السعودية وتركيا.. الصراع الحضاري يعود للواجهة من خلال كرة القدم
شهدت العلاقات بين تركيا والمملكة العربية السعودية فترة من التوتر الشديد بعد القتل الوحشي للصحفي السعودي جمال خاشقجي في أكتوبر/تشرين الأول 2018، و استغرق الأمر أربع سنوات حتى قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارة المملكة العربية السعودية أخيراً لحل أوجه الغموض السابقة بين الجانبين إلى حد ما.
لكن ليلة الجمعة، أظهر إلغاء مباراة كأس السوبر التركي في السعودية بسبب استخدام شعارات أتاتورك والاحتجاجات اللاحقة، أن جذور الخلافات بين البلدين أعمق مما كان يتصور، وأعلنت وسائل الإعلام أن سبب الإلغاء المفاجئ لهذه المباراة بين الفريقين التركيين لكرة القدم، هو منع السلطات السعودية ارتداء القمصان وحمل اللافتات التي تحمل صورة مصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة، من قبل لاعبي غلطة سراي و فنربخشة.
ويقال إن هذين الفريقين أرادا القيام بمثل هذا العمل بمناسبة مرور 100 عام على تأسيس الجمهورية التركية، إلا أن معارضة السعوديين تسببت في رفض أعضاء هذين الفريقين الحضور إلى الملعب رداً على لهذا القرار.
وحسب تقرير موقع "ت ار ت" سبورتس التركي، بعد عدة ساعات من المفاوضات المكثفة بين مسؤولي البلدين، تم الإعلان عن موافقة الاتحاد التركي لكرة القدم على عدم دخول بعض الرموز إلى الملعب.
وأدى الإعلان عن هذا الخبر في وسائل الإعلام إلى موجة من الاحتجاجات على شبكات التواصل الاجتماعي في تركيا، وأدى في النهاية إلى إلغاء المباراة، بعد الإعلان الرسمي عن إلغاء مباراة كأس السوبر التركي، وهتفت الجماهير الناطقة باللغة التركية المتواجدة في ملعب فيرست بارك بالرياض، والتي تكبدت تكاليف باهظة لرحلات الطيران والفنادق والتذاكر، "نحن جنود أتاتورك" أثناء مغادرتهم الملعب، ومن ناحية أخرى، رد السعوديون على هذه القضية برفع صوت الموسيقا، لكن هذا لم يكن نهاية القصة.
ولا يبدو أن السعوديين لديهم أي نية للتراجع في هذا الشأن، وطالب هذين الناديين الاتحاد السعودي لكرة القدم الآن بتعويض قدره 40 مليون دولار بسبب إلغاء المباراة، وأفادت بعض وسائل الإعلام التركية في تقارير لم يتم التأكد منها حتى الآن، بأن رجب طيب أردوغان، رئيس تركيا، طالب باستقالة رئيس الاتحاد التركي لكرة القدم بسبب إلغاء كأس السوبر في السعودية.
قد يكون إلغاء هذا الاجتماع والاشتباك مع تركيا مكلفًا بعض الشيء بالنسبة للسعوديين، فلقد لعبوا ذات مرة مثل هذه اللعبة الخطيرة مع جمال خاشقجي في 2 أكتوبر 2018، ودفعوا ثمن كل حروبهم وتدخلاتهم الإقليمية.
وفي تركيا، رفعت مجموعة من الأشخاص لافتات كتب عليها "تحيا الجمهورية" عليها صورة كمال أتاتورك أمام القنصلية السعودية العامة في تركيا.
وبعد ذلك، اضطر محمد بن سلمان إلى إنفاق عدة مليارات من الدولارات في صناعة كرة القدم وإنتاج الأفلام والتنمية الحضرية والسياحة وألعاب الكمبيوتر من أجل تبييض الصورة السوداء المسجلة عنه، ولهذا السبب اضطرت الرياض إلى تغيير سياسات الحكومة تجاه قطاعي الترفيه والسياحة وتخفيف قوانين الوهابية الصارمة والمحافظة على الساحة الاجتماعية، من بين جميع المجالات التي استثمر فيها محمد بن سلمان، تبرز كرة القدم أكثر من غيرها.
أنفق بن سلمان ما يقرب من ملياري دولار على الرياضة في أقل من خمس سنوات، لقد جعل الرياض تستضيف نهائيات بعض أهم المسابقات الكروية، لكن هذه المرة قد تزعج تركيا "الغسيل الرياضي" لابن سلمان، فهل تستطيع كرة القدم إحياء الصراع القديم والمتأصل بين الجانبين؟.
الخلفية التاريخية:
لدى العرب نظرة سيئة تجاه الأتراك لأنهم كانوا تحت الحكم العثماني لفترة طويلة، لقد امتلك العثمانيون العراق والشامات والحجاز واليمن وشمال أفريقيا في فترات زمنية مختلفة، وهو ما يعادل تقريبا العالم العربي بأكمله، الأجزاء الوحيدة من موريتانيا أو السودان التي كانت تعتبر عربية كانت بعيدة عن متناول العثمانيين، ومع ذلك، وصل الأتراك إلى شمال السودان في مرحلة ما، واستمر هذا الحكم لمدة خمسة قرون على الأقل في مناطق مثل الشامات ومصر والحجاز بشكل مباشر أو غير مباشر، ولذلك فإن أطول تاريخ استعماري للعرب يرتبط بالدولة العثمانية.
بالنسبة للعرب، الذين حكموا إمبراطوريات قوية لفترة طويلة بعد الإسلام، كان من غير المحتمل أن يسيطر عليهم شعب آخر بشكل كامل، وعليه، اتخذ العرب خلال الحرب العالمية الأولى خطوات للتعاون مع الدول الأوروبية مثل إنجلترا من أجل استعادة استقلالهم.
بجانب دول البلقان، كان العالم العربي القاعدة الثانية للإمبراطورية العثمانية للسيطرة على الشعوب غير التركية، وفي هذه الأثناء، لآل سعود أيضًا تاريخ دموي تجاه العثمانيين، وتعود هذه القضية إلى بداية القرن التاسع عشر عندما تمكن آل سعود من تشكيل حكومتهم لأول مرة.
لقد كان لآل سعود ثلاث حكومات حتى الآن، أطيح باثنتين منها، والآن تقوم الحكومة الثالثة لهذه العائلة، وكان سبب تشكيل الحكومة الأولى هو حرية العمل العالية في منطقة نجد لعدم جدواها في نظر العثمانيين وغيرهم من الحكام، وكانت هذه المنطقة الشاسعة ذات كثافة سكانية منخفضة، وبيئة مائية قاسية وشحيحة، ونائية ومعفاة من الضرائب، وجزء من سكانها قبائل صحراوية، وكان من الصعب والمهدر استعادة السيادة والحكم عليهم.
ولهذا السبب، بعد السيطرة على نجد، بسط السعوديون نفوذهم على النصف الجنوبي بأكمله، باستثناء اليمن ومناطق واسعة من عمان، وفي هذه الفترة، ومع الفساد والقتل الذي تعرض له سكان المناطق المفتوحة على يد السعوديين، الذين كانوا يعتبرون رعايا وأشخاصًا يعيشون في الدولة العثمانية، تم تسليم هذه الإمبراطورية حسب الواجب إلى "محمد علي باشا"، الذي حكم مصر بشكل شبه مستقل، وسمي أيضاً كأحد الولاة العثمانيين، وسُمح له بالزحف إلى شبه الجزيرة العربية، وبعد هذا الهجوم تم تدمير الحكومة السعودية الأولى.
وكاد حكم آل سعود أن يكون أول حركة استقلالية للعرب ضد العثمانيين، و قبل ذلك، كانت أي منطقة خرجت من الحكم العثماني، بما في ذلك الجزائر أو تونس، تخضع للاحتلال من قبل قوة أخرى مثل فرنسا، بدلاً من الحصول على الاستقلال عن الإمبراطورية التركية، وتم تشكيل آل سعود أو حصولهم على الاستقلال في منطقة كانت غير خاضعة للحكم بحكم الأمر الواقع ولكنها كانت رسميًا جزءًا من الأراضي العثمانية، ثم تحركت لغزو مناطق أخرى مثل الحجاز وحتى المناطق الجنوبية من العراق ، وفي نظر الأتراك، آل سعود هي أول حركة استقلالية للعرب ضد الدولة العثمانية، وفي نظر السعوديين، الأتراك هم أول المخربين والمدمرين لحكومتهم.
ولا يزال السعوديون يصرون على الاستقلال باعتباره سجلاً تاريخياً، حتى أنه منذ وقت ليس ببعيد، خلال زيارة بوتين إلى المملكة العربية السعودية، أكد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أن المملكة العربية السعودية لم تكن مستعمرة أبداً، معتمداً على هذا السجل.
ويستند هذا الادعاء في معظمه إلى عزلة العرب وحرية عملهم، وخاصة آل سعود في نجد، لأن الحجاز كانت تحت الحكم العثماني لفترة طويلة، ومن ناحية أخرى فإن حرية عمل العرب التي أكد عليها بن سلمان في نجد لتقديم السعودية كدولة غير مستعمرة مرفوضة لأن هذه المنطقة كانت جزءا من الإمبراطورية العثمانية على الخريطة وحافظوا عليها، وكانت سيطرتهم على هذه المنطقة على الأقل خلال فترة الانهيار الأول لحكومة آل سعود
حالات معاصرة:
ومن أهم الخلافات بين الرياض وأنقرة هو ادعاء القيادة على العالم الإسلامي، وعلى صعيد القيادة، تدعي تركيا أنها تأخذ زمام المبادرة في تطورات العالم الإسلامي، ويتطلع السعوديون من خلال موارد نفطية ضخمة لينفقوا مبالغ ضخمة في الدول الإسلامية لتحقيق استقرار هذه المكانة، و لقد وضع التنافس على زعامة العالم الإسلامي دولتين على طرفي نقيض في المجال نفسه.
ومن أجل التأثير على العالم العربي، وخاصة على أساس العثمانية الجديدة، واصلت تركيا دعم وجهات نظر الإخوان المسلمين في المنطقة لاستعادة المجد الماضي للإمبراطورية العثمانية، وكان هذا الرأي متناقضاً مع وجهة النظر المقاومة المنبثقة من إيران، وكذلك مع النزعة المحافظة المتجذرة في المملكة العربية السعودية، فالسعوديون، الذين كانوا أول حكومة عربية مستقلة ضد العثمانيين وكانوا يعتزمون تحرير الأراضي العربية الخاضعة للحكم التركي، لم يظهروا الكثير من الترحيب لتركيا، وقد خلقت المنافسات الإقليمية بين البلدين مشاهد بارزة في المنطقة، حيث كانت تركيا وقطر الداعمتين لجماعة الإخوان المسلمين الداعمتين للرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، و دعمت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع المصري، حتى يتمكن من الاستيلاء على السلطة عن طريق الانقلاب.
لكن بعد الانقلاب الفاشل في تركيا عام 2016، أصبحت العلاقات بين الجانبين أكثر برودة من ذي قبل؛ لأن تركيا حصلت على معلومات أظهرت أن السعودية والإمارات هما الداعمتان الماليتان لانقلاب القوات التابعة لفتح الله غولن.
نقطة تحول أخرى في هذه المنافسة كانت مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي وتذويبه بالأسيد، وهو الذي كان مقرباً من الإخوان بسبب آرائه المنتقدة لابن سلمان، حيث تم جره إلى القنصلية السعودية في إسطنبول عام 2018 ثم قُتل، ورأى البعض أن السعوديين من خلال خلق مثل هذا الحدث في تركيا، يقصدون إظهار مخالبهم وأسنانهم لأعدائهم، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، الذين اعتبروا أنفسهم بديلا للأنظمة السياسية في العالم العربي والإسلامي.
ولم يكن الاقتصاد التركي قط قويا مثل اقتصاد دولارات النفط السعودي من أجل جمع الدول الإسلامية مع أنقرة وتهميش الرياض، وهذه القضية جعلت الأتراك العثمانيين غير قادرين على أن تكون لهم اليد العليا، ولذلك، وبعد أن لم تصل أنقرة إلى أي مكان في سياسة دعم الإخوان في العالم العربي، اضطر أردوغان للذهاب إلى الرياض وإعادة بناء علاقاته مع السعودية من خلال إهداء سيارة "توك" تركية الصنع.
ارسال التعليق