مصطفى اللباد
تقف السعودية أمام عالم جديد ومتغيّر. فتحالفها الدولي مع واشنطن لم يعُد بالمتانة ذاتها التي كانت خلال العقود السبعة الماضية، الأمر الذي ظهر جلياً بعد إبرام إيران اتفاقها النووي مع الغرب. وبالتوازي مع ذلك انقلبت توازنات المنطقة بشكل عميق، يضغط على السعودية في مناطق اعتبرتها دوائر نفوذ تقليدية لها سواء في اليمن أو سوريا أو العراق. كما أن أسعار النفط المتراجعة بشدّة تضغط اقتصادياً على الرياض، المعتمدة بشكل أساس على مداخيل النفط في تمويل ميزانيتها والحفاظ على «العقد الاجتماعي» مع سكانها والمتمثل في الرعاية الاقتصادية مقابل الطاعة المطلقة. وفوق كل ذلك تعيش المملكة العربية السعودية راهناً مرحلة انتقالية متمثلة في انتقال السلطة من الجيل الثاني من أبناء الملك المؤسس عبد العزيز إلى الجيل الثالث من أحفاده، سواء بتولي ولي العهد محمد بن نايف السلطة بعد الملك الحالي، أو - كما ترجّح مصادر غربية عديدة - تسلم ولي ولي العهد محمد بن سلمان السلطة مباشرة في حياة أبيه. وتعزز الفرضية الأخيرة الأدوار المتعاظمة التي يتولاها الأمير الشاب، منذ تسلم الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الأمور قبل عام من الآن. تتضافر التحديات بشكل غير مسبوق تتشابك فيه اعتبارات التوازن داخل العائلة الحاكمة مع عناصر الاستقرار الاقتصادي ومقومات العمل الإقليمي، الأمر الذي يجعل رؤى الأمير الشاب محمد بن سلمان كاشفة مستقبل السياسات السعودية في المقبل من الأيام.
الاقتصاد السعودي وخياراته الصعبة
أدى تراجع أسعار النفط إلى تأثيرات واضحة على الموازنة السعودية التي تشهد عجزاً غير مسبوق، ومردّ ذلك أن مساهمة النفط في الإيرادات السعودية بلغت حوالي 73 في المئة من جملة الإيرادات السعودية وفقاً لأرقام موازنة العام الماضي. تبلغ الإيرادات في الموازنة الجديدة حوالي 137 مليار دولار، في حين تبلغ المصروفات 224 مليار دولار بعجز يبلغ 87 مليار دولار، أو ما يوازي 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. الجدير بالذكر أن الأرقام الواردة في ميزانية العام 2016 ليست بالضرورة نهائية؛ إذ إن ميزانية العام 2015 قدرت الإيرادات بنحو 230 مليار دولار والمصروفات بنحو 191 مليار دولار، لكن المحصلة النهائية في نهاية العام أثبتت أن الإيرادات بلغت 162 مليار دولار فقط في حين قفزت المصروفات الحقيقية إلى 260 مليار دولار. ولعل السبب في تغيّر الأرقام يعود إلى المنح الطارئة التي وزّعتها الحكومة على المواطنين عند إتمام البيعة للملك الجديد وولي عهده وولي ولي عهده، وكذلك إلى النفقات العسكرية والأمنية (حرب اليمن) التي استقطبت وحدَها نحو ربع ميزانية العام 2015. حتى الآن اتخذت السعودية إجراءات تقشفية تمثلت في تخفيض الدعم عن المحروقات ورفع أسعار الكهرباء والمياه بغرض التخفيف من عجز الموازنة. وكما يعتقد بول كروغمان الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، فإن كل دولار يتمّ توفيره بالإجراءات التقشفية يرتدّ سلباً بما قيمته دولار ونصف على الاقتصاد المعني. بمعنى أنه حتى لو أفلحت الحكومة السعودية في الوصول إلى نسبة أربعة في المئة كعجز في الموازنة، سيترتّب على ذلك انكماش اقتصادي بمقدار ستة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. قامت الرياض طيلة السنة الماضية بالغرف من احتياطاتها النقدية وزيادة الدين المحلي عبر إصدار سندات خزانة، وهو الأمر الذي تفاقم بسبب الحرب في اليمن. في العام الحالي يتوقع خبراء أن ترتفع ضريبة المبيعات بمقدار خمسة في المئة خلال العامين المقبلين، لتوفير المزيد من الإيرادات. لا يتبقّى أمام الرياض سوى حلين كلاسيكيين مع تراجع أسعار الخام لمواجهة العجز في الموازنة: الأول الاستمرار في ضغط الإنفاق لتقليص العجز في الميزانية وما يمثله ذلك من شطب لأنواع مختلفة من الدعم. والثاني تخفيض قيمة الريال السعودي أمام الدولار، حيث تحصل السعودية على عائداتها النفطية بالدولار الأميركي في حين تدفع المرتبات والمخصَّصات بالريال السعودي، وبالتالي تخفيض قيمة العملة الوطنية سيعني إسمياً الحصول على عائدات أعلى للنفط مقومة بالريال، ما يمكّن الحكومة السعودية من التغلب إسمياً على عجز الموازنة. الاحتمال الأول ستكون له تبعات اجتماعية مباشرة، أما الحل الثاني فسيعطي بعض الوقت للحكومة حتى تظهر آثاره التضخمية. ولأن سبعين في المئة من سكان السعودية يقعون ضمن الفئة العمرية الأقل من ثلاثين عاماً، يتعزز الانطباع بأن خيار تخفيض سعر الصرف هو الأرجح في العام الجاري، لأنه يستطيع توفير أماكن عمل أكثر مما يستطيعه التضخم أو ضغط النفقات.
رؤى بن سلمان الاقتصادية في مقابلته الطويلة مع «الإيكونوميست» المنشورة بتاريخ 4/1/2016، كشف محمد بن سلمان عن رؤاه الاقتصادية المشبَعة بجرعة معتبرة من النيوليبرالية الاقتصادية وعدم اقتناعه بالحلول الكلاسيكية لمواجهة عجز الموازنة. لم يأتِ بن سلمان على ذكر ولي العهد الحالي ولا حتى مرة واحدة أثناء المقابلة الطويلة، وأظهرت نبرة الثقة العالية التي أبداها، واستعماله مفردات مثل «يوجد لديّ» و «عندي» أنه يُمسك إلى حد كبير بخيوط السلطة في السعودية - أقله حتى الآن. ولعل استحضار الأمير الشاب لمقولة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل: «تأتي الفرص أثناء الأزمات»، ما يشي بنيّته في اجتراح خطوات راديكالية في بنية السلطة السعودية. ولأن سبعين في المئة من السعوديين تحت سن الثلاثين عاماً، يأمل بن سلمان في الحصول على دعمهم لخططه ومشروعاته «الإصلاحية». ربما كانت تجربة الملك الراحل فيصل في تسلم السلطة وإزاحة أخيه سعود منها، ماثلة في ذهن الأمير الشاب ـ مع الفوارق الكبيرة - حيث تولى الملك فيصل السلطة في وضع داخلي غير مستقر وحرب بالوكالة في اليمن وتحديات إقليمية هائلة ودولية محتدمة بين المعسكرين أثناء الحرب الباردة. لكن أخطر ما أعلن عنه الأمير الشاب في مقابلة «الإيكونوميست»، أنه بصدد تخصيص شركة «أرامكو» النفطية. والأخيرة هي أكبر شركة نفط في العالم ومقرّها في مدينة الظهران السعودية، وتعد الشركة الأعلى سعراً في العالم، حيث قدّرت صحيفة «وول ستريت جورنال» أصولها بحوالي عشرة تريليونات دولار (التريليون ألف مليار). وتتفوق الشركة بفوارق ضخمة عن أقرب منافسيها (إكسون موبيل) حيث تبلغ احتياطاتها 260 مليار برميل من النفط وأربعة تريليونات متر مكعب من الغاز الطبيعي. كانت «أرامكو» قد اقتطعت من وزارة البترول السعودية بعد فترة وجيزة من تولي الملك سلمان الحكم، وأوكل الإشراف عليها إلى محمد بن سلمان. رمى الأمير الشاب بهذا الإعلان حجراً كبيراً في بركة الاستثمارات الدولية، ما يجعل خصخصة الشركة ـ إن حدثت - واحدة من أهم الأحداث المؤثرة في بنية السلطة الاقتصادية في العالم. تتجاوز إيرادات الخصخصة المفترَضة بكثير العجز في الميزانية السعودية والحلول الكلاسيكية لمواجهتها، ما يعني أن الهدف ليس مواجهة المصاعب الاقتصادية السعودية من جراء انخفاض أسعار النفط فحسب، بل أيضاً إعادة لتشكيل تحالف دولي وإقليمي وداخلي جديد يطال حتى التوازنات داخل الأسرة الحاكمة نفسها. أثبتت الأحداث في المنطقة وخارجها أن النيوليبرالية ليست وصفة سحرية لإقالة الاقتصاد من عثراته، وأن الإصلاح السياسي ليس صنواً بالضرورة لهذا النوع من الليبرالية. كما أن النيوليبرالية الاقتصادية قد تشتري رضاء الدوائر الغربية النافذة لبعض الوقت، لكن تلك الدوائر ستعود بمطالبات أكبر لاحقاً بعد إتمام بيع الأصول العامة. ولعل تجربة جمال مبارك في مصر وغيرها من الدول العربية التي زارها «الربيع العربي»، الدليل الأبرز على ذلك. وفقاً لمنطق الخصخصة ستضطر «أرامكو» إلى الإعلان عن حساباتها وميزانيتها بشكل شفاف قبل طرحها في البورصة، ومن شأن ذلك الإعلان أن يطّلع السعوديون على حجم المخصصات التي تذهب إلى العائلة المالكة، قبل أن يذهب ما تبقى من أرباح بيع النفط إلى وزارة المالية. ساعتها سيظهر تناقض كبير بين حجم المخصصات الملكية من ناحية، ورفع الدعم كلياً أو جزئياً عن السلع الأساسية في السعودية مثل المحروقات والكهرباء والمياه، من ناحية أخرى، ووقتها سيكون الحصول على التأييد الشعبي أكثر صعوبة.
قام استقرار السعودية الداخلي منذ التأسيس وحتى الآن على «عقد اجتماعي» يقوم فيه الحكم بتقديم الرعاية الاقتصادية مقابل الطاعة المطلقة، فطبعت تلك المعادلة أوجه الحياة في السعودية بطابَعها، حتى أن رقصة العرضة النجدية في الاحتفالات الملكية تأتي على هذه المعادلة بشكل غير مباشر. في العرضة يُمسك الملك والأمراء السعوديين بالسيوف راقصين على وقع الطبول والأهازيج استحضاراً لذكريات ما قبل تأسيس المملكة وإخضاع القبائل المختلفة في تذكير بالقوة والبأس أولاً وبالعطايا ثانياً. يقول مطلع العرضة النجدية: «نحمد الله جت على ما تمنَّى ... من ولي العرش جزل الوهايب». يبدو أن سيف الإصلاحات والنيوليبرالية ذو حدين فعلاً.
ارسال التعليق