باراك أوباما والعائلة الحاكمة: It’s Complicated
الرئيس في أميركا قبل الانتخابات يكون قديساً وغاية الحملة الانتخابية أن يلعب المرّشح دور المخلّص. لكن بعد الانتخابات، الرئيس يصير رئيساً. ليس مضطراً لأن يكون قديساً بعد ذلك. ذات يومٍ في شيكاغو، وقف باراك أوباما معترضاً على حرب جورج بوش: «بريزدنت بوش، تريد حرباً؟ فلتكن حرباً لنوقف حلفاءنا المفترضين في الشرق الأوسط، السعوديين والمصريين، من اضطهاد شعوبهم، وقمعهم للمعارضة، وتغاضيهم عن الفساد واللامساواة».
هذا الجانب المضيء من الليبرالية الأميركية يتراجع تدريجاً بعد الوصول، وتلعب الصحافة دوراً هاماً في اللعبة الأميركية دائماً. اللافت أن فكرة «عصر ذهبي ديموقراطي» مرتبطة دائماً بمسألة نمو الصحافة في الولايات المتحدة الأميركية، حسب الباحث مايكل شودسون، أستاذ تاريخ سوسيولوجيا الإعلام. إن هذا العصر يجب أن يكون مدعوماً دائماً بأولوية الأهداف المدنية للمشاركة السياسية على حساب الضرورات التجارية. مهلاً، حسب شودسون «هذه فكرة ميثولوجية». وفي الوقت نفسه، إنها فكرة تصلح لأن تكون مدخلاً لمقاربة العلاقات الأميركية ــ السعودية في إعلام الأولى، ورغبات الثانية.
أخيراً، وفي مقابلة طويلة نسبية مع صحيفة «أتلانتيك»، فاجأ أوباما الجميع بتجديد مواقفه السلبية من «السعوديين». المواقف التي نامت طوال سنوات ولايتيه. سأله جيفري غولدبرغ، عن «الحجاب الأندونيسي». غولدبرغ يقارب موضوع الحجاب «استشراقياً»، بمعنى أنه حدث «سيئ» دائماً. كانت إجابة أوباما غير متوقعة... حدث ذلك «لأن السعوديين ودولاً خليجية أخرى، ضخوا الأموال، إضافة إلى أعداد كبيرة من الأئمة والمعلمين في اندونيسيا. في التسعينيات، مول السعوديون بكثافة المدارس الوهابية التي تعلم نسخة أصولية من الإسلام، مفضلة من العائلة السعودية الحاكمة». اليوم، الإسلام في اندونيسيا أصبح «أكثر عربيةً» عما كان عليه عندما عاش أوباما هو نفسه هناك. ما يقوله أوباما ليس مفرحاً في جميع الحالات. أولاً، تعميم الحالة الوهابية العربية بصورتها الحالية على العالم العربي، ليس دقيقاً. ثانياً، الحركة الوهابية نفسها، لا تقارب عشوائياً من دون النظر إلى تاريخها، بحيث أنها في فترة من الفترات كانت حركة «تحديثية» في شبه الجزيرة العربية. وهذا عصي على التصديق على كثيرين اليوم. ثالثاً، انتقادات أوباما للسلوك الأصولي الوهابي، أين تُصرف؟ في دعمه للحرب على اليمن، أو في موقف أميركا الملتبس من «جيش الإسلام» في سوريا؟ يسأله الصحافي، أليسوا أصدقاءك؟ يجيب: «It›s Complicated». أوباما نفسه في أكثر من مناسبة يقول، إن «نجاح المجتمعات يقاس بكيفية معاملة النساء فيه» ــ وعليه أن يلتقط أنفاسه هنا قليلاً ــ فدونالد ترامب خلفه. أوضاع النساء في أميركا ليست مثالية، وثانياً، أوباما، مثل أي رئيس أميركي آخر، لا يرغب في التخلي عن الحلفاء التقليديين. في «أوساط» البيت الأبيض والإعلام الأميركي عموماً، ثمة تذكير، فكرة عابرة، جدية أحياناً، وأحياناً تستخدم لابتزاز المسلمين، عبر إلصاق هؤلاء جميعهم بالسعوديين، مفادها أن الخاطفين في 11 أيلول لم يكن بينهم إيرانيون، بل كانوا سعوديين. ولا يخفى على أحد، أن ثمة نظرية سائدة تقول إن ثمة تمييزاً في الإعلام الغربي، بين «الخمينية» وتشعباتها الثقافية وبين حكم الملالي من جهة، مقابل نظرة أكثر شمولية إلى النظام السعودي. «التلغراف» و«التايمز» البريطانيتان، الصحيفتان اليمينيتان، متساهلتان مع السعودية قليلاً، وأكثر ميلاً لعلاقات «طبيعية» مع المملكة ومع طبيعتها، ولكنهما لا توفران الشعب السعودي من المواقف المتعالية، ذلك أن هذه النظرة الإعلامية غرباً تقوم على متضادين: المصلحة السياسية الغربية مع السعودية، والنظرة الساذجة إلى السعوديين، تستند إلى مرتكزات «استشراقية». هذه النكتة السمجة عن أن العرب في السينما الأميركية يركبون الجمال دائماً ويعيشون في صحراء ما زالت تطبع تعليقات الصحف الغربية على أي تصرف سعودي «أميري» في أوروبا، وتعممه على جميع السعوديين. قبل أسابيع، أتحف الكاتب الإنكليزي المقيم في بيروت روبرت فيسك القراء بمقالٍ استشراقي باهر في الـ «اندبندنت»، اعتبر فيه أن اللبنانيين حافظوا على بلادهم من الحرب المشتعلة في المنطقة، لأنهم «متعلمون جيداً»، ولأنهم ذهبوا إلى «باريس ونيويورك وجنيف»، على عكس بقية العرب. وهذا رأي يشاركه فيه ليبراليون سذج. وحديث فيسك هذا، كارثي منهجياً، وخاطئ إلى درجةٍ توازي الفهم الغربي للمجتمع السعودي وطبيعته الإثنولوجية. وفي هذه الحال، ليس هناك مرجعاً أفضل من إدوارد سعيد، لانتشال العرب من موقع الاستلاب الذي يضعهم الإعلام الغربي فيه. يرى سعيد أن «ثمة إجماعاً حول الإسلام باعتباره كبش فداء لكل ما لا يروق لنا من أنماط سياسية واقتصادية جديدة في العالم». ويتابع على حسابات زمانه التي ما زالت صالحة: «بالنسبة لليمين، يمثل الإسلام الهمجية، وبالنسبة لليسار يمثل الثيوقراطية في العصر الوسيط، أما بالنسبة للوسط فهو يمثل نوعاً من الغرائبية الممجوجة. إلا أن ما يربط هؤلاء جميعاً أنه رغم أن نزراً يسيراً فقط معروف عن العالم الإسلامي، فلا يوجد هناك الكثير الجدير برضى الغرب ومباركته».
Its Complicated حسب أوباما. لكن في مقالٍ قديم له في جريدة «لوموند» بعنوان «روح الإرهاب»، تعليقاً على أحداث 11 أيلول، كان جان بودريار قد فكك حيرة أوباما قبل وقوعها، عندما قال إن «الإرهاب لا أخلاقي. وحدث المركز العالمي للتجارة، هذا التحدي الرمزي، لا أخلاقي، ويردّ على عولمة هي الأخرى لا أخلاقية». التحليل البودرياري يحاول الوصول إلى ما وراء الخير والشر، بما أن الحدث لا يتحدى الأخلاق وحسب، بل كل أشكال التأويل أيضاً. وبهذا، كان يردّ على «خفة» الإعلام الغربي المقصودة في التعامل مع العريف الجديد للإرهاب، الذي صُدّق في عصرنا بمجرد وقوع أحداث 11 أيلول، ودخل مذاك إلى المجال العام.
هل قلت «نزاع» في اليمن؟
نستنتج من قراءة مؤرخي التاريخ الثقافي والتاريخ الاستعماري، مثل دونالد لاش، على سبيل المثال لا الحصر، أن الاهتمام الأوروبي بالثقافات غير الغربية قد قام في الأصل استناداً إلى مواجهات واقعية حدثت مع تلك الثقافات، نتيجة للتجارة، أو للغزوات. تنعكس هذه القراءة على البعد الإعلامي الغربي المعاصر أثناء تطرقه إلى المشهد الشرقي. الهاجس الأساسي، أخيراً، للصحافة الغربية، هو «تمييز» الرأي الغربي الرسمي عن أي تصرف سعودي، يتعارض مع «الأخلاق الغربية» التي ورثت الأخلاق على مقياس جينالوجي. «سي أن أن» مثلاً، مثل كثير من المؤسسات الإعلامية، عنونت بعد مجزرة القاع في اليمن، أنه «ليس هناك شيك على بياض للسعودية في اليمن». لا إشارة إلى وجود حرب على اليمن، اعتداء على اليمن، أو مجازر تتكاثر في اليمن. هناك إشارة واضحة، في العنوان، إلى «حدود» للقبول الغربي بالوحشية السعودية في اليمن. «سي أن أن» تعتبر أن ما يحدث في اليمن هو «نزاع». ما يشي بوجود طرفين، متكافئين، أو على الأقل يجب الحديث عن معالم واضحة لوجود نزاع، غير أن ما يحدث في اليمن، هو حرب سعودية ضدّ مدنيين غالباً، وفي أحسن الأحوال ضدّ جماعة مسلّحة يمنية لا سعودية. وهذا «النزاع» الذي تتحدث عنه «سي أن أن»، وفق ما تقول... «قتل 10 آلاف يمني حسب الأمم المتحدة». ومن البديهي أن يفترض القارئ، أن مسؤولية قتل هذا العدد الكبير، في حالة وجود «نزاع» تعود بنسبة «متعادلة»، أو فلنقل «متبادلة» بين طرفي «النزاع» المفترض. لكن الحقائق عكس ذلك تماماً. هناك حرب على اليمن، وقلق «واشنطن بوست» من أن تكون السعودية استخدمت الفوسفور الأبيض في حربها على اليمن في مكانه. ولا بد من إشارة ضرورية هنا، إلى أن الحديث عن الإعلام الغربي، المكتوب، يوجب التنبيه إلى أن تفكيك الخبر لغوياً ليس كافياً. في أحسن الحالات الفيلولوجيا ليست علماً كلياً، ولا يمكن الرجوع إليها رجوعاً نهائياً لتحليل الخبر «الغربي»، من دون دراسة هذه المسائل دراسة تراعي المسألة السيميائية وتفككها.
غير أن ثمة ميلاً إلى الفيلولوجيا لا تمكن مقاومته عند استعراض الخبر السعودي في الإعلام الغربي. بريطانيا، حسب الـ «اندبندنت» هي واحدة من أكبر مزودي النظام السعودي بالأسلحة منذ 40 عاماً، ولا سيما «اتفاق اليمامة». وما يلفت في صياغة الخبر بالإنكليزية، استخدام مصطلح «النظام السعودي»، لا «الحكومة السعودية» أو «المملكة السعودية»، مما يمكن اعتباره تلميحاً إلى طبيعة الحكم التوتاليتاري في المملكة. ولكن عندما تقول الـ «إندبندنت» إنّ الشريعة الإسلامية هي المطبقة في السعودية، فهي تقولها في معرض «استشراقي»، بلا أي شرح عن الشريحة وماهيتها وكيفية تطويرها والاجتهادات المتاحة فيها. تعرضها كلوحة من الماضي. وإن افترضنا أن منهج إدوارد سعيد ليس صالحاً لتفنيد العقل الصحافي الغربي في تعاطيه مع المسألة السعودية، يمكن الاستعانة ببيار بورديو، الأكثر تخصصاً في الإعلام والأقل إيغالاً في الخصوصية الشرقية بالنسبة إلى الغرب كسعيد. يشبّه بورديو الصحافيين بأنهم «نظارات» خاصة يرون بواسطتها أشياء معينة ولا يرون الأشياء الأخرى، كما أنهم يرون هذه الأشياء بطريقة معينة. إنهم يمارسون عملية اختيار ثم عملية إعادة تركيب لذلك الذي يتم اختياره. يمكننا الحديث هنا، عن معلومات قيمة تمررها «واشنطن بوست»، وتكتسب «مصداقية» عند القارئ العادي (العربي)، لأنها تمر في «واشنطن بوست»: منذ أصبح رئيساً في 2009، أنهت إدارة أوباما صفقات بقيمة 115 مليار دولار أميركي مع السعودية، وتحديداً 42 صفقة. هذه القيمة، تتجاوز أي قيمة أخرى في عهود سابقة. الأرقام متوافرة وموثقة في تقرير لـ«مرصد المساعدة الأمنية» الأميركي. ووفق صحيفة أخرى، من بين 47 شخصاً أعدموا في كانون الثاني (يناير) الفائت، 4 كانوا دون الـ 18 عاماً، إضافة إلى كلام تقليدي عن «الأقلية الشيعية»، والأقليات الأخرى، في المملكة التي «يحكمها السنة». مهلاً، السُنة؟ من هم السُنة؟ ليسوا الذين يحكمون السعودية أبداً. وبإمكاننا أن نراجع مقابلة الرئيس باراك أوباما مع «أتلانتيك»!
بقلم : احمد محسن
ارسال التعليق