العلاقات السعودية الاسرائيلية..الى التحالف (2)
بقلم: د. فؤاد إبراهيم...
في ضوء إطروحة ميخائيل كهانوف التي يستند فيها على الأرشيف الاسرائيلي، كان الاستيطان اليهودي (يشوف) في فلسطين محور الخلاف بين اليهود والعرب في فلسطين، وكان السماح بتمدّد الاستيطان يعني مآلاً نجاح مشروع الدولة اليهودية في سنة 1948 والحرب اللاحقة.
المقاومة الفسطينية حينذاك كانت تتمحور حول منع تشكّل الكيانية السياسية الاسرائيلية القائمة على نجاح مشروع الاستيطان، ولذلك لجأ الثوار الفلسطينيون لطلب مساعة البلدان العربية. ابن سعود كان بحكم مكانة الجزيرة العريبة ومقدساتها الدينية والمدعيات الإيديولوجية التي يعتنقها مرغماً على التفاعل مع الطلب الفلسطيني لما يحمله من تداعيات على المنطقة والمملكة، بالنظر الى القدس وما تمثّله من رمزية دينية وقومية..لا ننسى الدور الذي لعبه الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس، بصفته الدينية والسياسية والذي شكّل تهديداً لمكانة عبد العزيز، الذي أسبغ عليه رشيد رضا خادم الحرمين الشريفين، وكاد الحسيني أن ينال صفة القائد الاسلامي والعربي بفعله النضالي دفاعاً عن المقدّسات وصميمها القدس.
شكّلت التزامات ابن سعود مع الإنجليز، حكّام فلسطين حينذاك، عنصراً ضاغطاً للتعاون معهم لاحتواء التحديات التي كانوا يواجهونها في فلسطين. ولذلك، لم يكن ابن سعود مستعداً لتقديم أي مساعدات فضلاً عن تضحيات للفلسطينيين قد تضّر بالمملكة السعودية. ويقول كهانوف بأن "مساعدة عبد العزيز للفلسطينيين من حيث الأموال والأسلحة كانت محدودة للغاية وتتم سراً. ولم يكن لديه ثقة بالمفتي، الزعيم الفلسطيني، الذي حاول إقحامه في النزاع. ورأى ان الانقسامات في المجتمع الفلسطيني، وقبل كل شيء لم يكن هو مستعداً لتعريف نفسه باعتباره مؤيداً للثوار الفلسطينيين الذين يعملون ضد البريطانيين".
وفي عام 1936 تدخل عبد العزيز مع ملوك عرب آخرين مثل فاروق وبالتنسيق مع البريطانيين لوقف الإضراب الفلسطيني الكبير في تلك السنة. وأقنع اللجنة التنفيذية العربية بالتعاون مع لجنة بيل التي عينها البريطانيون في عام 1937، في محاولة لتسوية المسألة الفلسطينية. وعارض توصية اللجنة بتقسيم الأرض لأن ذلك سوف يمنح قوة لإمارة شرق الأردن التي يديرها عبد الله. كان نهج بن سعود واضحاً في مؤتمر سانت جيمس في لندن (1939)، عندما دعا ممثله الأمير فيصل لمبادرة بريطانية لوضع حد للنزاع. وقال انه يؤيد سياسة "الكتاب الأبيض" البريطانية بعد أن فشل المؤتمر. "الكتاب الأبيض" قبل بعض المطالب الفلسطينيية ولكن اعترض معظم العرب عليها.
وفي عام 1940 عمل ابن سعود على رفض المقترحات التي من شأنها أن تضر بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى. وتجنب الالتزام بتقديم مساعدات كبيرة للفلسطينيين وعارض الحرب ضد اليهود. وقام على وجه السرعة بالمصالحة مع قرار الأمم المتحدة الصادر في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 لتقسيم البلاد. وبعد الإعلان عن قيام الدولة العبرية على أرض فلسطين سنة 1948 وشنّت الجيوش العربية هجوماً واسعاً على الكيان الاسرائيلي، اكتفى هو بمشاركة رمزية ـ بإرسال قوة غير مدرّبة صغيرة تحت القيادة المصرية التي ساهمت قليلًا في المجهود الحربي العربي... ودفع الواقع الجديد في المنطقة بعد هزيمة الجيوش العربية ابن سعود إلى الكف عن التدخل في شؤون فلسطين.
وبرغم من مشاعر الكراهية لليهود لدى ابن سعود، كما هو شائع، فإن حقائق أخرى تفيد نقيضها تماماً. ونلحظ ذلك في سياسات أبنائه وورثته من بعده، مع إجراء تعديلات بحسب الظروف المتغيرة. وهنا يبدو مناسباً التوقف عند المعلومة الجديدة في كتاب كهانوف حول رحلة العلاج التي قام بها فهد بن عبد العزيز ومنصور بن عبد العزيز أثناء الحرب العالمية الثانية، في مستشفى هداسا بالقدس في جبل سكوبس يطلق عليه ايضاً جبل المشارف وجبل المشهد. الأمير منصور، أصبح فيما بعد أول وزير للدفاع بالمملكة، والثاني فهد بن عبد العزيز الذي كان وزيراً للداخلية ثم ولياً للعهد واخيراً الملك، وقد كتب الأخير خطاباً متوهجاً بالشكر الى المستشفى على ورق ملكي رسمي، يمدح فيه الرعاية التي تلقاها من الاطباء والممرضين الاسرائيليين بالمستشفى.
لم يكن أي من هذين المريضين ليذهبا الى مستشفى هداسا بدون الموافقة الصريحة من الملك عبدالعزيز.
في عام 1981 أعلن ولي العهد الأمير فهد، الملك لاحقاً، عن خطة سلام بثمان نقاط. ويتضمن الباب 7 منها اعترافاً ضمنياً بإسرائيل وحقها في الوجود سلمياً في المنطقة. وأيضاً، اعترفت مبادرة شباط (فبراير) 2002 التي تقدّم بها ولي العهد الأمير عبد الله، الملك لاحقاً، بإسرائيل كدولة يهودية. في الأساس، تقترح المبادرة عودة إسرائيل إلى حدود عام 1967 مقابل التطبيع الكامل للعلاقات مع كل الدول العربية.
يخلص كهانوف في تقييم سياسة ابن سعود بالقول: "ظّن القادة الصهاينة، الدبلوماسيون الغربيون والعديد من الباحثين خطأ في موقف ابن سعود إزاء اليهود والنزاع في فلسطين. فقد أعطي وزن كبير جداً لكلماته البغيضة وصورته الوهابية المتطرفة، وليس بما يكفي للنظر في الاعتبار الاستراتيجي بالنسبة له. وكان لصالح مملكته، التي وجّهت بن سعود لانتهاج سياسة معتدلة ومدروسة نحو النزاع في فلسطين".
في المذكرة السرية التي قدّمت الى الرئيس الأميركي بيل كلينتون في بداية عهده بعد انتخابات كانون الأول (ديسمبر) 1991، والدوائر ذات العلاقة (وزارة الخارجية، ولجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ)، جاء ما يلي:
"إن العربية السعودية تعتبر الحجر الأساس في سياستنا القومية والدولية. فقد كنا نعتقد على الدوام بأن سياسة حماية إسرائيل وإبقائها قوية يمكن ترسيخهما بوجود النظام السعودي الذي برز مؤخراً في المشهد العربي كقوة مؤثّرة. كان مشروع الملك فهد للتسوية مع اسرائيل نقطة البداية التي يمكن الإنطلاق منها لكسر جبهة الرفض العربية وتحقيق التسوية التي تقترب الآن من مرحلة الاستكمال. فبدون النظام السعودي والسياسة المصريّة التي يتبناها الرئيس مبارك في القيام بخطوات عملية، لن يكون من الممكن تدمير العراق وإزالته من معادلة المنطقة".
وتقول المذكرة في فقرة أخرى، بأنه بعد نشأة إسرائيل وبروز تيارات فكرية قومية وراديكالية في المنطقة، أصبح النظام السعودي هاماً بدرجة كبيرة لقمع طموحات هذه القوى لأنها كانت تهدّد أمن ومستقبل إسرائيل.
وتضيف: "وكما هو دارج في عدم إدراك أبناء آل سعود، فإن فهد (=الملك) فهم من حديث بينه وبين الرئيس الأسبق جورج بوش، بأن إقامة علاقات واضحة وقوية مع إسرائيل سيحقّق الأمن في المنطقة. وقد فسّر فهد أمن المنطقة بأنه يعني أمنه الشخصي. ولهذا السبب، ذهب بعيداً في إقامة علاقات إجتماعية مع إسرائيل على المستويين السياسي والعسكري. وبالرغم من المشاركة السعودية في تمويل الدعم العسكري لإسرائيل خلال حرب العراق، في سبيل إبقائها خارج مجال العمل على أمل تفادي أي مواجهات مع الشعب العربي وإفشال أهداف قوات التحالف، والتي تمّت بناء على إتفاقنا مع الملك شخصياً، فإنه لا يزال ينظر الى أن ذلك مبدأ أساسي أو قانون من أجل السيطرة على سير المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية.
ولسوء الحظ هناك قوى في إسرائيل تستغل ذلك لمصالحها الخاصة، بما قد يهدّد عملية السلام بصورة كاملة كما يهدّد أمن السعودية، وخصوصاً في حال تسرّب وثائق محددة عن علاقتها بها (أي بإسرائيل). ومن المحتمل جداً أن يتم ذلك بأيدي الإسرائيليين، في حال لم يستجب النظام ـ السعودي ـ لمطالب محددة بالنسبة لإسرائيل. ويزوّد النظام السعودي إسرائيل بالخطط المالية والتنسيق في إطار مشاريع مشتركة، سواء داخل أو خارج السوق الشرق أوسطية".
وتلفت المذكرة إلى إن الخطوات السعودية ـ الإسرائيلية غير المحسوبة تتسبب في مشاكل كثيرة بالنسبة للولايات المتحدة ولن تفضي إلى علاقات أمنية صحيّة بين فهد واسرائيل خارج سياق سياستنا. وقد نبّه اللجنة المسؤولة عن إعداد المذكرة الطرفين لذلك. ولكن فهد يحاول أن يجد مبرّراً، بمعنى أنه يريد هذه العلاقات كإستمرار للعمل المشترك في اليمن في الستينيات (القرن الماضي) في ضوء تسارع الأحداث بين الحكومتين في اليمن.
يلفت الملحق المضاف الى المذكرة إلى أنه: "بالنسبة لأولئك الذين صاغوا المذكّرة كانوا صائبين، بالرغم من الطريقة المهذبة والدقيقة التي عبّروا فيها عن أنفسهم، فليس هناك ما يمكن إضافته سوى التعاون العسكري السعودي ـ الإسرائيلي الذي يتم الآن بصورة سرية، والذي قد يضع نهاية لمستقبل النظام في حال انكشافه من خلال وثائق ـ وهو أمر قمنا بمنعه حتى الآن من الوقوع، في ضوء استجابة إسرائيل لنا دونما فقدان المكاسب المادية والإستراتيجية والمصالح، بما يشمل، على سبيل المثال، سيطرتها على ست جزر سعودية في البحر الأحمر (ملاحظة: لم يشر التقرير الى أسماء الجزر إن كان المقصود بها تيران وصنافير في شمال البحر الأحمر، أم الجزر الواقعة في جنوبه والمحاذية من المناطق الجنوبية من المملكة والتي تستعملها اسرائيل لمشاريع تجارية مثل رعي الأغنام)، وتبادل المعلومات حول المعارضة السعودية والحركات الإسلامية داخل المناطق المحتلّة وخارجها. كما كنا قادرين على وقف عمل سعودي ـ إسرائيلي مشترك للتسلل الى الجيش السوري لأن أية أخطاء في هذه العملية المريبة ستؤدي الى تقويض كل الجهود من أجل التسوية السلمية، وقد تتسبب في نزاع عربي مرير وقد يكون راديكالياً للغاية في الشكل الذي تأخذه. فالسوريون أذكياء جداً في هذه القضايا، وهم أفضل من الإسرائيليين في قضايا الإبتزاز".
ماسبق كان فقرات من المذكرة سالفة الذكر، وتعود الى ما قبل خمسة وعشرين عاماً، وحينذاك كانت العلاقات بين آل سعود والكيان الاسرائيلي على قدر من القوة بما يجعل الطرفين يخططان لقلب نظام الحكم في سورية، فكيف يمكن تخيّل طبيعة التعاون الحالي، ليس في الملف السوري فحسب بل في كل الملفات ذات الاهتمام المشترك، خصوصاً بعد أن بدا واضحاً، على سبيل المثال، أن ايران باتت عدواً مشتركاً لآل سعود وللكيان الاسرائيلي، وكذلك لحركات المناهضة لوجود اسرائيل مثل حزب الله وحماس والجهاد وبقية حركات المسلحة في المنطقة.
ارسال التعليق