أيهما أولى إصلاح النصوص أم تأهيل النفوس؟!
يعتمد بناء الأجيال على مبادئ ومفاهيم ترسخ في العقول والنفوس ولا تحتاج إلى إجراءات وآليات كثيرة لتغيير سلوك الإنسان وتصرفاته عند الكِبَر، فالمقولة الشهيرة تقول “العلم في الصغر كالنقش في الحجر”، والتعلم والتلقي لا يقتصر فقط على موضوع كسب العلوم أو المعارف إنما يشمل كل ما يساهم ببناء شخصية الإنسان تمهيدا لبناء المجتمع.
فنحن عندما نعمل على بناء الفرد يكون هدفنا وضع اللبنة الأولى لبناء العائلة التي بدورها تؤسس لبناء المجتمع بالمعنى البسيط، وما قد ينتج عنها من بناء الدول بغض النظر عن طبيعة النظام أو شكل الحكم، ومن هنا تبرز أهمية بعض المفاهيم التي يتربى عليها الإنسان منذ نعومة أظفاره، ومنها الحرية الشخصية وحقوقه المختلفة كحقه في التعبير عن الرأي وممارسة نشاطه الخاص دون رقابة تسلطية أو عدم القيام بالتمييز العنصري والديني والطائفي وغيرها من المفاهيم المتعلقة بالأخلاق والقانون والعادات الاجتماعية وحب الوطن والانتماء له وخدمة الآخرين…
بين الرقابة المتسلطة.. والرقابة الديمقراطية
فمثل هذه الأمور يبدأ الطفل بممارستها منذ سنواته الأولى في العائلة والبيت بوجود الأهل الذين يقومون بدور الرقابة والإشراف، ومن هنا تبدأ الحكاية في حياة هذا الطفل الذي قد يتعرض لسلطة قاسية من قبل الأم أو الأب وكليهما معا ويتربى على نهج الإلغاء حيث لا صوت ولا رأي له في مسائل العائلة أو في مسائله الخاصة، فيعيش هذا الطفل في جو من انعدام الثقة بالنفس وبمحيطه وبقدراته ويرجح أن يعيش الخوف والرهبة مقابل أهله، وهذه الحالة قد تنتقل معه إلى خارج الحياة العائلية سواء إلى المدرسة وتعاطيه مع المعلمين أو الإدارة أو بتعاطيه مع الرفاق والأقارب، ولا يفيد بعد ذلك من الأهل الخروج على الناس في المجتمع للحديث أنهم يراعون طفلهم ويصقلون شخصيته بمبادئ الأخلاق والقيم، وبالعكس تماما لو عاش الطفل حياة الثقة مع أهله وسُمح له بالتعبير عن رأيه في جو من المحبة والعطف، فبالتأكيد أن هذا الطفل ستكون تصرفاته طبيعية لا يعتريها أي جو من الخوف والشك وهي حالة ستنتقل معه إلى المدرسة ومن ثم في المجتمع ما يؤسس لبناء مجتمع سليم خال من الآفات.
بعد كل هذا التأسيس البيتي والعائلي والمدرسي في إطاره الضيق، ينطلق الإنسان للتعاطي مع السلطة السياسية التي تختلف باختلاف الدول والمجتمعات، وقد تكون هذه السلطة كالأهل في الحلقة الضيقة للمجتمع أي العائلة: إما أن تكون سلطة تؤمن بالرأي والرأي الآخر وإما أنها سلطة تنكر أي حق من الحقوق السياسية أو الشخصية وأما أنها تتراوح بين الأمرين، فالسلطة التي تنكر الحقوق والحريات لا ينفعها أن تخرج أمام الملأ للقول أنها تؤمن بدولة القانون والمؤسسات وأنها تحترم حقوق الإنسان والحريات وتصدر القوانين المتضمنة المبادئ القانونية الرنانة وتعمل على تأسيس هيئات أو أطر قانونية وحقوقية وسياسية للترويج لمدى التزامها بالقوانين والحقوق، ولا يفيد أيضا تأسيس جمعية أو تخصيص وزارة لحقوق الإنسان بينما في الواقع لا وجود لهذه الحقوق أو أنها منتهكة إلى حد كبير ولا نفع من جعل الناس تعتقد أن الفرح يعم الأرجاء في هذه الدولة وتأسيس وزارة للسعادة مثلا، بينما الواقع فيه الكثير من الحزن والبؤس والتضييق وكم الأفواه، صحيح أن تحسين الصورة والشكل شيء محبب ومطلوب إلا أن الأجمل أن يكون الواقع والمضمون متطابقان مع الصورة البهية والناصعة التي ترسم عن أي دولة من الدول.
زرع المشكلة.. والإيحاء بمحاربتها
والشيء بالشيء يذكر فإن تربية الإنسان على حب الوطن وتنشئة الأجيال على حب المواطنين والأخوة والشركاء في الوطن لا يكون في وضع كتاب أو مقرر دراسي يدرس في مدرسة أو معهد أو جامعة إنما الأساس تربية الفرد على أنه مواطن له حقوق وعليه واجبات، وأنه كما سيلتزم بما عليه سيحصل على ما له، ولا يفيد بعد ذلك إلغاء العنصرية من الكتب بينما تكون راسخة ومرسخة في الأذهان والنفوس، ولا ينفع أن يعيش الفرد التفرقة المذهبية والطائفية في كل مفاصل حياته العامة والخاصة، وبعد ذلك يقال له لماذا تتحدث عن هذه التفرقة وتطرح هذه المسائل في المنابر الإعلامية والسياسية، إنما الأجدر العمل لإلغائها من النفوس قبل النصوص والعمل لتجنب القيمين في الدولة والإدارة عن ممارسة التفرقة هنا وهناك.
وفي سياق متصل، كتب الكاتب والباحث علي آل غراش على مواقع التواصل الاجتماعي يقول إن “تدريس الوطنية كمادة في مناهج التعليم الرسمي وإقامة المؤتمرات باسم الوطنية يؤكد على وجود أزمة وخلل ومشكلة وطنية متفاقمة في الوطن”، ويلفت إلى أن “هذه الأزمة والمشكلة موجودة منذ عقود أي مع تأسيس الدولة ولكنها ظهرت على السطح نتيجة قدرة الشعب مؤخرا على التعبير عن أرائه عبر وسائل التواصل الحديثة”.
ويرى آل غراش أن “السلطة الحاكمة التي لم تعمل لبناء دولة حضارية حديثة حسب دستور شعبي يمثل إرادة كافة شرائح الشعب ونتيجة رصدها لآراء ومواقف الشعب وحالة التذمر والغضب ربما قد شعرت بخطورة الوضع على مستقبلها نتيجة سياستها المدمرة للوطنية”، ويضيف “بدأت السلطة تحاول أن تحل الخلل بطريقتها من خلال تدريس الوطنية في المناهج التعليمية وتوزيع النشرات وتخصيص البرامج الإعلامية وإقامة المؤتمرات كالحوار الوطني”.
ممارسات الحكام ومصلحة الأوطان
ولكن هل من يسعى من الحكام للقيام بخطوات توحي بالأصلاح في مجال السياسة أو الحقوق أو الحريات أو غيرها من الأمور، يقوم بها من باب مصلحته الخاصة التي تحسن صورته في الداخل والخارج أم أنه يقوم بها فعلا لأنها مفيدة للمجتمع والناس والوطن؟ وهل من يأتي على استضافة حدث رياضي عالمي أو قاري مثلا على أرضه يهدف إلى استثمار هذا الحدث لمصلحة نظامه وحاشيته وتلميع صورته الشخصية أنه يحب الحياة والأنشطة أم أنه يستثمر مثل هذه الأحداث لمصلحة الوطن والشعب ودفع الناس للاستفادة منه بأوجه مختلفة؟ وهل من ينشئ وزارة لحقوق الإنسان هو ينوي أن يحسن فعلا حقوق المواطن ويعزز المواطنة أم أنه يريد أن يدعي ذلك ويرفع الشعارات البراقة فقط أمام الرأي العام الإقليمي والعالمي؟
الحقيقة أن ممارسات الأنظمة عبر الزمن هي التي باتت تعطي التفسيرات الصحيحة لممارساتها أيًا كانت، فالثقة لا تولد في لحظة معينة إنما هي تُبنى مع الوقت عبر التعاطي المتبادل بين طرفين أو أكثر، لذلك ما عادت الأساليب المختلفة تنطلي على أحد في الداخل والخارج، والشعوب باتت اليوم على قدر كبير من الوعي الذي يمكنها من كشف كل الأساليب الاحتيالية التي يحاول بعض الحكام تمريرها على عامة الناس، والأكيد أن الأنظمة بدل القيام بالمشاريع الوهمية والخطط المخادعة لتضليل الناس الأجدر لها العودة إلى هؤلاء الناس لبناء الثقة معهم والعمل على تربية الأجيال على الأمل بمستقبل واعد لأوطانها.
والأكيد أنه يجب عدم التلطي وراء المشكلة ونكرانها بل من الضروري مواجهتها والكشف عنها بجرأة وصراحة كي نصل إلى الحلول الناجعة لها، لكن الأصح من كل ذلك معرفة الأسباب الحقيقية التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه والبوح بها لتحديد المسؤوليات، بما يساعد أكثر على تغيير الواقع الصعب والوصول إلى الحلول الجذرية المطلوبة.
بقلم : بقلم : مالك ضاهر ..
ارسال التعليق