محاكم السرية تعود بعباءة محمد بن سلمان
تصطدم التغييرات الاجتماعية في السعودية بردّ فعل عنيف من جانب السلطات ضد كل من يخالفها، وسط هبوط في رصيد المؤسّسة الدينية التي حكمت البلاد لعقود.
ففي عهدٍ باتت اليد الطولى لولي العهد، الأمير محمد بن سلمان آل سعود، عاد مصطلح "المحاكم السرية" للظهور؛ بعد موجة الاعتقالات التي طالت أشخاصاً تشكّ السلطة في ولائهم للعهد الجديد.
حساب "معتقلي الرأي"، الذي يُعنى بأخبار المعتقلين في السعودية، أعلن قرب محاكمات سرية لثمانية من أبرز الشخصيات المعتقلة، منذ سبتمبر؛ وهم: "سلمان العودة، وعوض القرني، ومحمد موسى الشريف، وإبراهيم المديميغ، وعادل باناعمة، وعصام الزامل، وخالد العلكمي، وفهد السنيدي".
وسبق أن عقدت السلطات السعودية جلسات سرية للموقوفين ضمن حملة الاعتقالات الكبيرة التي شنّها جهاز أمن الدولة، في شهر سبتمبر من العام الماضي، واستهدفت رموز تيار الصحوة، أحد أكبر التيارات الدينية في البلاد.
وبحسب الحساب فإن "المحاكمات السرية لمعتقلي الرأي جريمة حقوقية كبرى، وآخر ضحايا هذه المحاكمات من الأكاديميين والنشطاء كانوا؛ محمد الحضيف، وصالح الشيحي، اللذَيْن حُكم كل منهما لمدة 5 سنوات، ومحمد العتيبي وعبد الله العطاوي، اللذَيْن حُكما بمجموع 21 سنة.
ولم تعلن الحكومة السعودية عن المحاكمات، ولم يتحدّث أخطبوطها الإعلامي، كما لم تُفصح الجماعات الحقوقية ومنظّمات المعارضة السعودية عن فحوى الاتهامات التي وجّهتها السلطات للمعتقلين.
- صفحة من كتب الاستبدادوالمحاكم السرية هي محاكمة غير مفتوحة للجمهور، ولا يوجد لها تغطية إعلامية أو محامي دفاع أو شهود في كثير من الأحيان، وتركّز فقط على لوائح الاتّهام، وتتميز الإجراءات فيها بعدم وجود عدالة، بل يمكن جعلها كيدية أو سياسية.
تاريخياً كانت إحدى أكثر المحاكم السرية سيئة السمعة في عهد الملك البريطاني تشارلز الأول، في أوائل القرن السابع عشر، والتي أسفرت عن حملة إعدامات كثيرة بحق معارضيه، ما أدّى إلى حرب أهليّة أدّت إلى إعدامه هو لاحقاً.
وفي العصر الحديث كانت المحاكمات السرية سمت الأنظمة الشمولية، خصوصاً في الاتحاد السوفييتي؛ لأنها كانت ترى فيها ضرورة للحفاظ على أمنها، وقد بلغت ذروتها في عهد الديكتاتور جوزيف ستالين، والذي شهد حكمه حملة تطهير غير مسبوقة، ويُقدّر عدد من قضوا تحت مطارق الأحكام القضائية السرية بنحو 7 ملايين إنسان.
وكان من أشهر القضاة هناك القاضي فاسيلي أولريخ، الذي قاد أعداداً كبيرة من المحاكمات السرية، والتي لا تستغرق سوى بضع دقائق تنتهي بإعدام المتهم.
كما لم يكن العالم العربي بعيداً عن هذا؛ ففي المملكة السعودية-التي توصف بإهم "قلاع الرجعية العربية"- كانت تمارس المحاكم السرية على قدم وساق، بحق المعتقلين الذين اعتقلوا على أتفه الاسباب منها طائفية ومنها سياسية، والتي انتهت بإعدام أغلبهم ومنهم رجل دين نمر النمر، خير مثال.
وخلال هبوب رياح الربيع العربي وثّقت منظمة العفو الدولية إعدام العشرات في سجن الرياض والدمام، بعد إخضاعهم لمحاكم سرية لا تتجاوز الدقائق.
علماً أنه سبق أن جرت اعتقالات دون محاكمة في المملكة؛ كالشيخ سليمان العلوان من 2004 وحتى 2012، بزعم دعمه جماعات إرهابية، واعتقال الشيخ عبد الملك المقبل 61 عاماً، وآخرين.
وأظهر ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي يريد أن يكون رقما قياسيا في الدكتاتورية والاستبداد ويُنظر إليه على أنه المتحكّم بسياسة المملكة، نزعة استبدادية مرعبة، فقد أدّت رغبته في توطيد سلطاته إلى اعتقال مئات المسؤولين، ومنهم العديد من الأمراء، إلى جانب العديد من الدعاة وحتى الناشطين الليبراليين والمتحرّرين وحتى النساء لم تأمن على نفسها من استبداده.
واستخدم بن سلمان مختلف أساليب الترهيب والترويع ضد من يعارضه، وقام بإحداث الكثير من التغييرات التي لم يسبقه إليها أحد في البلاد.
ويرى مراقبون أن رجال الدين كانوا هم الذين يمنحون الشرعية لسلطة الملك، أما اليوم فإن الأمير محمد بن سلمان هو الذي يُضفي الشرعية على رجال الدين، وسط حملة قمع كبيرة يراعها هو باسم الإصلاح الديني، لكنها تناقض مطالب احترام التعدّد الفكري.
وفي خطوة تعكس دعماً أمريكياً لما يقوم به بن سلمان من حملات أمنية، صدم مكتب خدمات المواطنين الأمريكيين (ACS)، التابع للسفارة الأمريكية بالرياض، مواطنيه بإعلانه أن أيّ شخص في السعودية يخضع لقوانين المملكة، وأن واشنطن لن تتدخَّل إذا ما اعتُقل.
ومؤخراً انتقدت سوزان رايس، مستشارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، إدارة الرئيس دونالد ترامب لدعمه بن سلمان، واصفة إياه بأكبر صديق له.
وقالت إن الموقف الأمريكي منح تفويضاً مطلقاً لولي العهد السعودي للإفلات من العقاب على مجموعة واسعة من القضايا، مشيرة إلى أن سياسة بن سلمان الإصلاحية التي تم الاحتفاء بها في الولايات المتحدة تُخفي مجموعة من السياسات الداخلية والخارجية "الأكثر قتامة"، التي يسعى إليها على حساب المصالح الأمريكية.
ارسال التعليق