حسابات التقارب بين الرياض وأنقرة
بقلم: يارا بليبل...
في العام 2002، مع وصول عبد الله غول إلى سدة رئاسة الوزراء في تركيا وبوصفه أول من تولى هذا المنصب من حزب العدالة والتنمية، قرر غول تدشين علاقات بلاده والجوار العربي من البوابة السوريّة، وذلك على الرغم من أن عبد الله غول كان قد عمل في جدة في البنك الإسلامي لثمانية سنوات كخبير اقتصادي. وفي مشهد يتم قياسه اليوم كمتغيّر في مقاربة الحزب التركي، مع تولي رجب طيب أردوغان رئاسة الوزارء خلفا لغول في مارس/آذار 2003، حيث أقدم وخلافا لسلفه على زيارة "السعودية" في 7 يناير/ كانون الثاني 2004، وتلت هذه الخطوة زيارة للرئيس السوري بشار الأسد إلى تركيا في الرابع من يناير/ كانون الثاني 2004، أي قبل 3 أيام من زيارة أردوغان إلى "المملكة".
تبنى إردوغان خلال الفترة التي سبقت ما يسمى "الربيع العربي"، سياسة تقوم على الانفتاح مع دول الجوار العربي، مستهلا إياها من الجارة السورية. ومع انطلاق عدوى التحركات الشعبية فتحت أنقرة صفحة جديدة تخلت فيها عن سياسة صفر مشاكل حيث تعاونت ودول المنطقة على التنسيق للإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد. حيث جرى ذلك باعتراف وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم، في 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، أنها جميعا ( دول الخليج وتركيا مدعومة من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا) اتفقت على اصطياد الصيدة، وآليات نقل الأموال والأسلحة والمسلحين الإرهابيين من جميع أنحاء العالم إلى سوريا عبر الحدود التركية.
جاء انقلاب عبد الفتاح السيسي على الرئيس المصري السابق محمد مرسي في 2 يوليو/ تموز 2013 ليضع الرئيس التركي أمام تحديات جديدة، سيّما بعد أن أعلنت الرياض وأبو ظبي والمنامة تأييدها للرئيس الجديد، بالتوازي مع إعلانهم "الإخوان المسلمين" تنظيما إرهابيا، الأمر الذي أزعج أردوغان ودفعه لتبني المزيد من التنسيق والتعاون مع قطر.
اكتسبت مرحلة الفتور بين أنقرة والعواصم العربية (الرياض، أبو ظبي، المنامة والقاهرة) سخونة أكبر بالتوازي مع قرار إرسال أردوغان قوات تركية إلى قطر في يونيو/ حزيران 2017 بعد أزمة حصار الدوحة التي امتدت لحوالي أربع سنوات، لم توفر من خلالها الرياض بابا للإجهاز على "صمود" الدوحة، والتي شكلت كل من إيران وتركيا أحد روافعه، مع اختلاف المآرب المبتغاة.
لا بدّ والقول أن الاعتراف الضمني للرياض بعدم جدوى الحصار على الدوحة، وأن استمراره سمح لكل من طهران وأنقرة من تحسين روابطهم والعاصمة القطرية والاستثمار في الأزمة، دون أن تجني الرياض وأبو ظبي وتابعيهما أي نتائج ملموسة من همجية وتعنت الثنائي محمد بن سلمان ومحمد بن زايد.
مضى عام على الانفتاح التركي على دول المنطقة، حيث أقدم أردوغان، 7 أبريل/نيسان الماضي، في خطوة سبقت زيارته إلى "المملكة" على تحويل ملف قتل الصحافي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول إلى القضاء السعودي.
وفي هذا السياق، يعزو كثيرون انعطافة تركيا نحو إصلاح علاقاتها مع خصومها الإقليميين السابقين، بما فيهم السعودية، إلى حاجة أردوغان لتحسين العلاقات الاقتصادية مع الدول الخليجية من أجل مواجهة الصعوبات التي تُعانيها بلاده مع اقترابها من انتخابات رئاسية وبرلمانية حاسمة العام المقبل.
يبدو هذا التفسير منطقيا بالنظر إلى الأهمية التي يُمثلها التعاون التجاري والاقتصادي لتركيا مع "دول الخليج"، مع الأخذ بعين الاعتبار أن العامل الاقتصادي نفسه شكل حافزا لدى الإمارات و"السعودية" لإنهاء الأزمة مع تركيا، حيث تنظر كل من الرياض وأبو ظبي إلى المكانة المهمة التي تكتسبها تركيا على صعيد طرق التجارة الجديدة وإمدادات الطاقة العالمية، فضلا عن كونها سوقا واعدة للاستثمارات. على غرار عملية المصالحة مع الإمارات، يُشكل الاقتصاد بوابة للمصالحة التركية مع "السعودية" حيث بدت الاستجابة الأولية "السعودية" على شكل إغراءات اقتصادية مع اعتزام "المملكة" تكثيف مشترياتها من السلع التركية وإعادة الصادرات التركية إليها إلى طبيعتها بمُجرد إعلان البلدين تحسين العلاقات بعدما تراجعت بشكل حاد خلال سنوات الأزمة. علاوة على ذلك، تدفع التحديات التي فرضها فيروس كورونا على اقتصادات المنطقة دولها، بما فيها تركيا والسعودية، إلى إعادة تركيز أولوياتها الخارجية للتعافي من تداعيات الوباء.
من جهته، يستبعد حسني محلي كون هذه الانعطافة سببها اقتصادي. معتبراً أن أردوغان بجولاته الأخيرة يسعى لإقامة علاقات استراتيجية مع الكيان الصهيوني، مستشهداً بوصف الرئيس التركي للأعمال الفدائية الفلسطينية بـ"الأعمال الإرهابية" خلال إتصاله بالرئيس الصهيوني إسحاق هرتسوغ والتي أتت على خلفية العملية البطولية في "تل أبيب:. ما يعني، بحسب محلي، أن الموضوع أكبر من حسابات اقتصادية، بل "هناك مخطط إقليمي صهيوني بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا لإعادة صياغة أوراق المنطقة من جديد قبل وبعد الاتفاق النووي، في حال تم التوقيع عليه".
ربطا بما ورد، تأتي زيارة محمد بن سلمان إلى تركيا في 22 من الشهر الحالي كخطوة مكمّلة لسياق يراد له أن يكون جامع لكافة الأطراف المعادية لمحور المقاومة، الأمر الذي يتطلب رأبا للصدع بين جميع الأطراف على اختلاف الندوب وعمقها. ويبجو كسياسة تحوّط من لحظة غدر أميركية غير مستبعدة، شبيهة بتلك التي واجههم بها باراك أوباما في العام 2015 بتوقيعه للاتفاق النووي مع إيران. وإذ يتعزز هذا السيناريو مع استعداد أردوغان لزيارة "تل أبيب" وضغطه باتجاه الحصول على موافقة من نفتالي بينيت برَدِها قبيل موعد الانتخابات الرئاسية. بالتوازي مع الحديث عن قرب التطبيع بين "السعودية" والكيان المحتل، وزيارة الرئيس الأميركي جو بايدن المرتقبة للكيانين ضمن جولته الشرق أوسطية الشهر القادم.
إن التعاون السياسي بين كل من الرياض وأنقرة مدفوعا بشكل رئيسي برغبة الطرفين في "التعاون" الإقليمي و"لمّ الشمل" لاحتواء النفوذ الإيراني ووضع إطار جديد لآليات المواجهة تحاكي واقع الانتصارات المسجلة في اليمن وسوريا ولبنان.
ارسال التعليق