العلاقات السعودية الاسرائيلية..الى التحالف ـ الجزء الاول
بقلم: د.فؤاد إبراهيم...
حين نستعرض سيرة العلاقات السعودية ـ الإسرائيلية نكون أمام سؤالين مفتاحيين وفي الوقت نفسه متداخلين:
ـ ليس سؤال العلاقة وجوداً وعدماً هو المطروح حالياً، بل المستوى الذي وصلت اليه، فما هو هذا المستوى؟
ـ وليس مستوى العلاقة الذي بلغته هو الجوهري، بل درجة الاستعلان لكل مستوى، فما هي درجة الكشف عن مستوى العلاقات بين الكيان السعودي والكيان الاسرائيلي؟
وبادىء ذي بدء، تفرض العلاقة الشائكة والمعقّدة والمحفوفة بكل أشكال السريّة، والريبة، والتوجيه بين الكيان السعودي والكيان الاسرائيلي حذراً شديداً في التعامل مع كل ما يتّصل بهذه العلاقة. هي دون ريب علاقة حبلى بكل ما هو عار، وتستوجب مكاشفة مفتوحة وملاحقة لكل ذيولها لأنها العلاقة الوحيدة التي تنسج بطريقة ذكية وتشارك فيها أطراف عدّة وتستهدف حقيقة "كي الوعي" العربي والاسلامي وصولاً الى بلوغ مرحلة التطبيع والتسليم. ليس من قبيل المصادفة أن تتظهّر العلاقة بين السعودية واسرائيل على وقع الانقسامات المتواصلة على قاعدة سياسية ومذهبية عربياً وإسلامياً. إن أخطر ما ينتجه تظهير العلاقة تلك إطاحة المفاهيم القومية والدينية التي أسست لوعي جمعي يكون فيه مجرد التفكير في الانفتاح على الكيان الاسرائيلي خيانة. في ظل غياب مرجعية قيمية راسخة أو عقب تدميرها سواء على قاعدة قومية عربية أو أممية إسلامية، يصبح ما كان يراه العرب والمسلمون خيانة بات اليوم خياراً سياسياً مشروعاً..إن التشظي الذي تعيشه الأمة على مستوى الوعي، وعلى مستوى علاقات الشعوب مع بعضها البعض بفعل السلاح الطائفي الفتّاك، وعلى مستوى الدول التي تزداد ترهّلاً ووهناً بعد الربيع العربي، يجعل من أي قيم عليا مجرد ذكريات لم يحسم بعد ما إذا كانت جميلة أم قبيحة..
لقد بات طرح ملف العلاقات السعودية الاسرائيلية شديد الإلحاح، لأنه يؤسس لمرحلة قادمة سوف تحمل في طياتها تهديدات على هوية، مسار، مصير الشعوب العربية. مستوى الشراكة الاستراتيجية الذي بلغته علاقة الرياض وتل أبيب ليس ناجماً عن تطوّر طبيعي لعلاقات الدول، وإنما، وفي هذه العلاقة على وجه الخصوص، كان الإرتجال آخر ما يمكن التفكير فيه، وإنما هي علاقة مدروسة بعناية فائقة..
سوف نعتمد هنا على ما ثبت في مصادر موثوقة سواء كانت وثائق أو مراجع عالية الثقة. على سبيل المثال، هناك أقاويل شتى عن مجالات تعاون وطلب مساعدة سواء في حرب اليمن في الستينيات، ولقاءات في فترات متفرّقة، وهناك من المصادر ما يكفي لإثبات ذلك ولكن سوف نؤجّل الكلام فيها وحولها في هذه المرحلة ريثما تتوافر معطيات أخرى تسندها. ولابد من التذكير الدائم بأن النظام السعودي وهو يمضى في إرساء روابط متينة مع الكيان الاسرائيلي يتلطى وراء السريّة والكتمان.
على سبيل المثال، نقلت صحيفة (يديعوت أحرونوت) في 26 نيسان (إبريل) سنة 2013 خبر لقاء جمع ولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز، الملك الحالي، ووزير الدفاع الاسرائيلي السابق إيهود باراك في مؤتمر وزراء الدفاع بألمانيا في شباط (فبراير) من العام نفسه. قصة اللقاء، بحسب رواية الصحيفة الاسرائيلية، أن الأمير سلمان كان يسير في رواق ومن خلفه مجموعة مستشارين ومساعدين وحُراس. ووقف فجأة منفصلاً عن المجموعة ليصافح بحرارة وزير الدفاع الاسرائيلي آنذاك ايهود باراك الذي مرَّ بجانبه. ووقف الحُراس من الطرفين حائرين حينما كان ربّا العمل يتحادثان كمن يبدوان على معرفة قديمة. وبعد دقائق معدودة ومصافحة وتسليم انفصلت الحاشيتان بعضهما عن بعض.
كادت أن تمر رواية (يديعوت أحرونوت) بهدوء، ولكن قيام صحيفة (السفير) بإعادة نشرها نقلاً عن الصحيفة الاسرائيلية، أجبر السفارة السعودية في بيروت في 29 نيسان 2013 على إصدار بيان تنفي فيه حصول اللقاء وقالت إنها "روايات ملفّقة"، وأكّد البيان بأن الأمير سلمان "لم يقم بأي زيارة الى ألمانيا في التاريخ الذي أوردته الصحيفة ولم يشارك في أي مؤتمر وأن كل ما تمّ حياكته حول هذه الزيارة هو من باب التضليل".
على أية حال، وفي ضوء هذا الخبر، نحن أمام ميلين متناقضين: الميل الاسرائيلي الى استعلان العلاقة طمعاً في تسريع مسار تطبيعها، والميل السعودي نحو الابقاء على سريّة العلاقة، وفي أحسن الأحوال التطبيع البطيء كما يجري حالياً.. ظهر هذان الميلان بوضوح في اللقاء الأخير الذي جمع يعقوب أميدور مستشار الأمن القومي الاسرائيلي السابق لرئيس الحكومة نتنياهو والأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات العامة في السعودية في 6 حزيران (يونيو) الجاري برعاية معهد واشنطن لدراسات الشرق الأقصى. تحدّث أميدور بما نصه: "إن هناك الكثير من اللقاءات غير الرسمية بين إسرائيل والسعودية، ضمن محاولات متعددة للوصول لمصالح مشتركة، والمساهمة في العلاقات مع الجيران، سواء كانوا فلسطينيين أم سواهم..". من جانبه، نفي الفيصل "حصول لقاءات رسمية ما لم توافق إسرائيل على حل الدولتين والالتزام بحدود الـ67، داعياً لعدم البناء كثيراً على هذا اللقاء". لقد بات معلوماً الغرض من لعبة الإثبات والنفي بين الطرفين، فهي تحقق تدريجياً ما هو مطلوب من تطبيع العلاقة بين الرياض وتل أبيب.
توطئة تاريخية:
في مؤتمر القاهرة في الفترة ما بين 12 ـ 23 آذار (مارس) 1921 بهدف إرساء سياسية بريطانية موحدة في الشرق الأوسط، في أعقاب إلإرباكات المتوالية التي أحدثتها مراسلات مكماهون سنة 1915 (مع الشريف حسين والتي تدور حول المستقبل السياسي للأراضي العربية في الشرق الأوسط)، ثم اتفاقية سايكس بيكو سنة 1916 وتالياً وعد بلفور سنة 1917. وزير المستعمرات الجديد حينذاك وينستون تشرشل استدعى القادة العسكريين والمدراء المدنيين في الشرق الأوسط لحضور المؤتمر واجتمع بهم في القاهرة، وتمّ الاتفاق على بقاء لبنان وسوريا تحت الإدارة الفرنسية، فيما تحافظ بريطانيا على الانتداب في فلسطين وصولاً الى تأسيس الوطني القومي لليهود. وتقرّر انهاء الحماية البريطانية في العراق وأن يصبح فيصل الأول ملكاً عليه، والابقاء على الدعم المالي لكل من الشريف حسين في مكة، والملك عبد العزيز في نجد.
بعد المؤتمر أرسل تشرشل الكولونيل لورانس، للقاء الشريف حسين وعرض هديّة سخيّة عليه للقبول بالمشروع البريطاني في فلسطين. وكان أول عرض مالي قدّمه لورانس للشريف هو 80 ألف روربية، ولكن الشريف رفض. ثم زاد لورانس في العرض المالي وكان عبارة عن 100 ألف جنيه استرليني سنوياً ولكن الشريف رفض المساومة وبيع فلسطين لليهود[1].
تسبّب قرار الشريف في خسارته مملكته، وهدّده لورانس بإطلاق العنان لجيش ابن سعود لاحتلال الحجاز، فيما بدأت بريطانيا بتخفيض المعونة المالية السنوية الى أن تمّ إيقافها بصورة كاملة فيما بعد. وفي آذار (مارس) 1924 قدّمت بريطانيا معونة مقطوعة مهّدت لحملة عسكرية واسعة على الحجاز انتهت بإطاحة حكم الشريف حسين وسيطرة عبد العزيز، الذي نال اعتراف بريطانيا في فبراير 1926، أي بعد شهر من استكماله السيطرة على الحجاز.
تدور الأيام، ويلتقي العرب في مؤتمر آخر ولكن هذه المرة في لندن في 7 شباط (فبراير) 1939 واستمر المؤتمر حتى منتصف آذار (مارس) من العام نفسه وأطلق عليه مؤتمر المائدة المستديرة، لمناقشة المسألة الفلسطينية واحتواء خطر الحرب. أوفد الملك عبد العزيز إبنه فيصل للمشاركة في المؤتمر، وحضره مندوبون من مصر وسوريا والعراق والاردن واليمن. كان المقترح البريطاني يقوم على الجمع بين اليهود والعرب في جولات نقاش منفصلة، فيما كان الموقف الفلسطيني المبدئي يقوم على إقامة حكومة وطنية عربية في فلسطين، ووقف تام للهجرة اليهودية، وحظر بيع الأراضي لليهود، ومنح الحقوق الكاملة للأقلية اليهودية في فلسطين. ديفيد بن غوريون، رئيس الوكالة اليهودية حينذاك، طرح أربعة مبادىء لاستراتيجية التفاوض بين اليهود والعرب تنسف الخطوط الحمر الفلسطينية كافة وعلى رأسها مسألة الهجرة اليهودية الى فلسطين والوطن القومي لليهود.
لقاءات سريّة جمعت ممثلين عن الملك عبد العزيز وكبار المسؤولين الصهاينة حينذاك مثل ديفيد بن غوريون، ووزير خارجيته موشيه شاريت، وحاييم وايزمان أول رئيس لدولة إسرائيل، على هامش اجتماعات المائدة المستديرة. التقى فؤاد حمزة، المستشار المقرّب من الملك عبد العزيز وأول سفير سعودي ووزير مفوّض في باريس ثم أنقره، حاييم وايزمان بدعوة من جيمس روتشيلد، من عائلة روتشيلد اليهودية والداعمة لمشروع الدولة العبرية، لمناقشة مقترحات تقدّم بها الجانبان اليهودي والسعودي. الرواية السعودية تضع اللقاء في سياق آخر، وأن فؤاد حمزة يحضر اللقاء بصفته الفلسطينية وليس السعودية. ذات الرواية تتكرر اليوم بنفي الصفة الرسمية عن لقاءات الأمير تركي الفيصل بالمسؤوليين الاسرائيليين.
ديفيد بن غوريون، رئيس الوكالة اليهودية حتى عام 1943 وأحد مؤسسي الكيان الاسرائيلي، وأول رئيس وزراء فيه، أفصح ذات لقاء في لندن مع مستشار الملك عبد العزيز، حافظ وهبة، أول مفوّض من وزارة الخارجية السعودية سنة 1930، في ثلاثينيات القرن الماضي بأن "آل سعود وحدهم قادرون على التأثير على المصالحة التاريخية بين العرب واليهود في فلسطين"، كما يذكر ذلك ميخائيل كهانوف في كتابه بعنوان "السعودية والصراع في فلسطين" الصادر سنة 2008 ضمن اطروحات الدكتوراه عن جامعة تل أبيب.
في الأرشيف الوطني البريطاني وثيقة بعنوان (هجرة اليهود الرومانيين)، تتعلق بمفاوضات بين الرئيس الاسرائيلي حاييم وايزمان والمبعوث الخاص للرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت، الكولونيل هوسكينس وجون فيلبي وعبد العزيز بن سعود. وتذكر وثيقتان محفوظتان في الأرشيف القومي البريطاني في سنة 1943 وهما بحسب التسلسل: CO 733/443/18 ،CO 733/443/19 بما نصّهما:
اقترح الاكاديمي والمتخصص في الشؤون العربية هاري سانت جون فيلي (والد الجاسوس السوفياتي كيم فيليبي) تسليم الأراضي الفلسطينية لليهود في مقابل تعويض بمبلغ 20 مليون جنيه استرليني (نحو 32 مليون دولار). وكانت المؤامرة والمفاوضات السرية تدور بين فيليبي وعبد العزيز ابن سعود (ملك السعودية)، وحاييم وايزمان (رئيس الوكالة اليهودية في فلسطين ولاحقاً أول رئيس للدولة الاسرائيلية)، والكولونيل هوسكنس (المبعوث الخاص لرئيس الولايات المتحدة فرانكلين روزفلت الى الشرق الأوسط)، وروزفلت نفسه أيضاً. ولكن، وبعد أن قام فيليبي بتسريب خبر الصفقة الى قادة عرب آخرين، انسحب ابن سعود من المفاوضات ونفى أي علاقة سابقة له في الموضوع.
تحدّث ميخائيل كهانوف عن تباين في وجهات النظر الاسرائيلية حيال ابن سعود. موشيه شاريت الذي كان مسؤولا عن الشؤون السياسية في الوكالة اليهودية والمسؤول عن قسم العربية، كان يعتقد بأن ليس هناك أي وسيلة للتوصل إلى تسوية مع ابن سعود لأنه كان رجل من الصحراء وهو وهابي متطرف متعصب. حاييم وايزمان كان لديه رأي مخالف تماماً. فبناء على ثقته في قدرته على التوصل إلى تسوية مع ابن سعود، حاول إشراك البريطانيين والأميركيين في خطة بدأها سانت جون فيلبي. يشرح كهانوف قصة الـ 20 مليون جنيه استرليني التي قدّمت لابن سعود لقاء بيع فلسطين، ويقول بأن ثمة خطة مقترحة تفيد بإقامة منطقة حكم ذاتي يهودي يتم تضمينها في اتحاد عربي برئاسة بن سعود. وأشير إلى أن ينقل اليهود 20 مليون جنيه استرليني لابن سعود لتنفيذ الخطة. فشلت الخطة بسبب الأخطاء التكتيكية في تنفيذه، ولأن المنطقة لم تكن جاهزة لقبول فكرة الاتحاد العربي بقيادة ابن سعود. وأدى ذلك في النهاية إلى تفاقم موقف بن سعود تجاه اليهود عندما رأى هذه الخطة بأنها محاولة من قبل اليهود لتقديم رشوة له. التقى بن غوريون مع مسؤولون في الحكومة السعودية أكثر من القادة الصهاينة الآخرين ولكن من دون نتيجة.
وكان بن غوريون يرى لزاماً تعزيز اليشوف أولاً. عندها فقط يمكن إجراء محاولة للتوصل إلى تسوية مع العرب مع الحفاظ على الاستقلال السياسي اليهودي.
حافظت الوكالة اليهودية على علاقات وثيقة مع عبد الله عاهل إمارة شرق الأردن، الذي كان على استعداد لقبول بعض مطالب الصهاينة، على أساس تفاهم يقوم على أن يحكم هو الجزء العربي من فلسطين. وهذه الصفقات كانت معلومة لابن سعود وبقدر معرفته بها، فإنه استبعد أن تكون القيادة الصهيونية شريكاً في أي اتفاق. وعلى الرغم من الاتصالات على مختلف المستويات، ومحاولات وساطة، رفض ابن سعود أي اتصال مباشر مع أي ممثل اليهودي.
وقال إن الادارة العربية في الوكالة اليهودية لا توصي بسياسة إقليمية شاملة لمعظم هذه الفترة الزمنية. وتضمنت سياسة بن سعود العناصر التي يمكن أن تكون بمثابة أساس للتوصل إلى تسوية مع اليشوف:
1. يعترف بأن المفتاح لإيجاد حل للنزاع في المنطقة هو بيد القوى العظمى. وكان واضحاً بالنسبة له أن كلاً من بريطانيا العظمى والولايات المتحدة لن تقبلا جميع المطالب الفلسطينية وتجاهل قوة اليشوف والشتات اليهودي.
2. الحفاظ على الاستقرار في المنطقة ومنع النزاعات كان هدفاً رئيسياً لسياسته.
3. المستوطنات اليهودية في فلسطين من شأنها أن تمنع عبد الله من الاستيلاء على الأرض بأكملها.
4. ابن سعود كان يعرف أهمية الحدود بين الدول. على الرغم من هذا، فانه قبل لفترة طويلة أن تبقى بلاده بدون حدود ثابتة. واعترف بأن الاتفاقات المؤقتة يمكن أن توفر الاستقرار. (كان هذا هو الحال في شرق السعودية وكذلك الحدود مع الأردن. السعودية لم تعترف بمنطقة العقبةـ معان كجزء من الأردن إلا بعد وفاة ابن سعود).
5. يعرف بن سعود سلفاً الخصومات والخلافات بين العرب. كان يعرف بأن قوتهم العسكرية محدودة ومنقسمة. وأن كل زعيم عربي يتصرف وفقا لمصالحه الخاصة.
6. كان ابن سعود أولاً وقبل كل شيء زعيماً سياسياً. على هذا النحو، تبنى سياسة "الواقعية السياسية"، والاستعداد العملي لقبول الواقع.---------------------------------------------[1] Askar H. al-Enazy, “ The Creation of Saudi Arabia: Ibn Saud and British Imperial Policy, 1914-1927” (London: Routledge, 2010), p. 105-106, 109, 111
ارسال التعليق