هجمات بقيق وخريص.. والحلب الأمريكي المستمر
[عبد العزيز المكي]
بقلم: عبدالعزيز المكيمن الطبيعي أن استهداف الحوثيين لمنشآت شركة أرامكو السعودية في بقيق وخريص بعشرة طائرات مسّيرة وأصابتها إصابات دقيقة وألحقت بها خسائر فادحة في البنى التحتية.. من الطبيعي أن هذا الاستهداف شكل صدمة بل هزة عالمية، وأثار قلقاً واسعاً في الأوساط العالمية سيما في الأوساط الدولية التي تعتمد على النفط السعودي بدرجة أساسية، لأن الهجوم تسبب في وقف نصف الإنتاج السعودي للنفط، أي تعطيل إنتاج أكثر من خمسة ملايين برميل يومياً بسبب تدمير البنية التحتية لهاتين المنشأتين في بقيق وخريص..
وبدلاً من أن تنشغل الأوساط الإعلامية والسياسية الإقليمية والدولية، وحتى المحلية سيما، الأمريكية وبعض الغربية، بالتركيز على أسباب ودوافع هذا الهجوم ومحاولة معالجتها، ونقصد هنا استمرار العدوان السعودي على الشعب اليمني المظلوم، راحت تلك الأوساط تركز وتثير الضجة الإعلامية والسياسية، حول أمور بعيدة كل البعد، عن تلك الأسباب المشار إليها، التي تقف وراء هذا الهجوم، فوقف العدوان السعودي، والضغط على النظام السعودي من أجل وضع حد لجرائمه في اليمن، كفيل بوقف هذه الهجمات من جانب الحوثيين، التي باتت استراتيجية وخطيرة، وتشكل تهديداً جدياً لاستقرار وحتى وجود النظام السعودي بإجماع أغلب الخبراء والمحللين الإقليميين والدوليين. كان المنطق يفترض التفات كل هذه الأوساط المنشغلة اليوم بهذا الهجوم وتداعياته وانعكاساته الإقليمية والدولية، إلى هذه الحرب والجرائم التي يواصل النظام السعودي ارتكابها بحق الشعب اليمني من يوم بدء الحرب عام2015 وحتى اللحظة، وقد أحصت بعض المنظمات الدولية غاراته الجوية على المدن اليمنية أكثر من ربع مليون غارة دمرت كل البنى التحتية لليمن وحصدت أرواح أكثر من 100 ألف من أبناء اليمن المدنيين العزل، حيث قضى بعضهم تحت سقوف بيوتهم أو في معاملهم، ومدارسهم، وحتى في أعراسهم ومآتمهم! هجمات جماعة الحوثي، التي طالت المنشآت النفطية السعودية، ومطارات بعض المدن، ولم تستهدف المدنيين والمدارس والمستشفيات والمرافق كما هو حال طائرات العدوان.. جاءت في إطار الرد المشروع على هذه الجرائم المروعة التي يرتكبها العدوان السعودي الإماراتي المتواصل على اليمن..
غير أن الأوساط الأمريكية إعلامية والسياسية تحديداً بدلاً من أن ينشغلوا بالدوافع الأساسية لهجمات الحوثيين، انشغلوا بأمور أخرى، كما أشرنا قبل قليل.. منها ما يلي:
1ـ رغم أن الحوثيين، وعلى لسان المتحدث الرسمي بإسمهم يحيى سريع أعلن مسؤولية الجماعة عن هذا الاستهداف بعشرة طائرات مسيرة، وأوضح بعض تفصيلات الهجوم، أقصد الجانب الاستخباري منه..رغم كل ذلك..إلا أن الأميركان وإعلامهم وجه الاتهام مباشرة إلى أن إيران هي المكان الذي انطلقت منه الطائرات المسيرة، وقد لاحظنا أن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو سارع مباشرة بعيد الإعلان عن الهجوم، عن أن إيران هي التي تقف وراء الهجوم!! وطيلة الأيام الماضية انشغلت الأوساط إعلامية والمحللون الأمريكيون وحتى الغربيين بالجدل والحديث حول أن الطائرات المسيرة انطلقت من العراق أو من جنوب ايران!! ثم ذهبت تلك الأوساط إلى أبعد من ذلك، وراحت تتحدث عن الرد الأمريكي، جاءت تصريحات ترامب ونائبه بنس وبعض المسؤولين الآخرين في هذا السياق حيث يتحدثون ويتوعدون بالرد، يتداولون كيف سيكون الرد؟، وقد أشارت بعض الصحف الأمريكية إلى أن البنتاغون أوصى بضربات محدودة دون الضربات أو الهجوم الكبير لأنه يشعل حرباً واسعة قد تشكل خطراً على المصالح الأمريكية! ترامب من جانبه توعد بالرد العسكري لكنه وضع لنفسه هامشاً للتراجع بانتظار التحقيقات السعودية ونتائجها، لكنه أعلن تراجعه كلياً وقال نحن لا نحارب إيران، ولا نحارب من أجل السعودية وعلى الأخيرة أن تتحمل المسؤولية في حماية نفسها، وعليها أن تدفع المال..وفي سياق هذه الضجة، حول هذه النقطة بالذات، نشير إلى ما ذكرته صحيفة وول ستريت جورنال في عددها، ليوم 17/9/2019، إذ قالت أن المسؤولين الأميركان نقلوا إلى السعودية معلومات تكشف عن مكان انطلاق الهجمات على مصافي النفط في بقيق وخريص.. وتضيف الصحيفة أن الاميركان أبلغوا المسؤولين السعوديين، أن " إيران أطلقت 20 طائرة مسّيرة واكثر من عشرة صواريخ باتجاه المنشآت النفطية السعودية ؟!! في الإطار ذاته أفاد مسؤول أمريكي لوكالة الأنباء الفرنسية في17/9/2019، لم تذكر اسمه الوكالة، أن الولايات المتحدة باتت متأكدة بأن الهجوم الذي استهدف السعودية في بقيق وخربص جرى من الأراضي الإيرانية، بحسب مزاعم هذا المسؤول!! من جهته أن نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس صرح يوم 17/9/2019 قائلاً " إن الولايات المتحدة على أهبة الاستعداد للدفاع عن مصالحها وحلفائها بالشرق الأوسط " معلنا عن توجه وزير الخارجية مايك بومبيو إلى السعودية للتباحث في شأن الرد على هذا الهجوم !!
2ـ الإصرار الأمريكي على أن الهجوم جاء من إيران وليس من اليمن تقف وراءه أسباب ودوافع عديدة منها ما يلي:
أولاً: محاولة المسؤولين الأمريكيين التخفيف من الضربة القاصمة التي تركها الهجوم الحوثي على بقيق وخريص على سمعة الأسلحة الأمريكية التي اشترتها السلطات السعودية بمئات المليارات من الدولارات، نتيجة إخفاق هذه الأسلحة ومنظوماتها المضادة للطائرات والصواريخ في كشف طائرات جماعة الحوثي. وبالتالي فأن ذلك سبب اهتزازاً كبيراً في ثقة الكثير من الأوساط الإقليمية والدولية بجدوى شراء الأسلحة الأمريكية، ولعل الرئيس الروسي بوتين حاول استغلال هذه الهزة في ثقة الأوساط المشار إليها بالأسلحة الأمريكية ليسارع بإغراء تلك الأوساط بشراء الأسلحة الروسية بديلاً عن تلك الأمريكية التي أثبتت فشلها وإخفاقها حيث قال على السعودية شراء منظومة أس 300، مثلما فعلت إيران ومثلما اشترت تركيا منظومة أس 400، لحماية منشآتها النفطية والحيوية الأخرى..
ثانياً: محاولة ممارسة الضغوط النفسية على ايران من أجل حملها على الموافقة على إجراء لقاء بين الرئيس الايراني حسن روحاني، ونظيره الأمريكي دونالد ترامب، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي ستعقد في نيويورك بعد أيام، حيث سيذهب روحاني إلى هناك، فيما الرئيس ترامب عبر عن أمله مرات عديدة بلقاء روحاني بهذه المناسبة..
وثالثاً: محاولة تكريس "حقولة امريكية وصهيونية" ظل الأميركان والصهاينة وحتى الغربيين يسوقونها للدول العربية الخليجية، بتصوير إيران بعبع ومصدر تهديد للدول الخليجية وأنها "تتحين الفرص لإسقاط أنظمتها! " وما إلى ذلك من المزاعم والادعاءات التي يريد الأميركان أن تكون قناعات لدى أنظمة الدول المذكورة، كي تظل مرتمية في أحضان الأميركان، وكي تكدس الأسلحة الأمريكية بدفع المليارات من الدولارات! وفي هذا السياق يؤكد الخبير العسكري اليمني محمد النوبي: أن الرئيس ترامب يستخدم الورقة الإيرانية ليبتز السعودية وقال " دائماً ما يستخدم البعبع الإيراني ليخيف به دول الشرق الأوسط. وعلى وجه التحديد السعودية، لجلب المزيد من الأموال وضخها في الاقتصاد الأمريكي ". وأضاف هذا الخبير قائلاً: " الرئيس ترامب أكد في العديد من المرات أن على السعودية أن تدفع تكاليف حماية أمنها الداخلي. فهو يحاول أن يدعم اقتصاد بلاده من خلال صفقات الأسلحة التي يجربها مع دول المنطقة، من خلال ابتزاز السعودية بالورقة الإيرانية ". ونبه النوبي إلى أن "دفع السعودية المزيد من الأموال للقوات الأمريكية لعرض وقف النفوذ الإيراني لن يزيد الأميركان إلا تمسكاً بهذه الورقة، بل وتعظيم مخاطرها في المستقبل ".
3ـ إن الإصرار الأمريكي على اتهام إيران بأنها وراء الهجوم على بقيق وخريص هدفه أيضاً محاولة توظيف أمريكية لتشكيل تحالف دولي بذريعة مواجهة "الخطر الإيراني" على الملاحة البحرية وتجارة النفط، ولأن النفط موضوع حساس بالنسبة للدول الأوربية، ظل الاميركان يركزون على ضرورة تشكيل قوات أمريكية وغربية بالإضافة إلى القوات السعودية ومن يدور في فلكها من الدول العربية الخليجية لمواجهة إيران باعتبار الأخيرة باتت تهدد إمدادات الدول الغربية من النفط الخليجي، السعودي خاصة! لأن أميركا باتت غير محتاجة لنفط المنطقة بسبب وجود النفط الصخري لديها! ولذلك أعلن ترامب انه لا يشن حرباً ضد إيران، وقال إن بلاده لا تحتاج إلى نفط الشرق الأوسط، مؤكداً انه لم يعد السعوديين بحمايتهم مبيناً أنه " سيتعين علينا أن نجلس معاً ونقرر شيئاً، وهم يريدون أن نحميهم لكن الهجوم على السعودية وليس علينا، لكننا سنساعدهم طبعاً ". لكن هذه المساعدة لا تتم إلا بدفع الأموال، لأن المليارات التي كانوا قد دفعوها يبدو أنها من وجهة نظر ترامب غير كافية! حيث قال "أعتقد أن من مسؤوليات السعودية أن تفكر في دفاعها بجدية، وفي حال كنا نساعدهم، فسيتطلب ذلك مشاركة مالية كبيرة منهم ودفع ثمن ذلك ". وأضاف انه " سيكون على السعوديين أن يلعبوا دوراً كبيراً في حال قررنا أن نقوم بأي شيء، وهذا يشمل دفع الأموال، وهم يدركون ذلك تماماً"!! فحديث ترامب بنظري هو رسالة واضحة للدول الأوروبية من أجل المشاركة في مواجهة إيران لحماية النفط وعمليات ابتزاز واضحة لآل سعود من أجل إبداء استعدادهم لتمويل أية عملية عسكرية محتملة ضد إيران أو حلفائها، وتمويل التحالف المزعوم تشكيله.. النظام السعودي بدلاً من يأخذ العبرة من الابتزاز الأمريكي سارع إلى التماهي مع ما تريده أمريكا من عمل عسكري جماعي ضد إيران، إذ صرح الملك المعتوه سلمان بن عبدالعزيز أن المملكة قادرة على الدفاع عن مصالحها، لكنه طلب من المجتمع الدولي الوقوف معه في هذه المواجهة، وأكد هذا الموقف في البيان الذي صدر بعد اجتماع مجلس الوزراء السعودي يوم 17/9/2019، إذ قال البيان، أن الحكومة بحثت الضرر الناجم عن الهجمات على منشآتي ارامكو، ودعت حكومات العالم الى مواجهتها أياً كان مصدرها، وأهابت بالمجتمع الدولي أن يقوم بإجراءات أكثر صراحة لإيقاف هذه "_الاعتداءات الساخرة_ التي تهدد المنطقة وأمن الإمدادات البترولية واقتصاد العالم ومحاسبة وردع كل من يقف خلفها " على حد ما جاء في هذا البيان. لم يقف الأمر عند هذا الحد بل أعلن محمد بن سلمان انضمام السعودية إلى ما أسماه التحالف الدولي الذي تريد أمريكا إقامته !
وفي ظل هذه المساعي الأمريكية سارع البريطانيون كالعادة إلى الانضمام بوريس جونسون، أن الأخير اتفق مع المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل على ضرورة العمل مع الشركاء الدوليين لصياغة رد فعل جماعي على الهجوم.. وأضاف، أن الزعيمين اتفقا أيضاً على ضرورة خفض التصعيد في المنطقة وعبر عن التزامهما بنهج مشترك تجاه إيران.
على أن فرنسا عارضت هذا التوجه، من خلال ردها البارد على المساعي الأمريكية وإعلانها أنها تؤكد على الدبلوماسية في حل مشكلة التوتر، ففي هذا السياق قال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لورديان، "إن فرنسا لا تملك أدلة تشير إلى موقع انطلاق الطائرات المسيرة المستخدمة في الهجمات على منشآتي النفط السعوديتين". فيما قال مكتب الرئيس الفرنسي ماكرون إيمانويل..أن "باريس لم تتخل عن جهودها الدبلوماسية فيما يخص الأزمة في الخليج". وأوضح المكتب الفرنسي أن .."فرنسا ما زالت تعمل من وراء الكواليس قبيل زيارة ماكرون المقررة إلى نيويورك". ولم يكن الفرنسيون وحدهم من عارض هذا التوجه بل إن هناك أوساط عسكرية وسياسية غربية أيضا أعلنت تحفظاتها ولو بشكل غير مباشر، ففي هذا السياق، أعرب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ عن قلقه إزاء الهجوم على أرامكو، داعياً جميع الأطراف إلى التهدئة..كما حذر الأمين العام لمنظمة العفو الدولية كومي نايدو، من أن أي تدخل عسكري أمريكي رداً على الهجوم لن يؤدي إلا إلى تفاقم المعاناة في الشرق الأوسط. واعتبر نايدو أن على العالم بدلاً من ذلك مضاعفة الجهود لإنهاء العنف المدمر في اليمن، وحذر من نتائج مشابهة لغزو العراق عام 2003 الذي خلق الكارثة التي لدينا الآن، ليس فقط في العراق، ولكن أيضاً في الدول المجاورة له. بدورها الصين أيضاً عارضت التوجه الأمريكي، وجددت المتحدثة باسم الخارجية الصينية هوا تشون ينغ دعوتها "للأطراف المعينة بتجنب اتخاذ إجراءات تفضي إلى تصعيد التوتر في المنطقة ".
هذه المعارضة هي التي جعلت الأمريكان والسعوديين يخفقون في تشكيل القوة البحرية الدولية للرد على الهجوم ولحماية الملاحة في الخليج، لحد الآن، خصوصاً وان أمريكا، والتحقيقات السعودية، لم تقدم دليلاً دامغاً على أن الهجمات انطلقت من إيران، وهذا يشكل فشلا لأمريكا، ويكشف فقدان تأثيرها على حلفائها الأوربيين، ومعارضتهم لسياساتها التي تسببت في نشر الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة، وتهدد أمنها واستقرارها بل وتهديد الأمن العالمي أيضاً. واللافت أن هذه المحاولة الأمريكية لتشكيل حلف دولي لمواجهة إيران، هي المحاولة الثالثة أو الرابعة من نوعها، فقد كانت حاولت إقامة حلف ناتو عربي وفشلت وحاولت إقامة حلف شرق أوسطي يضم دول أوروبا وفشلت وحاولت إقامة حلف عربي إسلامي بواسطة السعودية وبقيادتها، حينما أعلن بن سلمان عن هذا الحلف، ولقي استهزاءاً وازدراءاً من الدول التي أعلن بن سلمان عنها في هذا الحلف !
على أي حال، من الضرورة الإشارة في نهاية هذه السطور، إلى أن الدرس القاسي الذي تلقاه آل سعود بعد هذه الصفعة، بالإضافة إلى الدروس الأخرى والأليمة أيضاً، هو عقم الرهان على الحماية الأمريكية، فالرئيس ترامب، وكما مر بنا أعلن صراحة انه لم يعد السعودية بالحماية رغم كل المليارات التي قدمها آل سعود له من أجل الحماية، فقد وقف آل سعود لوحدهم في مواجهة هذا التحدي، الذي أذلهم وأهانهم وأي إذلال واهانة، كما قال الكاتب الفرنسي توماكانتالوب في تعليقه على هجمات جماعة الحوثي على منشآتهم النفطية، لكن هو يشكل هذا الإذلال وعقم الرهان على الحماية الأمريكية الكاذبة ويؤوبون إلى رشدهم أم أنهم سيظلون أسراء هذا الرهان، الذي سيؤدي بهم إلى التهلكة!؟
ارسال التعليق