«دين إبراهيمي» أم خدعة استعماريّة
بقلم: نايف سلوم/ كاتب سوري
[يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِه ۚأَفَلَا تَعْقِلُونَ(65) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِيّاً وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) [آل عمران]
ثمّةَ زعمٌ لاقى نصيباً من الرواج في «الغرب»، ومؤدّاه أن لا فلسفة ولا تصوّف (ولا غنوص) في القرآن، وأنّ الفلاسفة والمتصوّفين لا يدينون للقرآن بشيء لقد انضم القرآن إلى الديانات الكتابية (اليهود، النصارى، الزرادشتيون المجوس، الصابئة)؛ صابئة القرآن لا صابئة حرّان وهم الذين يقول فيهم هنري كوربان: «أما الذين تسمّوا بصابئة حرّان فكانوا أقل حظاً».
للزرادشتية ــ المجوسية كتاب الابستاق Avesta كتاب زرادشت (الكتاب الأول) وشرحه (الكتاب الثاني مثنا) الزيندا أفيستا zenda avesta وهذا مشابه للتوراة (تناخ) وشروحه في التلمود (مشنا) البابلي والفلسطيني (كتاب أول وكتاب ثان للشرح)، ما يمكن مقارنته مع القرآن والحديث.
ثمّة بعض الأمور المشتركة في المسائل التي طرحها البحث عن المعنى الحقيقي (غنوص) باعتباره المعنى الروحي الباطني في المسيحية وفي الإسلام، في تفسير الأناجيل وفي تفسير القرآن على التوالي. ولكن تبقى بين الفريقَين بعض الاختلافات العميقة (هو اختلاف بين مسيحيّة رسمية مكرّسة متواطئة مع الإمبراطورية الغربية، وإسلام متمرّد (غنوصي الطابع) يطمح لبناء دولة من طراز جديد على درب الاسكندر المقدوني. في تسلُّم لكامل التراث الغنوصي العالمي اعتباراً من زرادشت مروراً بهيراقليطس وأفلاطون وأرسطو وسقراط والرواقية وفيلون الاسكندري والفيثاغورية المحدثة والهرمسية وأفلوطين وتلامذته العظام.
يمكن أن يكون بين الجهل العلمي والمعرفة (الغنوص) تدرّج كامل، رُبّما أوصلتنا إلى كثرة من المعاني الروحية.
«العلم» بالمعنى التجريبي هو المعنى غير الروحي (هنا لا يوجد اشتراط الإيمان ولا اشتراط الربط على القلب) والغنوص هو المعنى والمآل الروحي لكمال العلم الذي (استحال) إيماناً، وبالتالي وجد تكملته العملية التاريخية-الاجتماعية السياسية. «إن تعيين المعنى الروحي على أنّه غاية نريد بلوغها، يتضمن إضماراً مفاده أن ثمة معنى ليس بالمعنى الروحي، وأنّه يمكن أن يكون بين هذا وذاك تدرّج كامل رُبّما أوصلنا في النهاية إلى كثرة من المعاني الروحية» وهكذا نفهم وجود أنبياء صغار وأنبياء كبار لدى اليهود.
يقول كوربان: أول ما تقتضي الإشارة إليه هو غياب ظاهرة الكنيسة في الإسلام، وعدم وجود أكليروس يتسلّط على وسائل النعمة، فليس في الإسلام جمود عقائدي ولا سلطة حَبْريّة ولا مجمع (مؤتمر) يحدد العقائد(رغم بعض المحاولات كروابط علماء المسلمين وغيرها كالأزهر في مصر)، على عكس ما حدث للمسيحية، من هنا تمرّد الإسلام على كل سلطة دينية تعمل على احتكار التأويل: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)[آل عمران:7] فقد حلّ الجمود العقائدي في المسيحية منذ أن كبحت وكبتت الحركة المونتانية في القرن الثاني للميلاد، محل الإلهام النبوي، ومحل التأويل الروحي بشكل عام. من جهة ثانية إنّ تفتّح ونهضة الوعي المسيحي يعتبر إعلاناً ليقظة الوعي التاريخي في المسيحية. ولقد تركّز الفكر المسيحي على أمر حدث في السنة الأولى للميلاد. لقد سجّل التجسّد الإلهي دخول الله في التاريخ، فأصبح كل ما ينقله الوعي الديني نتيجة لذلك (الدين التاريخي) وعياً تاريخياً متمثّلاً بمعنى النص، وهو المعنى الحقيقي للكتابات المقدسة، أو الفكر المؤسِّس. وقد خلطت الكنيسة المكرّسة الرسمية هذا التاريخ الإلهي المؤسِّس، بالتاريخ الدنيوي للإمبراطورية، وحوّلت الدين الاجتماعي - التاريخي (ديانات الأنبياء) إلى دين وظيفي في خدمة السلطات القائمة.
سيكون لنا أن نتساءل إلى أيّ حد كانت ظاهرة الكنيسة في أشكالها الرسمية على الأقل، شريكة في تسلّط الملكة الوظيفية النفعية (الدنيوية الإمبراطورية) للدين «التاريخي»، وفي تسلُّط المعنى الحَرْفيّ للنصوص؛ «وظيفية» قائمة على انحطاط الإمبراطوريات الغربية اليونانية - الرومانية والذي أدّى إلى الخلط ما بين الاستعارة من جهة وبين الرمز والكناية والتمثيل من جهة أخرى.
في هذا التسلُّط ظهر كما لو كان البحث عن المعنى الروحاني ضرباً من المجازفة (الهرطقة)، في حين أن الأمر يختلف تماماً، فالاستعارة نظرة مسالمة تشبيهية، في حين أن المعنى الروحاني يمكن أن يكون ثورياً، وعلى هذا فقد استمر التفسير الروحاني الباطني الغنوصي وتجدّد على هامش الكنيسة الرسمية في الصيغ الروحانية الغنوصية المتنوعة. فثمة أمر مشترك بين النمط الذي يفهم به واحد مثل (بوهم) أو (سويدنبرغ) سفر «التكوين» و «الخروج» أو (الرؤيا الأبوكاليبسية [القياميّة]) والنمط الذي يفهم به الشيعة الإسماعيليون والشيعة الإثنا عشريون أو حكماء الصوفية الإلهيون من مدرسة ابن عربي، القرآن ومجمل السنن التي توضِّح هذا النوع، وهذا الأمر المشترك هو تلك النظرة التي تتنضد فيها عدة تصاميم للكون وكثرة من العوالم التي يتماثل بعضها مع البعض الآخر.
باعتبار الإسلام متمِّم للعهد الذي جاء به عيسى (الغنوص النصراني) ومؤسِّس دولة جديدة للعرب كذرية حاملة لعهد الإسلام (إلّه) فهو يركّز على واقعة تأسيسية ما وراء الزمن، يركّز على عملية الخلق والتكوين. (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) [الأعراف:11]
لا يتركّز الوعي الديني في الإسلام على واقعة من التاريخ الدنيوي، وإنّما على واقعة ممّا وراء التاريخ. ليست واقعة تاريخية بعدية وإنّما هي واقعة «تاريخية» تخيّلية تأسيسيّة. وهذه الواقعة الأولية (البدئية) التي تتقدم تاريخنا التجريبي زمنياً، هي ذلك التساؤل الإلهي الذي يطرحه الله على أرواح الناس الذين سبقوا العالم الأرضي في الوجود (ألستُ بربكم؟) [الأعراف:171] والموافقة الجذلى التي تجيب على ذلك السؤال تقيم ميثاقاً أبدياً من الأمانة. وذلك ما يُسمّيه الإمام أبو حنيفة النعمان «بميثاق عالم الذَرّ» [أو عالم الأظلة وبداية الحلقات السريّة] فهو يُفسِّر الآية (172) من سورة الأعراف هذه: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ). وما مجيء الأنبياء وتناوبهم في تسلُّم الوحي (وحي أسلافهم) من حقبة إلى حقبة، وتعاقبهم في دورة النبوة إلا للتذكير بالأمانة التي قُطعت لهذا العهد.
يدلّ النص بمعناه التاريخي على الفعل، فإذا كان مجازياً دلّ على الأفكار والمعتقدات وإذا كان أخلاقياً دلّ على الأعمال وإذا كان صوفيّاً دلّ على الآمال. هو نظرية وممارسة (حكمة نظرية وحكمة عملية)؛ علم وعمل.
إن فكرة «دين إبراهيمي» يجمع الإسلام مع المسيحية المكرّسة واليهودية السُنّية إن هي إلا محاولة من الغرب الإمبريالي ودوائره الثقافية لإخماد هذا التمرّد الأصلي في الإسلام كوارث عظيم لكل التيارات الغنوصية المتمردة تجاه المسيحية المُكرّسة ومعها اليهودية السُنّية. خاصة وأن المسيحية المكرسة «بقانون الإيمان» واليهودية السُّنية لعبتا معاً دور العقائد المُبشِّرة بالغزو الاستعماري الغربي قديماً وحديثاً.
ارسال التعليق