤوسنا كالأنعام في وحل الجهل والضلالة التي دفعونا نحوها بأسم الدين وآيات القرآن الكريم المزيفة تفسيرها حتى صدقنا أن عجل السامري هدية ربانية سماوية مفروض الطاعة والتقديس وإلا سنكون في اعداد من "خرج على الولي" وعليه تقديم عنقه "لسيف الحرابة".
نسينا أو تناسينا عامدين أسطورة "أوديب" وكيف قام بقتل أبيه وتزوج أمه في مشهد درامي مثير، تبعه قتل أخوته وأخواته بعد زرع الرعب والوحشة بين سكان قصوره ولم يعد يهتم لحجم القرابين التي ستقدم تحت أرجل عرشه الذي لا يهمه سوى إعتلائه بأي ثمن قريب كان أو بعيد فباتت سجونه مملوءة بالأبرياء العزل المطالبين بحقوقهم المشروعة، حتى صدقت علينا مقولة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق تشرشل "إذا أردت أن تعرف أي شعب في العالم, أنظر إلى برلمانه ومن يمثله فيه .. وبعدها سوف تعرف أي الشعوب يستحق رمي الورود عليه أو ضربه بالأحذية"، مع أعتذاري من الأحرار من أبناء شعبي.
قالوها وبكل صراحة.. لا يؤيد الفساد والفاسدين، إلا فاسد..، ولا يعارض الإصلاح والتغيير نحو الأفضل، إلا فاسق.. ولا يجامل الظلم والاستبداد والفرعنة والتفرد، إلا فاجر.. ولا يطبل للعابثين والسرق، إلا منافق.. ولا يستهين بتضحيات المطالبين بحقوق الناس، إلا مارق عدو الله.. ولا ينكر ويستهين بانجازات ومواقف المتصدين للحق والحقيقة، إلا خائن.. ولا يفكك المجتمع الواحد المستهدف، الا عميل مذبذب.. ولا يستثمر المشاكل الداخلية بالفرقة المذهبية والقومية والعرقية والتكفيرية، إلا خبيث.
بتنا "بلد العميان" حيث الجهل والفوضى والفساد والتخلف والفقر والعنف والتعصب يسوده بسبب الأفكار غير الصالحة التي هيمنة علينا بدوافع دينية وعصبية جاهلية، فيما أي دعوة تنويرية تواجه برفض وريبة وعنف.. وباتت الطائفية البغيضة وكره الآخر المختلف تسود مجتمعنا، حيث الواحد منا أضحى يبحث جاهداً لإيصال الأذى لكل من أختلف معه في العقلية والمعتقد والنهج.. بتنا ذلك المجتمع الذي ينتشر فيه أفراد جل اهتمامهم هو ماذا يأخذون منه وليس ماذا يقدمون له.. حتى بلغنا نقطة أننا نخشى أن نبصر مثل العالم ونصر على رفض أي فكرة جديدة تساعدنا على البصر- من وحي قصة "بلد العميان" الشهيرة للكاتب (هربرت . ج . ويلز) طبعت لأول مرة عام 1936 وما زالت حتى الان واحدة من اروع القصص العالمية.
ثم لا يعمل على لم الشمل وتوحيد الصف، إلا صادق.. ولا يسعى الى تعزيز عوامل الصمود في وجه الطاغية والحاكم المستبد، إلا مخلص.. ولا يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه وقلمه ولسانه من أجل خلاص أبناء جلدته، إلا مؤمن.. ولا يتحرك من أجل عزة وكرامة واستقلال وقوة شعبه وأمته، إلا مسلم عزيز بعزة الله وعزة الإسلام.. ولا يبادر الى الاعتصام بحبل الله ومواجهة التفرق والشرذمة والنفاق والدل والغدر والخيانة والبطش الطائفي، إلا المستجيبين لله قولاً وعملا.. ولا يأنف من الحق، إلا ساخر ومغرور.. ولا يميز بين الصواب والخطأ والحقيقة والضلال، إلا من تشبعت نفسه بالوعي.
ذات يوم سأل صحفي مصري الكاتب الشهير ﻋﺒﺎﺱ محمود ﺍﻟﻌﻘﺎﺩ من منكما أكثر شهرة، أنت أم محمود ﺷﻜﻮﻛﻮ (مونولوجيست هزلي شهير، كان يرتدي ثياب المهرجين لإضحاك الناس) ؟!، فردّ العقاد باﺳﺘﻐﺮﺍﺏ: مين ﺷﻜﻮﻛﻮ هذا؟!..عندما وصل الخبر ﻟﺸﻜﻮﻛﻮ قال للصحفي: «قل لصاحبك العقاد ﻳﻨﺰﻝ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ، ويقف على أحد الأرصفة وسأقف أنا على الرﺻﻴﻒ المقابل، ﻭﻧﺸﻮﻑ اﻟﻨﺎﺱ (هتتجمع) ﻋﻠﻰ ﻣﻴﻦ.. !».. وهنا ردّ العقاد: “قولوا ﻟﺸﻜﻮﻛﻮ ﻳﻨﺰﻝ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻭﻳﻘﻒ ﻋﻠﻰ ﺭﺻﻴﻒ ﻭﻳﺨﻠﻲ «ﺭﻗّﺎﺻﺔ» ﺗﻘﻒ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﺻﻴﻒ الثاﻧﻲ ﻭﻳﺸﻮﻑ ﺍﻟﻨﺎﺱ (هتتجمع) على مين أﻛﺘﺮ..؟!.. رغم أن عبارة العقاد كانت قاسية لكنها تلخص واقعاً مريراً مفاده أنه كلما تعمَّق الإنسان في الإبتذال والهبوط والإنحطاط، ازدادت جماهيريته وشهرته..
المفكر والفيلسوف الكندي "آلان دونو" يشير في كتابه "نظام التفاهة" إلى أن التافهين قد حسموا المعركة لصالحهم طيلة العصور، لقد أمسكوا بكل شيء بكل تفاهتهم وفسادهم، فعند غياب القِيم والمبادئ الراقية وإفسادها يطفو الفساد المبرمج ذوقًا وأخلاقًا وقِيماً!..إنه زمن الصعاليك الهابط!".. نحن من قدس "عجل السامري" ورفعناه عالياً وأنزلنا الرفيع العالم والداعية المجاهد والناشط الواعي والسياسي المحب لوطنه الى هاوية السقوط وسلمنا رؤوسهم الى شكوكو.. إنه الميل نحو السذاجة والتهريج والسطحية الذي لم يعد شيء جديد في صفوفنا، حيث لا زلنا نهتف باسمه ونصفق لأقواله ونرتهن لطبائعه ونحمد ميوله الإجرامية والفرعونية الطائشة..
فكم من شكوكو اليوم يُمَجَّد ويُرفع عاليًا، وكم من شريف في غياهب الإهمال؟!.
صنعنا لأنفسنا عصراً صار فيه الكذب مهنة لأكثر أهله لأنه صار أقصر الطرق الى عقول الناس البسطاء، عبر ما يطلق عليه بالاعلام الذي سُخِّر لسياسة الأسرة الجاثمة على ثروات بلاد الحرمين زوراً وبهتاناً حتى باتت تتلاعب بعقول أبناء شعبي كيفما تشاء منذ بدايات القرن الماضي عندما تربعت علا السلطة باتفاقية الدرعية بين فكي الغدر والخيانية السياسية منها والدينية وباتت "قرن الشيطان" بخدعها وخياناتها وطغيانها وجبروتها وراحت تسوق الشعب الى حيث مخططاتها المشؤومة، وبتواهم الأعراب الأكثر صهيونية من سادتهم وقادتهم لأن الذيل دائماً يخضع ويخشع أكثر من الرأس، فعملوا بكل جهدهم وطاقتهم وقوتهم لتدمير المنطقة وزعزعة استقرارها بكل ما أتوا من قوة منحتهم إياها الأنظمة الاستعمارية الداعمة وأموال البترول المنهوب من لقمة عيش الشعب.
"عجل السامري" بات اليوم هو الدعوة الى "الإبراهيمية" في حرب ناعمة ومحاولة لصناعة دين جديد يعزز الإسلاموفوبيا بذريعة التعايش السلمي بين الأديان فيما حقيقة الأمر هو تفريق وتشتيت أكثر لحدة المسلمين وقوتهم وتكاتفهم وتعاونهم لمحي القضية الفلسطينية القضية الأم وإنهاء قضية عودة اللاجئين الى ديارهم بمخطط التجنيس الذي أوصى به وزير الخارجية السعودي "فيصل بن فرحان" بقوله إن بلاده ستبذل جهودا لجمع الفلسطينيين والإسرائيليين على طاولة المفاوضات - خلال مقابلة مع "مارك بيرلمان" على قناة "فرنسا 24" الأسبوع الماضي، بعد أيام من قوله لشبكة "سي إن إن" الأمريكية، من أن تطبيع العلاقات المحتمل مع "إسرائيل" يعود بـ"فائدة هائلة" للرياض.
أحد أهم أسباب ما نحن فيه من مصائب هو أننا أمة بلا ذاكرة كما أننا بلا قيادة حتى قوى المعارضة التي تعلن عن نفسها بين الحين والآخر سرعان ما تختفي في أزقة وأروقة إما وعود السلطة الحاكمة، وليس ثمة حاجة لبذل مجهود كبير من قبل الحاكم لخداعنا وكل ما هو مطلوب لسوقنا الى البحر ثم العودة بلا شربة ماء، إبتسامة صفراء وفنجان من القهوة وبعض الوعود الجوفاء التي سرعان ما ترمينا إما وراء القضبان أو مشردين في البلدان.. أنه الاتكال على المنى وهي بضاعة النوكى (أي الحمقى والعاجزون الجهلة أجلكم الله)، نصدقها وندفع ثمنها بأرواحنا وماء وجوهنا مقدما على طبق الاعتماد دون الحصول على أي ضمان.. فلا عزاء للحمقى والمغفلين في بلد العميان!!.
ارسال التعليق