جذور الغدر.. الاغتيال السياسي من البدايات الوهابية وصولا لابن سلمان
بقلم: وليد الهزاع
استطاعت المملكة العربية السعودية طيلة عقود، وبفضل دعاياتها وتمكّنها من التأثير على محيطها الإقليمي والرأي العام فيه، أن تُخفي كل ما له علاقة بسلوك سياسي ملتبس عرفه الناس في سوريا والعراق وليبيا وفلسطين، ألا وهو الاغتيال السياسي خارج الحدود الجغرافية: وهو الاستهداف العمْد لشخص مدني، غير مسلَّح، يعبِّر عن نشاط سياسي غير مرغوب به، لغرض تصفيته والتخلُّص منه. السعودية، والنظام الحاكم فيها، لم يكن معروفا بهذا النمط من الحلول الراديكالية في التعاطي مع خصومه السياسيين، لكن هل هذا يعني أن ذلك لم يكن موجودا؟
في أحد مساجد العُيينة، ووقت صلاة الجمعة، انقضَّ اثنان من صفوف المصلّين على الإمام في محرابه وقاما بتسديد ضربة قتلته على الفور. كان ذلك في يونيو/حزيران 1750، وكان المنفذون هم حمد بن راشد وإبراهيم بن زيد، أما المقتول فهو الأمير عثمان بن معمَّر، أحد أبرز أمراء الأسرة المُعمَّرية ذات المكانة في نجد، وجرى ذلك بإيعاز من محمد بن عبد الوهاب، الزعيم الروحي لإمارة الدرعية، الدولة السعودية الأولى، أثبت ذلك ابن غنّام وهو أحد تلاميذه ومقربيه، في تاريخه (تاريخ ابن غنّام): "قال الشيخ -محمد بن عبد الوهاب- حينئذ لمن وفد إليه من أهل العيينة: أريد منكم البيعة على دين اللّه ورسوله وعلى موالاة من والاه ومعاداة من حاربه وعاداه، ولو أنه أميركم عثمان".
دولة الميليشايمكننا أن ننطلق من هذه الحادثة لتثبيت فكرة مفادها أن الخلفية التي يأتي منها النظام السعودي بشكله الحديث معززة بسند تاريخي منذ نشأة الدولة السعودية، متصالح مع التصفية الجسدية كأسلوب لمواجهة الخصوم السياسيين، وهنا تكون الدولة السعودية حتى في "نسختها الأوليَّة" القائمة على مفاهيم التقوى والطهرانية، التي لا تزال الدولة تستخدمها حتى اليوم كأدبيات مجرَّدة يتم اللجوء لها دوريا كلما أرادت استدرار مناخ وطني، أو إنزال واقعٍ معيّن، لتصبح الدولة جاهزة لاتخاذ كلّ الاحتياطات لتحييد كل المخاطر المتقلِّبة مهما كانت التكاليف.
ثمَّ يمكننا ملاحظة ذلك بوضوح في النسخة الميليشاوية اللَّاحقة، عندما تحالف الملك المؤسس عبد العزيز مع حركة "إخوان من طاع الله"، وهم قوة دينية من البدو الرُّحَّل تصل نفسها بمدرسة محمد بن عبد الوهاب الأولى، وكان لها الفضل في توحيد المملكة السعودية بالحروب والغارات على المدن والقرى والبلدان على امتداد الجزيرة العربية، مبايعين في ذلك عبد العزيز "إماما". إخوان من طاع الله عُرفوا بتوحشّهم وشدّة بأسهم وبسالتهم أثناء القتال سعيا لتأسيس دولة مسلمة تقوم على "التوحيد" وعقيدة محمد بن عبد الوهاب "الصافية"، وقد كانت قواتهم غير مستعدة للاعتراف بأي قواعد أثناء الحرب، فكلّ أساليب الفتك كان معمولا بها، بما في ذلك شنِّهم سلسلة اغتيالات طالت قيادات وأعيانا عدة، وقد استعملهم عبد العزيز في الحروب التي شنَّها على طول شبه الجزيرة مستغلا حماستهم في "الثواب الأخروي"، كما عبَّر جون فيلبي، وهو مؤرخ مستعرب، عاش في نجد لعقود، مشيرا إلى ضعف جيش عبد العزيز آنذاك.
في "مقاتل من الصحراء"،(1) الموسوعة الشهيرة للأمير خالد بن سلطان بن عبد العزيز، نقل في أحد فصولها أسطرا اقتبسها من كتاب "ملوك العرب" للأديب والمؤرخ اللبناني أمين الروحاني عندما كان في نجد، قال فيها: "لقد كان الإخوان رسل الهول ورسل الموت، في كلّ مكان سُمعت فيه "هوستهم" المشهورة: "هبت هبوب الجنة، أين أنت يا باغيها؟" فلا الحجاز ينساهم، ولا الكويت يذكرهم بالخير، ولا العراق يحسن بهم الظن، ولا الجوف ولا الجبل ولا القصيم يُكبِرُ في ساعة الوغى سواهم، ويردد خوفا وإعجابا سوى اسمهم. الإخوان، زرعوا الهول في كل مكان"، ثم يقول بعد ذلك بقليل: "لولا ذلك ما كان الإخوان، وما كان مُلك ابن سعود".
وهنا تجدر الإشارة إلى أن استغلال عبد العزيز لإخوان من طاع الله، الذين أدناهم وأفرط في مديحهم، انتهى بضربهم بطائرات المستعمر البريطاني بعد ذلك، بعدما نشب خلاف بينه وبينهم على توسعهم شمالا باتجاه العراق، وخوضهم معارك هناك. كان عبد العزيز قد أبرم معاهدة بحرة 1925 التي قضت بالاعتراف بالحدود العراقية، وألا تقوم بالتعدّي على أراضيها، ما نقض من خلاله الوعد الذي أعطاهم إياه: حلم دولة الخلافة الممتدة التي لا تقف عند حد. لكن هذا المسلك العنفي في معالجة الملفات السياسية لم يكن سلوكا معروفا لدى السلطة بشكل متكرِّر بعد ذلك؛ أي إن الدولة السعودية لم تكن تعتمد التصفية الجسدية، السياسية، كحلٍّ أولي لكبْح جماح نشاط سياسي معيّن تعتبره الدولة تهديدا لها، إنما كان ذلك استثناء من القاعدة.
القهر السعوديفي نهار 17 ديسمبر/كانون الأول عام 1979، اختفى المعارض اليساري ناصر السعيد، وهو من أوائل المعارضين للنظام السعودي، ويعود إلى مدينة حائل بالسعودية. عُرف بخطاباته اللاذعة للأسرة المالكة في نجد منذ أيام الملك سعود في شبابه وحتى اختفائه ذلك اليوم في منفاه الاختياري في بيروت. لم يُعثر لناصر السعيد على أثر بعدها.
يصرّ ناشر كتاب "حقائق عن القهر السعودي" أن يؤكد على أن لسفارة السعودية في بيروت، وسفيرها علي الشاعر، ضلوعا مباشرا في اختفائه.
حيث قال في مقدمة الكتاب إن لـ "أبو الزعيم"، وهو مسؤول بارز في المخابرات الفلسطينية التابعة لفتح لأكثر من عشر سنين، دورا في تسليم السعيد إلى السفارة في بيروت، أو الإجهاز عليه بإيعاز منها. في مجلة "الأسبوع العربي" عام 1987، سُئل "أبو الزعيم، عطالله عطالله" عن ما حدث فأجاب: "كان هناك من أشار زورا إلى أن أبو الزعيم مسؤول عن هذا الموضوع، وفي حينه بالذات شكلنا لجنة تحقيق للبحث عن الرجل"، ثم قال: " قادنا التحقيق جميعا إلى الاشتباه بأحد الأجهزة وعندها توقف كل شيء". وهنا يحاول الرجل أن يقول: لقد فقدنا "ناصر السعيد" فجأة، ولا أحد منا يعلم عنه، لقد تبخَّر في بيروت، السعيد الذي كان يعرفه الجميع هناك.
أم جهاد، وهي زوجة السعيد، قالت إن "المخابرات السعودية" هي من قامت باختطافه، ثم أتبعت: "لقد حاولوا عدّة مرات اختطاف ناصر أو اغتياله".
أما الرواية التي تشير إليها كلّ الشهادات، فإنه ومن خلال التنسيق مع بعض قيادات حركة "فتح"، قامت عناصر أثناء خروجه من مؤتمر صحفي باعتراضه في "شارع الحمراء"، واختطافه إلى مطار بيروت، ومن ثمَّ رُحِّل إلى السعودية. وهناك تم إعدامه سرا. أما الأسماء التي يشار لها بالاتهام فهم القياديان في فتح: صلاح خلف "أبو إياد"، وعطالله عطالله "أبو الزعيم".
ناصر السعيد، كان قد أسس في 1959 اتحاد شعب الجزيرة العربية، وهو تنظيم سياسي معارض، علماني قومي، كانت فكرته تقوم على إسقاط نظام آل سعود وإحلال نظام جمهوري بدل النظام الملكي القائم. تنقّل السعيد بعد خروجه من المملكة بين القاهرة ودمشق وبيروت، كما كان له برنامج إذاعي على "صوت العرب" من القاهرة، وهو "الويل لأعداء الله"، إلى جانب تأسيسه لمكتب للمعارضة في اليمن.
شكَّل السعيد خلال ذلك حالة معارضة مهمة في الخارج، وهو من الأسماء التي عاصرت ثلاثة ملوك سعوديين، ويذكر أنه بعد وفاة الملك عبد العزيز وتسلُّم سعود المُلك من بعده، قام الأخير بزيارة إلى حائل، حيث كان السعيد يحضّر له خطابا هناك، جاء فيه: "بسم الله، وباسم الحق، باسم العمال المعذّبين، باسم الفلّاحين الذين أصبحوا فريسةً للمرابين، باسم البدو المشردين، باسم الشعب العظيم الذي حُرم من نور العلم طويلا طويلا يا طويل العمر!"، ثم واصل في ذلك البيان الذي كان أشبه ببيان معارضة: "هل تجشمتم مصاعب الطرقات الوعرة، بقصد الدّعاية لنفسك أم بقصد الترفيه؟ إذ ليس في مئات المدن والقرى والصحارى التي مررتُم بها إلا الفقراء الذين رأيتهم يمدون أيديهم، ضارعين من الفقر والمرض والجهل اللعين". نجح النظام السعودي في تحييد صوت السعيد المزعج عبر الإذاعات، وفي الصحف، لكن بقيت سيرته حافلةً على امتداد أكثر من 20 عاما رافضة للاستبداد والقسْر والتفرّد بالسلطة.
حلقة أخرى من القهرجمال أحمد حمزة خاشقجي، صحفي سعودي مخضرم، بدأ مسيرته الصحفية عام 1982 مراسلا لصحيفة "سعودي جازيت" التابعة لمؤسسة عكاظ للصحافة والنشر السعودية، حيث كانت من أوائل الصحف السعودية الناطقة بالإنجليزية. تدرَّج جمال حتى كسب ثقة عدة صحف عربية وأصبح مراسلا لها أيضا؛ حيث كان نشيطا في تغطية الحرب في أفغانستان والكويت، السودان والجزائر، وعُرف اسمه آنذاك كصحفي سعودي اقترب من خطوط النار والصراعات الدائرة في المنطقة.
تأثر خاشقجي بالحرب في أفغانستان، أو ما أُطلق عليه آنذاك "الجهاد الأفغاني"، حيث اختلط بالمجاهدين العرب القادم جُلُّهم من السعودية، وكان يكتب لصالح المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق، بمجلاتها وصحفها التي كان من بينها صحيفة "الشرق الأوسط". كانت الحكومة السعودية في ذلك الوقت داعمة رئيسية لهذا "الجهاد"، وسخَّرت من أجل هذا الفتاوى والأموال والسلاح، مرورا بدعم أمراء الأسرة من الصف الأول، أبناء عبد العزيز، علانية لإرسال المقاتلين هناك، وانتهاء بنقْل المقاتلين إلى باكستان ومنها إلى أفغانستان. كانت حالة سعودية عامة يمكن أن تلاحظها في كل مكان في ذلك الوقت، وقد تمَّ ذلك في إطار تحالف السعودية الوظيفي مع الولايات المتحدة لإسقاط السوڤييت هناك. "الجهاد" الذي كان عاملا أساسيا وراء تشكيل تنظيم "القاعدة" متعدد الجنسيات عام 1988، والذي تبنَّى فكرة الجهاد الدولي، و"المجاهدون" الصادقون الذين عادوا بعد ذلك ووجدوا أنهم قد أصبحوا "إرهابيين" في نظر الحكومة السعودية.
كان جمال متحمسا لهذا الجهاد كأقرانه، وذهب إلى هناك صحفيا "محتسب النيَّة ومحبا لذلك الجهاد"، كما عبَّر عن ذلك في أحد لقاءاته، لكنه لم يكن مقاتلا. خلال ذلك انتشرت له صورة حاملا فيها السلاح، وظلَّت هذه اللقطة تطارده في كلّ مرة تقوم فيها صحيفة أو قناة باستضافته والحديث معه، فتارة يكون السؤال عما إذا كان في تلك الفترة "مجاهدا" أم صحفيا ينقل الصورة بموضوعية، وتارة أخرى يذهب السؤال بعيدا إلى سؤاله عن دور مخابراتي تمَّ تكليفه به، لكن جمال كان ينكر كل هذه التهم؛ فهو لم يكن مقاتلا كما يقول، بل كان صحفيا يحمل حماسة، وبالتالي انحيازا ضمنيا تجاه "المجاهدين" الأفغان، بل كان يعتبر القتال هناك "جهادا صحيحا" (2)، على عكس القتال في العراق الذي اعتبره بعيدا عن مجال المقارنة وخارج "مصلحتنا كمسلمين ومصلحتنا كسعوديين"، وأثناء سؤاله عن ذلك قال إن العراقيين "حتى وإن رفضوا الاحتلال الأميركي، فإنهم مستعدّون لأن يأخذوا ويعطوا معه، وأن يتفاعلوا معه وضده بشكل مختلف"، القراءة التي بدت خالية من المنطق، وسط تصدّر اللقطات القادمة من سجن أبو غريب نشرات الأخبار وعناوين الصحف. لقد وقع جمال في خطأ كبير.
وعن عمله في المخابرات، الذي كان يروج له الجهاديون والذي كان ينفيه هو، فلا تذكر سيرته أيًّا من هذا، كما لم يتحدث أصدقاء جمال، ومن يعرفه، عن ضلوعٍ له في أي دور مخابراتي. لكنه في الوقت نفسه يذكر أنه حاول أثناء عمله الصحفي في أفغانستان عدة مرات اللقاء بالأمير تركي الفيصل عندما كان رئيسا للاستخبارات العامة السعودية في الفترة بين 1977-2001، لكنه لم ينجح، وعن معالجته لهذه التهمة قال في أحد اللقاءات (3) بأن العمل في جهاز الاستخبارات أو المباحث "شرف لي أن أخدم بلدي، ولكني لم أتشرف بهذا العمل، لأنني كنت صحفيا محترفا"، ثم أردف: "ولو كنت أعمل بها ربما يكون من المطلوب مني أن لا أقول أني أعمل بها!".
جرأة خاشقجيانتقل بعد ذلك للعمل نائبا لرئيس التحرير في "عرب نيوز"، وفي عام 2004، تقلَّد جمال خاشقجي منصب رئيس تحرير صحيفة "الوطن"، إحدى كبريات الصحف السعودية، والمملوكة لمؤسسة عسير للصحافة والنشر التي يرأس مجلس إدارتها الأمير بندر بن خالد الفيصل. ومن هنا تحديدا بدأ نجم جمال خاشقجي بالسطوع بشكل غير مسبوق، وبدأ اسمه يتردد بلا توقف في المنتديات والمجالس العامة.
تبنَّت "الوطن" في عهده خطابا جريئا في نقد التسلُّط الديني، وأشعلت مواجهات لا يمكن أن تُنسى في تاريخ الحراك الثقافي المحلي بعد وضعها رموزا دينية في قفص المساءلة لأول مرة تقريبا منذ صعود الصحوة. وإلى جانب أنها فتحت بابا لانتقاد التيار "السروري" ورموزه، فقد أطلقت مواجهات يومية حادَّة مع التيار السلفي الجهادي كذلك إبَّان وقوع عمليتين إرهابيتين تركت صداهما في الشارع السعودي، في حي المحيا بالرياض وموقعين في مدينة الخُبر، واستكتبت كُتّابا حسبوا في تلك الفترة ككتاب ليبراليين، ورغم أنهم قد لا يكونون كذلك، لكن المزاج العام في تلك الفترة كان ضيقا وحدِّيًّا إلى درجة أن من يكتب في "الوطن" كان يُحسب على الليبراليين، ومن يكتب في "سبق" كان يُحسب على المحافظين بتياراتهم، وكانت " سبق" آنذاك قبل تحجيم دورها اليوم منبرا ملائما للإسلاميين، وللتيار السروري بشكل خاص.
هذه المساحة من الشغب التي خلقتها "الوطن" يعود لها الفضل في تحريك الحالة الثقافية في تلك الفترة، فقد استفزت المحافظين بطبيعة الحال، الاستفزاز الذي جعل "الوطن" لا تتحرك في مجال إلا وتلاحقها نيران التُّهم المفتوحة، فتارة تتهم بأنها القوة الناعمة للدولة لتغيير "قيم المجتمع المحافظ"، وتارة أخرى تُتّهم بأنها تعمل على التأثير على العقلية الشعبية بما يوافق الأجندات الغربية، والأميركية تحديدا، ولم تنتظر طويلا حتى اتُّهمت كذلك بأنها الآلة الدعائية للترويج لاتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة "سيداو" في المملكة، الاتفاقية التي كانت خطا أحمر بالنسبة للمحافظين، ولا تكاد تمشي في شوارع جدة والرياض والدمام في تلك الفترة حتى يلحق مسامعك نقاش ساخن حول هذه الاتفاقية، وكيف أن هؤلاء "الليبراليين" يحاولون سلب "خصوصيتنا الثقافية" ويقومون بالترويج للقيم الغربية. أما "الوطن"، أو "الوثن"، كما كان يطلق عليها المحافظون، فقد كانت وسط كل هذا الحمى. ولم يلبث هذا الخطاب الشعبوي والانكفائي في حشد الكثير حوله.
لقد أصبحت "الوطن" خطيئة يجب التطهر منها، ووسط هذا المشهد ينبري الأمير نايف بن عبد العزيز (4)، وزير الداخلية، الذي كان ممثلا عن الجناح المحافظ في أعلى هرم السلطة، ليواجه في التلفزيون الرسمي وأمام عدسة الكاميرات مراسل صحيفة "الوطن" الذي تساءل عن السبب وراء تجاوز عدد مراكز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدد مراكز الشرطة، لينفعل الأمير ويرد: "من قاله؟ هذا غير صحيح، وربنا يزيدها بعد، بس أنا بقول شيء، أنتم في صحيفة الوطن لكم توجّه ونيّات سيئة جدا، لا أعرف لماذا تنفرد بها صحيفة الوطن، أرجو أن تغير هذا التوجه إلى ما هو واجب عليها، أما أن تستكتب أو تجيب أخبار لا أساس لها من الصحة، أو تستكتب أناس أصحاب أهواء ضد العقيدة وضد الوطن فهذا أمر لا يليق".
في سبتمبر/أيلول 2009 شن جمال خاشقجي هجوما على قناة المجد وسعد الشثري، العضو في هيئة كبار العلماء، بعد انتقاده (5) "الاختلاط" في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، ومطالبته بإنشاء "لجان شرعية" تقوم بمراجعة العلوم لتنقيتها من النظريات "الشاذة". والجامعة أُنشئت في ذلك الحين على طراز حديث، افتتحها الملك نفسه، وعُدّت من أهم المنجزات في عهد الملك، وأكثر الجامعات جرأة في الشكل والمحتوى في حينه، كما تم دعمها بشكل خاص لتبدو مختلفة عن بقية الجامعات الحكومية. قام خاشقجي في حينه بنشر مقال في "الوطن" بعنوان "الشثري وقناة المجد" (6)، قال فيه إن "تبرع الشيخ بوقته وجهده في حملة التشويش يأتي في زمن خرج علينا، وعلى الشيخ أيضا وعلى علماء البلاد، قوم من بيننا يتهمون قادة البلاد بخيانة الأمانة والعمالة للأجنبي الكافر، بل حتى كفّرونا واستباحوا دمنا قولا وفعلا، فيأتي فضلاؤنا يقدمون لهم ما سيراه أحداث كهوف اليمن وأفغانستان، حجة ودليلا، وما هو بالحجة والدليل وإنما إرجاف وتشويش".
ثم يواصل خاشقجي هجومه: "ويمضي الشيخ قائلا في قناة المجد إن محبّته للملك عبد الله وثقته به وحرص الملك على مصلحة المسلمين هي التي جعلته يطالب بوقف الاختلاط. إن محبتك للملك حفظه الله تُلزَم بفتوى كبار العلماء، بأن تنصح وفق منهج السلف الصحيح وليس على صدر قناة أشرعت ساحتها لمتحدثين بعيدين عن الواقع أو يُنظِّرون على جهال، ليسوا بأهل دين وقرآن". عُزل سعد الشثري بعدها عن "هيئة كبار العلماء" (7)، وفقد التيار المحافظ أحد أهم أصواته في مؤسسة دينية رسمية مهمة في الدولة.
لم ينس المحافظون لخاشقجي هذا، وفي مايو/أيار 2010 كتب الأديب إبراهيم الألمعي مقالا على "الوطن" بعنوان "سلفي في مقام سيدي عبد الرحمن" عُدَّ هجوما مباشرا على السلفية التي وصفها بأنها "ثقافة جرداء مُسطَّحة الفكر لا تملك التوغُّل في الفكر ولا اتِّساع التمذهب"، وفي طي المقالة سرد قصة افتراضية عن سلفي ينازع عقله أثناء زيارته لضريح سيدي عبد الرحمن الثعالبي، في الجزائر، ثم يلخص المقالة بأن صديقنا السلفي، بعدما تجوّل في الضريح، أو الزاوية، ورأى الناس من أعالي القوم وأدناهم، لم يتفق معه أن يكونوا كلهم على خطأ وهو وحده على حق، اقتنع بـ "أن كل تلك الطقوس ليست أمورا عقدية على الإطلاق، وإنما هي تعبير حسّي عن الأمل والصِّلة بالبعيد غير المنظور، وبحث عن الصفاء والنقاء والنجاة بأساليب لم تكفِ فيها عندهم وسائل العبادة المتفق عليها، وأن ما لا تثبت قطعية دلالته من هذه الأمور ليست سوى مساحة من الحرِّيّة التي لا يمكن حجْرُها على الشعوب".
كان خاشقجي قد تم التجديد له رئيسا لتحرير الصحيفة آنذاك، ولم يمض على تجديده هذا 52 يوما حتى وجّه المحافظون له ضربة بعد نشر مقالة " الألمعي"، ومن خلال صوتهم العالي في الدولة ووجود رجالاتهم في مؤسساتها، أقيل خاشقجي إلى الأبد، في أقصر مدة رئاسة تحرير صحيفة في تاريخ الصحافة المحلية. لقد حفظوا له ما فعله برجلهم العام الماضي، أما الآن فتنفّس المحافظون الصعداء. لقد سقط أحد أهم المحاربين. بعد سنوات مليئة بالصخب والعمل الصحفي المليئ بالمتاعب، قضاها خاشقجي في "الوطن"، انتقل للعمل مع الأمير تركي الفيصل، سفير المملكة في بريطانيا آنذاك، كمستشار إعلامي. خاشقجي قال آنذاك إنه لا يعمل مع الأمير بصفة رسمية، إنما بشكل شخصي بعد ثقة أولاها الأمير له. كانت فترة وادعة على ما يبدو، ظلّ جمال فيها يقوم باستقبال طلبات المقابلات مع الصحف المحلية والعربية حول مسيرته، ويرتب للمرحلة القادمة من العمل الإعلامي.
الاستقلالية
في 1 فبراير/شباط 2015، انطلقت أخيرا "قناة العرب" المملوكة للأمير الثري واسع السمعة الوليد بن طلال. عاد جمال خاشقجي إلى وهج المشهد في أول تجربة تلفزيونية له مديرا عاما للعرب. ظلّ جمال يبشر للقناة الوليدة التي ستنافس الجزيرة والعربية، من البحرين، البلد الأصغر والأكثر فقرا وقمعا بين دول الخليج العربي، والذي اتخذ من الوليد مقرا لقناته الإخبارية الوليدة، ظانا أنه سيكون بوزنه كإمبراطور مالي في المنطقة ثقلا موازيا لثقل الذين يقفون خلف الجزيرة والعربية، القناتين المدعومتين من حكومات خليجية.
حاول الوليد بن طلال، وضمنيا جمال خاشقجي كمدير للقناة، تصدير رسالة مفادها أن "العرب" ستكون مستقلة غير تابعة لا لحكومة السعودية ولا البحرين، لقد كانت مثالية غريبة وغير مفهومة في قراءة الواقع الخليجي. لقد عوَّلا على سراب؛ منحازين لفرضية ثبت فشلها بشكل كامل تقول بأن السقف الخليجي ارتفع بعد الثورات العربية، وأن السعودية والبحرين ستتحملان عبء القناة الوليدة المملوكة لابن طلال بن عبد العزيز أحد "الأمراء الأحرار" المنشقين في زمن قريب، وستقوم باحتواء ما تقدمه، والمساومة في منطقة وسط، كشكل التعامل مع بقية المؤسسات الإعلامية.
لكن الحديث حول "العرب" كان ذا طابع مختلف، أما سيد ما كان يتردّد آنذاك فهو الحديث عن مشروع سياسي يعمل عليه الوليد من خلال "العرب".
لقد اختار الرجل الصحيح، فخاشقجي لم يكن رجلا عاديا طيلة عمله صحفيا وحتى قريبا من دوائر صنع القرار، بل يمكن ملاحظة أنه كان على الدوام شخصا متطلّعا. وعندما تودّعه عند محطة معينة، لا يستطيع أحد أن يضمن لك أنك ستعود وستجده في مكانه. وهنا تكمن أهمية رجل كهذا، وهو ما تنبَّه له الوليد. لكن "العرب"، وبدافع الثقة واختبار مجال التحرّك المتاح على ما يبدو، وجهت ضربة مباشرة للسلطة البحرينية في أول ظهور لها باستضافتها معارضا بحرينيا (8) مهما، عن حزب الوفاق المعارض، خليل مرزوق، الذي انتقد إسقاط الجنسية لأسباب سياسية في البحرين.
ويبدو أن قدر خاشقجي في "الوطن" قد تكرَّر من جديد في قصته مع "العرب"، فلم تمض ساعات حتى توقفت القناة تماما عن البث، وإلى الأبد أيضا.
ظلَّ الوليد بعدها على تواصل مع السلطات البحرينية لمحاولة الاتفاق على سياسة تحريرية متفق عليها، لكن دون جدوى. ومما تم تداوله في تلك الفترة أن قرار الإيقاف صدر من الرياض، تحديدا من ولي ولي العهد آنذاك، ووزير الداخلية، محمد بن نايف، الابن المقرب للأمير الراحل نايف بن عبد العزيز صاحب المواجهة الشهيرة مع "الوطن". كان محمد آنذاك مساعدا لوالده في وزارة الداخلية للشؤون الأمنية.
سرعان ما خيَّم الإحباط على جمال، فلم يكن يتصوَّر أن تؤول الأمور إلى هذا الحد، وبهذه السرعة. حاول الوليد رفقة جمال أن يوجدا مكانا بديلا عن البحرين. لقد اكتشفا، بعد أن فات الوقت، أن البحرين ليست إلا فناء خلفيا للسعودية، وعندما تأتي التعليمات واضحة من الرياض، فلا مجال أمام المنامة إلا المسارعة في تنفيذها، فالبلد الفقير الصغير على ضفاف الخليج لا يتحمَّل مواجهة جار ثقيل بحجم السعودية، ومن هنا فقد تأثر بسياسات الرياض وتطبَّع معها وسلَّم بها. لكن ذلك لم يفلح أيضا. ونجحت الرياض في إنهاء حلم "العرب" تماما.
صعود محمد.. خروج جمالصعد محمد بن سلمان سريعا خلال العامين 2017-2016، وانشغل الجميع بترقب صعود هذا الأمير الشاب الذي لم يكن شيئا قبلها. فمحمد لا يملك أي سجل تاريخي يتوافق مع أهليته في استلام منصب واحد من جملة المناصب التي يشغلها اليوم. أما أول ظهور له فقد كان بتاريخ 12 ديسمبر/كانون الأول 2012، في تسجيل مصوَّر تم تقديمه على أساس أنه تسجيل "مسرَّب" من مجلس الملك سلمان، عندما كان أميرا، أثناء زيارة مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي له. كان عمره آنذاك 28 عاما، ودار الحوار المعدّ سلفا عندما سأل الأمير ابنه: "محمد أنت بأي مرتبة؟"، فيجيب محمد: "السادسة الله يسلمك".
لقد تمَّ تدبير هذا المشهد لإيصال فكرة مفادها أن ابن الأمير سلمان أمير منطقة الرياض آنذاك، الملك الحالي، ماهو إلا مواطن "عادي" صعد إلى إمارة الرياض كغيره من المواطنين، وها هو الآن يشغل المرتبة السادسة، المرتبة التي يبدأ منها غالبية المواطنين من الطبقة المتوسطة عادة في المؤسسات الحكومية بكلّ تفريعاتها. وهنا، ولأول مرة، يرى الناس "مبس". جمال، الصحفي المقرّب من السلطة، كان يعرف الابن الشاب للأمير، حاول المشي بحذر وسط مساحة جديدة كليا عليه وهو يرى سلمان، الملك التالي، يرفع ابنه من المرتبة السادسة بسرعة إلى مفاصل القرار فيالدولة. بدءا برئاسة الديوان الملكي ووزارة الدفاع، وانتهاء بولاية العهد بعد الإطاحة باثنين من أولياء العهد، مقرن بن عبد العزيز ومحمد بن نايف.
انطلقت حملة حكومية للتهيئة الشعبية لخطة 2030 التي تبنَّاها ودعمها ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. لقد انتظر الجميع هذه اللحظة بلا صبر، لقد كانت آخر محاولة لأي أمل كان يعوِّل عليه الناس لتغيير حقيقي، بل إن الإصلاحيين الذين أخذوا موقفا حدِّيًّا من ولي العهد محمد بن نايف؛ بعد أن قام باعتقال مؤسسي وأعضاء جمعية "حسم" المطالبة بالإصلاح السياسي، وكثير من الإصلاحيين، إضافة إلى منع السفر المفتوح بالجملة، أمَّلوا أن تكون الرؤية التي سيقدمها الأمير الشاب في صالح مستقبل أكثر انفتاحا على الحريات والمشاركة السياسية. في الحقيقة، فقد كان أملهم الكاذب هذا قادما من حالة الإحباط العميق الذي عايشوه طيلة السنوات الماضية، وما زلت أذكر أحد هؤلاء الإصلاحيين وقد كان يمنِّي نفسه منتظرا لحظة الإعلان عن الرؤية، وما زلت أذكر شعوره العميق بالأسى والمرارة بعد انتهاء المؤتمر الصحفي للرؤية ونشر المسودة والإعلان عن الجوانب التي ستشملها. لقد كانت دعائية بشكل كامل، وتبيَّن خلال السنوات التالية أن هذا ما كان يراد منها: خلق تاريخ سريع، ومتوهّج، للأمير الشاب. وهذا ما يفسر حرب اليمن، والإصرار عليها رغم الخسائر، وقرارات تم طبخها بسرعة كقيادة المرأة؛ الحقُّ الذي انتزعنه الناشطات وحاولت الدولة نسبته إليها. أما صاحبنا الإصلاحي فهو الآن في الحبس، يقضي وقته وحيدا في أحد العنابر.
كان جمال يراقب كلّ هذا، حاول الاقتراب من الرؤية والتشبُّث بها، بل والتسويق لها واتخاذها قاعدة للانطلاق لكلِّ أفكاره ورؤاه، وهذه خطة جيدة للمناورة وإن لم يتفق معها كثيرون، وأنجز حولها ثلاثة عشر مقالا على صحيفة "الحياة" ناقش من خلالها معظم الموضوعات والجوانب التي تطرقت لها الرؤية. وأحدث خلال ذلك الكثير من الجلبة.
المعارضة.. وأجراس الخطرفي مايو/أيار 2017، حزم جمال حقائبه متجها إلى الولايات المتحدة، ويبدو أنه عزم على عدم العودة بعدما تم خنق الإعلام، وفرض حالة جامدة من الموالاة المطلقة للدولة في المشهد الثقافي، وإفناء المساحة الرمادية الطبيعية من الأشياء والأحكام والتصوّرات، وهي المساحة المكفولة لكلّ إنسان إذا ما أراد محاكمة الأشياء أو الأشخاص، فكيف بالمثقف المسؤول عن الظواهر والأحداث، ووعي الجماهير خلال ذلك؟ لقد تعمدت السلطة تضييق المساحة بينها وبين الشعب، بين العلوي والسفلي، بين الفعل وردة الفعل، حتى لم تعد الحالة الشعبية "ظاهرة"، ثم بعد ذلك سحقت من تبقَّى هناك. وبعد أن نفَّذ ولي ولي العهد، محمد بن سلمان، من خلال والده انقلابا على ولي العهد، محمد بن نايف، عبر ترتيب قصة تعاطي الأخير للمخدرات كما ذكرت ذلك رويترز عن مصدر سعودي، اتجه ولي العهد الجديد في سبتمبر/أيلول من العام نفسه لشنّ حملة اعتقالات مفتوحة ضدّ كل خصومه، أو خصومه المحتملين، أو حتى من اعتقد أنهم "مؤهلون" لذلك. لقد وجَّهت "اعتقالات سبتمبر" ضربة موجعة، وحزينة، للعمق المحلِّي، وشكَّلت حالة صدمة. ومما يجب ذكره أن بعض المعتقلين تم اعتقالهم على خلفية استنكارهم ما حصل.
"لقد تألمتُ كثيرا منذ عدة سنوات عندما اعتُقِل العديد من أصدقائي. لم أقل شيئا. لم أكن أريد أن أفقد وظيفتي أو حريتي. كنت قلقا على عائلتي.
هذه المرة، اتخذت خيارا مختلفا. لقد تركت بيتي وعائلتي ووظيفتي ورفعت صوتي. ولو فعلتُ خلاف ذلك، فهذا يعني أنني أخون أولئك الذين يقبعون في السجن. أنا أستطيع أن أرفع صوتي عندما لا يستطيع الكثيرون ذلك".
بهذه الكلمات المهمَّة، والمؤثرة، ينهي خاشقجي مقاله الأول في الـ "واشنطن پوست" (9) بعد دعوتها له للانضمام إليها ككاتب رأي. وبحكم جواره للصحيفة وزيارته المتكرِّرة لها في العاصمة الأميركية، توثَّقت علاقته بها أكثر فأكثر، ونمت شهرته سريعا، وقد كان سعيدا بهذا بطبيعة الحال؛ فقد أصبح بوسع جمال، أخيرا، بعد كلّ تلك المشاق والمصاعب والمناورات طيلة 30 عاما أن يعبِّر عما يعتقده صحيحا، دون أن يخاف زوَّار الفجر حيث يسكن في مدينة جدة.
إنه حقا مشهد جالب للحسرة: صحفي كبير مخضرم، شارك في خلق مرحلة مهمة من تاريخ الصحافة المحلية، ينطلق لمرة واحدة للكتابة الدورية النَّاقدة في أكبر صحيفة أميركية على الإطلاق، ويكرِّر ظهوره باستمرار في القنوات العربية بدءا بالجزيرة، ودويتشه فيليه، وبي بي سي، والسي إن إن، وغيرها، بعد أن ظلَّ لسنوات ينازع نفسه بين الموالاة و"الرغبة" في أن يكون مستقلا، حبيسا لمخاوفه داخل جغرافيا تسيطر عليها سلطة قمعية لا تسمح لأحد أن يعبِّر بغير ما تراه، مثل السلطة الحاكمة في السعودية، حتى وإن كان لا يرى بديلا عنها، مثل جمال.
لقد عبَّر خاشقجي في كتاباته وأثناء ظهوره التلفزيوني عن جملة أفكار متناقضة، وبدا كمن يلعب على أكثر من وتر، ويرقص على عدة حبال مشدودة. ففي الوقت الذي يقول فيه إن "في رقبته بيعة لولي الأمر"، فهو يتهم رأس الهرم بأنه خلف الاعتقالات الأخيرة، ويؤكد أنه بأمر من الملك أو ولي العهد يمكن "طي هذا الملف"، إلى جانب اعتراضه على السياسات المفروضة على قطر، ووصفه للأزمة بأنها "عدمية". وهو في الوقت نفسه يرفض أن يصنفه أحد كمعارض.
كان جمال يفهم كيف يفكّر قومه، وقد خبرهم وعرفهم، والآن هو يتسلّل بين العبارات بخفّة، قادرا على المناورة والتأثير على المستوى الذي يسع كل المشتركات. فهو مع المرجعية الإسلامية في السياسة، وهو في الوقت نفسه مع الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، ثم هو ذو نزعة ليبرالية ولديه مشوار في هذا، وهو في الوقت نفسه يحنّ لسماع "أنا الشعبُ.. أنا الشعبُ..".
في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول (10) يصل جمال إلى مبنى القنصلية السعودية مصطحبا معه خطيبته خديجة لإنهاء أوراق متعلقة بالزواج من القنصلية، فقد وصل قبل أسبوعين من واشنطن، قضى خلالهما نشاطا إعلاميا غير عادي. وصلا، وطُلب منه أن يُبقي جهازه الهاتف خارجا، فسلّمه إلى خديجة، ودّعها، ودخل.
جمال لم يخرج. لقد أرسلت الحكومة السعودية خمسة عشر شخصا من السلك العسكري المتخصص، شوهد بعضهم وهو يرافق ولي العهد، جاؤوا على متن طائرتين خاصتين في اليوم نفسه. خمسة عشر قاتلا، غير محترف على الإطلاق، يصلون إلى إسطنبول للإجهاز على جمال خاشقجي، وقد استعدوا لذلك الموعد الذي أٌعطي إياه منذ الأسبوع الماضي. وما أن دخل القنصلية حتى تبعوه، وبعد ساعة وفي مكان ما من أجزاء القنصلية كان جمال قد فارق الحياة.
لقد ارتكب النظام السعودي أكبر حماقة في تاريخه على الإطلاق. إن ما حدث غير مسبوق البتَّة. فقد حوَّلت إيماءة الموافقة على عملية القتل، القادمة من الديوان الملكي بكل تأكيد، جمال خاشقجي إلى حالة خاصة فجرت تفاعلا دوليا، وفي مرحلة تالية إلى رمز وطني سيُخلَّد في الذاكرة المحلية والعالمية، جمال الصحفي الذي لم يفعل شيئا غير أنه فهم اللعبة، وقرَّر أن يغادر.
الآن، تحوَّلت السفارات والقنصليات السعودية إلى مخيال لغرف إعدام منتشرة حول العالم، وبدأت الأعين تنظر إلى محمد بن سلمان كقاتل، وشيئا فشيئا، بعد الاعتقالات وإصدار النيابة العامة طلبا بإعدام بعضهم، ثم الاغتيال السياسي الذي تعرَّض له خاشقجي، تحطمت صورته التي انشغل في ترويجها لمدة عامين كأمير شاب وديع باسم الوجه يقدم نفسه كإصلاحي ومقبل على التنمية وفتح أبواب الاستثمار.
المأزقانبرى رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ، والرجل النافذ في الحزب الجمهوري، السيناتور بوب كوركر مطلقا تصريحات نارية على الحكومة السعودية، وولي العهد محمد بن سلمان، وبعد أن قال إن "كلّ المؤشرات" تدلُّ على أن جمال خاشقجي قُتل في القنصلية حسب معلومات سرية استخباراتية، قال إنه إذا ما ثبت ذلك فيجب على الولايات المتحدة "معاقبة" السعودية، وتابع أن علاقة مجلس الشيوخ بالسعودية "متدنية جدا جدا".
في تلك الأثناء، انسحبت أكثر من عشرين جهة وشخصية اعتبارية بينهم وزراء دول من مؤتمر استثماري كانت السعودية ترتب لإقامته، وأنهت عدة جهات تعاونها الذي يُقدَّر بمئات الملايين. وعلى سبيل المثال، ريتشارد برانسون، رائد الأعمال ومؤسس مجموعة فيرجن، أعلن تعليق إدارته لمشروعين سعوديين سياحيين، إلى جانب تعليق مباحثات استثمارية تبلغ قيمتها 100 مليار دولار. وزير الطاقة الأميركي السابق، إرنست مونيز (11)، أعلن تعليق دوره الاستشاري للمدينة الذكية "نيوم"، المدينة الحلم للأمير الشاب. أما إنديفور كونتنت هوليوود، فقد انسحبت من مشروع تُقدّر قيمته بـ 400 مليون دولار. وأعلن وزير الاقتصاد الفرنسي، برونو لومير، أنه لن يذهب إلى الرياض الأسبوع القادم، وكذلك وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، ووزير التجارة البريطاني، ليام فوكس، وأخيرا وزير الخزانة الأميركي، ستيفن منوشين.
في الثانية عشرة واثنين وخمسين دقيقة، من صباح يوم السبت 19 أكتوبر/تشرين الأول، وبعد ضغط دولي مهول لم تتعرض البلاد في تاريخها لمثله، اعترفت السعودية بمقتل جمال خاشقجي في قنصليتها في إسطنبول. حيث أصدرت وكالة الأنباء الرسمية (واس) بيانا قالت فيه: "أظهرت التحقيقات الأولية التي أجرتها النيابة العامة في موضوع اختفاء المواطن/ جمال بن أحمد خاشقجي أن المناقشات التي تمت بينه وبين الأشخاص الذين قابلوه أثناء وجوده في قنصلية المملكة في إسطنبول أدت إلى حدوث شجار واشتباك بالأيدي مع المواطن/ جمال خاشقجي مما أدى إلى وفاته، رحمه الله".
أربعة أعمدة للرواية السعودية تحطَّمت، مسفرة عن كذب محض ومفضوح مع صدور هذه الأسطر التي جاءت في بيان رسمي للنائب العام للبلاد، والمنشورة على الوكالة الرسمية:
ففي 4 أكتوبر/تشرين الأول، أي بعد الجريمة بيومين، نشر حساب القنصلية السعودية في إسطنبول الرسمي على تويتر التالي: "تتابع القنصلية العامة ما ورد في وسائل الإعلام عن اختفاء المواطن السعودي/ جمال خاشقجي بعد خروجه من مبنى القنصلية، وتقوم بإجراءات المتابعة بالتنسيق مع السلطات المحلية التركية الشقيقة لكشف ملابسات اختفائه".
تتابع القنصلية العامة ماورد في وسائل الإعلام عن اختفاء المواطن السعودي/ جمال خاشقجي بعد خروجه من مبنى القنصلية وتقوم بإجراءات المتابعة بالتنسيق مع السلطات المحلية التركية الشقيقة لكشف ملابسات إختفائه .
أما العمود الثاني، فهو فيديو لجولة القنصل السعودي محمد العتيبي مع وفد من "رويترز" قدم إلى إسطنبول بتاريخ 6 أكتوبر/تشرين الأول، عندما ظهر في مظهر هزيل أمام الكاميرا وهو يفتح أدراج مكتبه للكاميرا، للتأكيد، على أن خاشقجي ليس موجودا هناك.
أما الثالث، فهو تصريح السفير السعودي في واشنطن خالد بن سلمان، الأخ الشقيق لولي العهد، عندما قال في تاريخ 8 أكتوبر/تشرين الأول لـ " واشنطن بوست" ما نصه: "من المستحيل أن يرتكب موظفو القنصلية مثل هذه الجريمة والتعتيم عليها دون أن يكون لنا علم بذلك".
أما العمود الرابع، فقد جاء مبكرا جدا، ففي 5 أكتوبر/تشرين الأول، قال محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي لـ "بلومبيرج"، بعد سؤاله عن ما إذا كان جمال خاشقجي بداخل القنصلية أم لا، أجاب نصا: "لا، ليس بالداخل".
سقوط الأعمدةسقطت الأعمدة الأربعة للرواية السعودية التي تمَّ الترويج لها أول ستة أيام من مقتل جمال، والصادرة من ولي العهد نفسه، الحاكم الفعلي للبلاد، ليرتفع حبل المشنقة حول رقبته إلى الأبد. في الليلة نفسها، أعفى أمر ملكي عددا من المسؤولين من الصف الأول، على رأسهم نائب رئيس الاستخبارات، رجل ابن سلمان بالجهاز، أحمد عسيري، المتحدث السابق باسم عاصفة الحزم، وسعود القحطاني، الرجل الذي يخضع لولاء مطلق لولي العهد، والأكثر شراسة ضد الإعلام والنشطاء والمثقفين ونخب البلاد منذ سنوات، والذي يملك صلاحيات بلا حد.
حاول ابن سلمان من خلال ذلك إيهام العالم بأنه اتخذ إجراء ما، وحاول الدفع بالنقاش بعيدا عن اسمه إلى أسماء أخرى تردّدت: سعود القحطاني، أحمد عسيري، ماهر مطرب، وآخرون. لكن ذلك لم ينجح كما أراد له أن يسير. لم تختلف حدّة المواجهة بينه وبين دول العالم الذي يولي هو له اهتماما خاصا. لقد تاه الأمير الشاب، وسقط في بئر مملوءة بالعقارب، ولا يبدو أنه سيُفلت.
انخرط الأتراك قبل هذا وبعده في حفلة تسريبات، لقد استخدموا أكثر الأسلحة فتكا في عالم السياسة، وفي حالتنا: الجريمة السياسية. فبعد هذا الاعتراف السعودي الرسمي الهزيل، تم تسريب ڤيديو جديد لمصطفى مدني، وهو أحد فرقة الإعدام الذين جاؤوا ضمن الخمسة عشر إلى إسطنبول، وهو يرتدي ملابس خاشقجي وهو يخرج من القنصلية، حيث انتقل بكلّ ثقة مع مرافق له إلى دورة مياه عمومية، وهناك نزع ملابس الرجل ولبس قمصانه.
مشهد بالغ التراجيدية، فبعد هذا ذهب لتناول الغداء هانئا وهو يتبادل الضحكات مع رفيقه، وهكذا، في أحد أكثر فصول الجريمة مأساوية وفزعا، مضى إلى طريقه دون أن يهتم بجسد المغدور، جمال خاشقجي، الذي عرَّاه دون أي حُرمة، قبل أن يقوم صلاح الطبيقي القادم من عالم آكلي لحوم البشر، بإخراج آلاته المفضلة، مشارطه وسكاكينه ومنشاره، وعلى طريقة داعش، قام بتقطيعه.
مشهد قميص جمال، والثقة التي بدا بها "مدني" وهو يتمشّى في شوارع إسطنبول، مرتديا الثوب الذي يحمل رائحة المغدور، وصولا إلى تناوله وجبة الغداء وتبادله الضحكات مع رفيقه، هذا المشهد المخيف، يدلّل على شيء واحد فقط: أن هؤلاء متمرّسون على القيام بما قاموا به؛ فهذه ليست بحال قُدرة طبيعية يتحمّلها الإنسان عند أول مرة، هذه ليست أول مرة، لقد قاموا بالعديد من ذلك مع آخرين بكل تأكيد، ولكن ولسوء حظ الآخرين، فلم يكن ينتظرهم أحد بالخارج، فماهر وصلاح ومدني وأمثاله، هم السلطات في داخل البلاد.
خرج عادل الجبير، وزير الخارجية السعودي المُفترض، وأخيرا على فوكس نيوز الأميركية. لم يقل شيئا مهما إطلاقا، فهو يجيد تبرير ما يُملى عليه، قم بتعبئة عادل الجبير، اضغط هنا، وستحصل على عريضة كاملة من المُبررات التي ستنطلق فجأة. لكن اللافت أنه من بين كل ما قاله، قال إنهم " يتعهدون بأن هذا لن يتكرَّر"؛ وكأنه موظف في البلدية يتكلم عن حريق صغير في مشتل أو انهيار لمبنى من طابقين، أو اعتراض شجرة شارعا عموميا. وعلى كل حال، فعادل الجبير لم يكن إلا الوجه الناعم، الأكثر دبلوماسية، لسلطة متوحشة، تعتقل من ينتقدها، وتختطف المعارضين في الخارج، وتنفذ الاغتيالات السياسية، وهذا هو كلّ ما يتمحور عليه دوره؛ تبييض جبال من الفحم الرديء.
ظلَّت الدولة السعودية الحديثة، التي لم تقتنع بعد بضرورة -بل وحتمية- الدستور والمؤسسات وسيادة القانون، بتحاشي تدويل قضاياها وأي تعاطٍ عالمي لكل أشكال الحراك الاجتماعي الداخلي، وهي بالضرورة لم تكن مستعدة لإثارة البلبلة خارج حدودها. لقد تحاشت دائما أن تكون عنوانا بارزا ومحتوى للنقاش وإثارة الجدل في المحافل العالمية، على مستوى السياسة والإعلام والمدارسة الأكاديمية، إما من خلال شراء الذّمم والأصوات الإعلامية والمؤسسات البحثية، وإما بالاستناد إلى علاقاتها الوظيفيَّة بصانعي القرار في أميركا بشكل أساسي، وبريطانيا، في مقابل لعبها دور تهيئة الأجواء لمصالح تلك الدول في المنطقة.
أما ما كان يحصل معظم الوقت، فالقيام بكلّ ما يلزم، ولكن بتحفّظ شديد وتحت جنح الليل دون علم أحد. ولقد بقي هذا معمولا به حتى إصابة السلطات بهزيمة غير متوقعة بعد ظهور أجهزة الهاتف المحمولة في نسختها الجديدة الحاملة للكاميرا، لقد كان هذا صادما وسط جغرافيا تعوّدت الكتمان، وحاولت السلطات آنذاك حثيثة منع دخول هذه الأجهزة؛ لقد كانت بالنسبة لهم أجهزة تنصت تكشف واقعا، ينتقل عبر الهواء، لا تملك السلطات السيطرة عليه. في 2004 قال المتحدث الأمني في وزارة الداخلية، منصور التركي، في تصريح رسمي للصحف، إن مصادرة أي جوال يحتوي على كاميرا أمر مشروع لرجال الأمن، ولا يحق لحامله مخالفة ذلك. وقال: لا يوجد بند محدد لمصادرة جوال الكاميرا، ولكن ذلك يندرج تحت الأجهزة الممنوعة، والتي تحذر الدولة من تداولها أو استخدامها أو المتاجرة بها، هذه المسؤولية في إزالة الأجهزة المحظورة تبدأ من رجال الجمارك في المطار والمنافذ البرية والبحرية حتى رجال الأمن الداخلي. لقد عنى هذا بالنسبة للسلطات أن كلّ ما يحصل سيصبح قابلا للكشف، والسلطات ليست في مأمن من هذا؛ فالغرب الذي يملك وسائل المعرفة وأدوات التشريح العلمية اللازمة، إلى جانب علو كعبه السياسي، سيكون مستعدا لمساءلة دولة لا تعترف بالدّستور ولا بأسس المجتمع المدني، وسينتظر أي قصة قادمة من تلك البلاد البعيدة التي لا يعرف عنها أحد ليقوم بعمله.
هذه الأجواء المتوترة تستند في جوهرها على نقطة مفادها، أن المنظومة المؤسِّسة للدولة السعودية، حتى بنسختها الأكثر حداثة، مليئة بثغرات تمسّ السيادة والشرعية وتنظيم المجتمع وأسلوب العمل السياسي، وهي خلال ذلك تكون غير قادرة على المساءلة، وهي تعتمد كليا على قَدَرٍ محض يكون السبب فيه أشخاصا بعينهم على رأس السلطة؛ ففي السعودية لا يحقّ لمواطن أيًّا كان أن يعبّر عن وجهة نظر سياسية أو دينية مخالفة للخط الذي يعتمده قصر اليمامة في الرياض، وسيكون صاحبها معرضا للنبذ والمحاسبة، والعقاب، كما يحصل دائما، والفناء، كما حصل مع جمال.
لكن محمد بن سلمان اختار الخروج إلى العالم عاريا. لقد خالف البروتوكول، والمخطط المتبع سابقا. فمارس السياسات السابقة نفسها، مع بعض مساحيق التجميل، لكن طبقات الجلد نفسها كانت متآكلة حتى العظم الهش. لذلك، فإنه لا يمكن لمراقب سوى أن يلحظ بوضوح أن لدى السلطة الحاكمة في السعودية مشكلة على مستوى الهيكل السياسي، وثغرات قانونية تتّسع كل يوم، وهي في الوقت نفسه معتمدة على مورد اقتصادي واحد حتى الآن، النفط، وكلّ حلولها لتغيير شكل السوق ظهر أنها ظرفية ومؤقتة، وأن السياسة التي تحكم البلاد، قائمة على ردة الفعل، وهي السياسة التي يبدو أن المملكة ستدفع أثمانا باهظة عليه كما حدث في قضية قتل خاشقجي، إلى الحين الذي يفرز فيه الواقع الاجتماعي السياسي السعودي معطى يتجاوز فيه هذا الغرق السياسي.
ارسال التعليق