نكسة سعودية جديدة: محمد بن سلمان.. والخيار الفلسطيني المر
أخفق الرئيس الاميركي دونالد ترامب في كل الملفات التي انبرى لطرحها بأسلوبه الفظ والصادم.. وجميعها كانت اكثر سهولة وبساطة نسبيا من ملف الشرق الاوسط، الذي تحطمت على أعتابه جهود كافة الرؤساء الاميركيين، وخصوصا منذ العام ١٩٩١، وبدء المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية.
فكيف تسنّى لترامب ان يقدم على مغامرة الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان المتحل وان يطلب نقل سفارة بلاده الى هناك خلافا للقوانين الدولية، بكل حماسة وثقة؟ وما هي الضمانات التي استند إليها لتمرير واحد من أخطر المشاريع وأقسى التحديات، التي تمس مشاعر اكثر من مليار ونصف مليار مسلم؟ وهو يعلم ان القرار المبدئي بهذا الشأن قد اتخذه الكونغرس الاميركي قبل ٢٢ عاما، ولكنَّ ايا من الرؤساء الاميركيين لم يتجرأ على وضعه موضع لتنفيذ..
وانهم جميعا بعد ان وعدوا بنقل السفارة الاميركية الى القدس المحتلة، ابان حملاتهم الانتخابية، تراجعوا عن ذلك لدى وصولهم الى البيت الابيض، متهيبين الاقدام على هذه الخطوة، الكفيلة بنسف اسس وقواعد الحل السياسي، وتغليب منطق العداء لاميركا اكثر من اي وقت مضى.
ما الذي تغير في البيت الابيض، ولدى حلفاء واشنطن الاقليميين؟ بل وفي اوضاع المنطقة ومزاجها السياسي، حتى اصبح المستحيل بالامس ممكنا اليوم؟ وأين تقف السعودية من كل ذلك؟ وما علاقة التغييرات المتسارعة في المملكة العجوز، بالاندفاعة الاميركية؟ بل ان اهم المحاور التي تستوقفنا في هذه الرؤية تتعلق بسر الاستعجال الاميركي والسعودي لحصد نتائج الخلخلة في النظام الاقليمي، ولإنجاز خطوة اخرى على طريق تيئيس العرب والمسلمين، وجر الفلسطينيين الى مستنقع الاستسلام للمشروع الصهيوني.. ودفع العرب الى التطبيع مع الكيان الغاصب؟
وكيل الحروب بالوكالة
من المفيد ان نتذكر هنا ان المملكة السعودية خاضت في السنوات الماضية جميع الحروب الاميركية في المنطقة، والتي استهدفت اسقاط انظمة محددة، وتفريغ الساحة العربية من قواها العسكرية الفعلية، ومن روحها المعنوية التي تمحورت حول قضايا معينة خلال العقود الماضية.
فلم تكن ثورات الربيع العربي بعيدة عن التخطيط الاميركي، وادارة الحدث الذي تصدرت واجهته قوى خليجية كان الابرز فيها الدور السعودي، بدءا من تشريع العدوان الاطلسي على ليبيا، وانتهاء باستدعاء الارهاب المتعدد الجنسيات الى سوريا، والفتنة المذهبية لاسقاط الامة من الداخل.
لقد ترافقت هذه الحروب التي تمكنت من تدمير الجيوش العربية واشغالها بالشؤون الامنية الداخلية للدول العربية، مع ظاهرتين اساسيتين: الاولى: ارتفاع وتيرة الاتصالات العربية الاسرائيلية، وتشجيع الانظمة الخليجية خصوصا على كسر حاجز المقاطعة للكيان الصهيوني، والترويج الاعلامي المكثف عبر الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي للعلاقة مع اسرائيل، والتي شارك فيها العديد من المثقفين و»المفكرين» السعوديين والخليجيين.
الثانية: الاصرار على استعداء ايران وجعلها العدو البديل عن الكيان المحتل، ورفض كل عروض الحوار معها، وتخويف شعوب المنطقة منها واعتبارها الخطر الاول والعدو الاوحد للعرب.
وقد لعب النظام السعودي في كل هذه المحطات دورا رئيسيا، وخصوصا مع تسلم محمد بن سلمان مفاتيح السلطة تباعا في المملكة.
بل ان السياسة السعودية تركزت بشكل مطلق في السنوات القليلة الماضية على هذين المحورين، لتلميع إسرائيل، وتسهيل العلاقة معها، وتوتير الاجواء مع ايران ومحور وقوى المقاومة.
وربما لم يكن محض صدفة ان يوفد ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة وفدا من اربع وعشرين شخصية، لزيارة اسرائيل ونقل رسالته اليها، ليبدد اي لبس لدى الرأي العام الصهيوني، حول المسار الجديد الذي انخرط به زعماء خليجيون، منذ عدة سنوات، في اطار ما بات يعرف بصفقة القرن الاميركية.
وعلى كل حال، فإن الاشارة الرمزية التي حاول ملك البحرين ارسالها لاصدقائه الصهاينة الجدد، قابلتها اشارة رمزية فلسطينية برفضها وطرد حامليها.
وهذه الحادثة لم ينظر اليها الفلسطينيون باعتبارها صادرة من ملك لا نفوذ له ولا دور في اللعبة السياسية في المنطقة، بل باعتباره ممثلا للسياسة السعودية، ومندوبا لولي نعمته الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز وولي عهده، اللذين يتحكمان بحركات وسكنات هذه العائلة الخليفية المرتهنة للقرار السعودي.
لماذا محمد بن سلمان؟
كان واضحا منذ البداية ان محمد بن سلمان يريد ان يصبح ملكا للسعودية اولا متجاوزا التسلسل الطبيعي لوراثة عرش الملك عبد العزيز، وان يتزعم محورا اقليميا في مواجهة المحور الايراني ـ حسب التوصيف الاميركي، لملء الفراغ في المنطقة.
لا تملك السعودية اي من مقومات الدولة المحورية، بقواها الذاتية. فالقدرة المالية والنفوذ الديني واستقطاب العمالة العربية، ليست كافية لتتويجها بالزعامة، فهي لا تملك مشروعا سياسيا جماهيريا، ولا ترفع لواء القضايا الوطنية الكبرى وخصوصا القضية الفلسطينية، سواء بشكل جدي او حتى غير جدي، كما انها ليست رائدة في مجال النهضة العلمية والثقافية والعسكرية بما يمكنها من المنافسة الاقليمية.
لذا فقد ظل الدور السعودي مرتبطا باستمرار، بالاستراتيجية الاميركية ومن قبلها الاستراتيجية البريطانية.
والقوة الدافعة للدور السعودي لا تتعدى الوظيفة الموكلة اليها في اطار المشروع الغربي في المنطقة.
وبديهي ان هذا الواقع يضعف المهمة السعودية والطموح الاميري لتزعم محور في مواجهة محور اقليمي آخر.
الا ان الادارة الاميركية الجديدة، وجدت في محمد بن سلمان اداة طيعة لخدمة الاستراتيجية الاميركية المتجددة في المنطقة في مرحلة ما بعد الربيع العربي. وحماسته للزعامة تسهل على مشغليه توجيهه والتحكم بتصرفاته.
وقدرة بلاده على ترويج الانقسام المذهبي، وتمويل الثورات المضادة، والصراعات الفرعية، تعتبر ضرورية ضمن المخطط الاميركي الصهيوني لتفتيت المنطقة.
صفقة القرن
واحدة من ابرز ايجابيات الخطوة الاميركية الاخيرة بنقل السفارة الى القدس، والاعتراف بالمدينة المقدسة عاصمة للكيان الصهيوني، هي انها أظهرت الصراع في المنطقة بأوضح صوره حتى الان، وساعدت على ازالة اللبس والضبابية اللذين استفادت منهما السعودية في السنوات الماضية، لتلبيس مواقفها وخلط الاوراق في ما يتعلق بالصراعات في سوريا والعراق وغيرهما.
فبعد القرار الاميركي، باتت المنطقة امام محورين لا ثالث لهما، وعاد الصراع الى محوره الجوهري التاريخي.
كل الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة بالوكالة، وخاضتها اسرائيل من وراء الستار، كانت مقدمات لهذه المعركة، ومحاولات لتشتيت الانتباه واضعاف القوى، وتهيئة المناخ للهدف المركزي للاستراتيجية الاميركية.
فما هو هذا الهدف؟
لقد بات من المؤكد ان السياسات الاميركية التي يخرجها الرئيس ترامب باسلوبه المميز، والتي يبدو عليها طابع الاثارة والكوميديا او الغرابة أحيانا، لا تخرج عن كونها اعادة لفلسفة اليمين الاميركي، وسياسات المحافظين الجدد، الذين حكموا اميركا منذ عهد الرئيس الاميركي رونالد ريغان.. وقد برزت هذه السياسات في مرحلة الرئيس الاميركي جورج بوش الاب، وفرضيات فرانسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ..
واستنتاجات صاموئيل هانتنغتون حول صراع الحضارات.. وهي القاعدة الفكرية التي جرت ترجمتها الى استراتيجية (الشرق الاوسط الجديد) التي روجت لها ادارة الرئيس جورج بوش الابن، ووزيرة خارجيته كونداليزا رايس، وشرعت في تنفيذها عبر احتلال العراق، ومحاولة القضاء على المقاومة في لبنان في العدوان الاسرائيلي عام 2006، وصولا الى اسقاط النظام في سوريا، وعزل ايران.
يرى العديد من المراقبين ان ما تسمى صفقة القرن، إنما هي شكل جديد من اشكال استراتيجية الشرق الاوسط الجديد، التي فشلت نسختها الاولى مع تراجع بوش وانسحاب القوات الاميركية من العراق، وفشل العدوان على لبنان، وكذلك فشل الانقلاب في ايران عام ٢٠٠٩.
فكلتا النسختين تتوخيان هدفين اثنين: أحدهما، اعادة تشكيل الدول والقوى في المنطقة بما يخدم استعادة الهيمنة الاميركية على ثرواتها وموقعها الاستراتيجي، من جهة.
وثانيهما، تأهيل اسرائيل للدخول في البناء السياسي والاقتصادي للمنطقة ككيان طبيعي، مع احتفاظها بالقوة العسكرية الرادعة، باعتبارها ذراعا عسكريا للهيمنة الغربية في الشرق الاوسط.
ومن الطبيعي ان تسبق اعادة بناء وتشكيل الكيانات السياسية، مرحلة الهدم والميوعة في العلاقات وموازين القوى، وهو ما جرى تشجيعه في حركات ما سمي الربيع العربي لخلخة الدول والمجتمعات في آن معا، عبر اضعاف الروابط السياسية والاقتصادية، لحساب علاقات ما قبل الدولة، القبلية والمذهبية والجهوية.
الا ان مراكز الدراسات التي تخطط للسياسات الاميركية، فوجئت بعاملين لم يكونا في حساباتها السياسية لدى قيامها بعملية التدمير المنظم في المنطقة.
الأول: يتمثل بالقوة السياسية والعسكرية لمحور ايران – سوريا – حزب الله، والتي استفادت من حالة فراغ السلطة وتدمير النظام العربي القديم.. وعجز الادوات المحلية في المواجهة، ما أدى الى هزيمتها.
والثاني: ان النظامين الاساسيين اللذين يشكلان العمود الفقري للاستراتيجية الاميركية في المنطقة ولدعم الكيان الصهيوني، في مصر والسعودية، باتا هرمين وعاجزين عن تقديم دعم فاعل في المواجهة مع اعداء الولايات المتحدة.. وهذا ما دفع ادارة الرئيس باراك اوباما الى تبني ادوات اخرى لتنفيذ استراتيجية الشرق الاوسط الجديد، قوامها قطر لتمويل واستقطاب وتحريض الشارع العربي، والاخوان المسلمين، والمظلة التركية كأداة وغطاء سياسي لما سمي الربيع العربي.. الا ان قطر وتركيا ومشروع الإخوان برمته فشل، فعادت واشنطن لتعويم الدورين السعودي والمصري. عند مجيء الرئيس الاميركي ترامب، وجد اليمين الاميركي الصهيوني الفرصة مناسبة لاعادة احياء مشروعه الاستراتيجي، والاستفادة من كم هائل من الخراب والدمار في المنطقة، وقد جرى تسويقه عبر ما سمي بـ (صفقة القرن). هذه الصفقة ليست الا مشروع (الشرق الاوسط الجديد) مع بعض التحسينات والتعديلات التكتيكية، حيث بادرت الرئاسة الاميركية ومنذ اليوم الاول لتسلم ترامب سلطاته في البيت الأبيض، الى احاطة النظام المصري بعناية خاصة، وخص ترامب الرئيس السيسي بالاشادة والتشجيع، وكان اول رئيس عربي يزور البيت الأبيض، وقد التقى الرئيس الاميركي حتى الان اربع مرات. من جهة أخرى، انحرفت السياسة الاميركية تجاه النظام السعودي بنسبة 180 درجة من النفور والهجوم.. الى التحالف والثقة العميقة، بعد سلسلة من الزيارات قام بها محمد بن سلمان الى اميركا، بوساطة اللوبي الذي ينسق معه محمد بن زايد ولي عهد ابو ظبي، ويديره سفير الامارات في واشنطن يوسف العتيبة، ذو العلاقات المميزة باللوبي اليهودي الاميركي. وهكذا وجد المحافظون الجدد الاميركيون ضالتهم المنشودة، بالامير محمد بن سلمان، الشاب النزق والمتحمس لتولي السلطة في بلد يملك ثروات مادية هائلة، وهو بأمس الحاجة للدعم الاميركي.
محمد بن سلمان فرس الرهان
لا يمكن فهم ما يقوم به محمد بن سلمان داخليا وخارجيا، الا باعتباره حلقة في المشروع الاميركي الاسرائيلي الاستراتيجي، فواشنطن وتل ابيب تقومان بدعم حروبه والتغطية على جرائمه، وتشكيل مظلة امنية وسياسية له.. وعليه في المقابل ان يبذل قصارى جهده لدفع المشروع الاميركي الى الأمام، قبل ان يجري اقصاؤه كما كانت حال رئيس الوزراء القطري، وقبله حسني مبارك وزين العابدين بن علي، وغيرهم من أدوات المشروع الاميركي الصهيوني. وبعد ان قدم النظام السعودي (هدية القرن) التي لم يكن الرئيس الاميركي يحلم بها، من خلال اتفاقات عقود، وهبات واستثمارات بلغت اربعمئة وستين مليار دولار، شرع محمد بن سلمان على الفور في خطوات التغيير داخل المملكة، لضرب التيار الديني السلفي وغير السلفي، وتحطيم التابوهات التي كانت تعيق الاندماج الكامل مع الفكر الصهيوني، مدعوماً بحملة تغريب غير مسبوقة على صعيد الممارسة والفكر والمواقف. الاهداف الأميركية ـ الصهيونية، تنسجم مع نزعة التفرد والسلطة لدى شاب طموح وحالم، ولا يملك اي رؤية سياسية تشكل له مرجعية فكرية، مما يسهل اقناعه بالمرجعية الجديدة التي تمنحها له الليبرالية الاميركية. وخارج المملكة، فإن محمد بن سلمان يقوم بخدمة الشعارات والاهداف التي تتبناها ادارة ترامب، والتي تقوم على تفتيت البنى السياسية والثقافية والاجتماعية في المنطقة، وتشجيع الانقسامات بين الدول والشعوب وداخل كل دولة، وتسعير الفتن المذهبية والصراعات البينية، وتفعيل التواصل مع الكيان الصهيوني واشاعة ثقافة المصالحة بدل المقاطعة، تمهيدا لدمج هذا الكيان في المنظومة الاقليمية.
انكشاف الدور السعودي
ولكن السؤال اليوم في الاوساط الغربية: هل يقدر محمد بن سلمان على القيام بهذه المهمة التاريخية لخدمة المشروع الصهيوني؟ لقد بدأت حملة التشكيك بنجاح ولي العهد السعودي في الاوساط الغربية. واستعدادا للبديل، ارتفعت وتيرة النقد الموجه لسياساته سواء في الحرب الهمجية في اليمن، او في اجراءاته الداخلية، التي لا تستطيع اتهامات الفساد، ان تخفي طابعها الديكتاتوري والقمعي. وتتخوف الاوساط الغربية من ان يكون اعلان ترامب بشأن القدس، الضربة القاضية لمهمة محمد بن سلمان، لانها تحمله فوق طاقته.. وهذا ما تنبه له الاعلام السعودي، الذي انبرى في الايام الماضية، الى شن حملة دفاع عن النظام ودوره في دعم القضية الفلسطينية.. وكانت حملة غريبة، بحيث ان الاعلام العربي كله تقريبا، مشغول بالحديث عن المؤامرة الاميركية وخطورتها، او عن نتائجها واحتمالات الرد عليها، وتفسير توقيتها، باستثناء الاعلام السعودي الذي احس بانكشاف المهمة القذرة التي يقوم بها ولي العهد في اطار تصفية القضية الفلسطينية. وربما كان من البديهي القول، ان المنطقة تعيش تحت وطأة زلزال خطير وكبير، هز الواقع السياسي والامني فيها، ومس مشاعر وضمائر العرب والمسلمين بعمق وقسوة. فقرار الرئيس الاميركي دونالد ترامب شكل صدمة عنيفة للعرب والمسلمين، وتجاوز الاعراف والقوانين والقرارات الدولية، حسبما وصفته تصريحات ومواقف شملت جميع دول العالم وقادتها، تقريبا باستثناء قلة قليلة تحسب على اصابع اليد الواحدة. والمفاجأة لم تكن بقرار الرئيس الاميركي، بل بالجرأة التي بلغت حد التهور والوقاحة، من قبل رئيس يتحدى قرارات الشرعية الدولية، ويعتدي على حقوق امة من مليار ونصف المليار نسمة، ويقوض جهودا مضنية لايجاد حل سياسي لصراع دامٍ لا يزال مستمرا منذ قرن من الزمان. ولا شك ان الادارة الاميركية تعلم مكانة واهمية المقدسات الاسلامية والمسيحية في القدس المحتلة، لدى العرب والمسلمين. وهي تعلم ايضا بالمواقف المعلنة والقرارات المتخذة بشأن القدس ومقدساتها، والتي تحرم اي تنازل عن الحقوق التاريخية فيها، وتعلم ـ بحكم تجربتها الطويلة، على الأقل في مجال الوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين ـ ان القدس هي واحدة من العقبات الكأداء التي عرقلت ـ الى جانب حق العودة والمستوطنات ـ اي اتفاق سياسي. ومن هنا كان التساؤل عن الضمانات التي حصلت عليها ادارة الرئيس ترامب، لكي تقدم على هذه الخطوة التي يفترض انها زلزال سياسي، يمكن ان يفجر المنطقة ويشعل فيها حربا اضافية، بل يمكن ان تبدد كل المكاسب التي حققتها الولايات المتحدة واسرائيل من ست سنوات من الحروب الاهلية والعبثية، التي مزقت أوصال الامة، وأضعفت دولها المركزية، وحطمت جيوشها. فهل اخطأت الادارة الاميركية؟ ام اننا اخطأنا في تشخيص الازمة حتى الان؟
السعودية من الهجوم الى الدفاع
مرة اخرى تعود السعودية، ويعود محمد بن سلمان وابوه الى واجهة المشهد.. فكل خطوة تطبيعية يقوم بها سعودي او بحريني او اماراتي هي خيط في ثوب ينسجه محمد بن سلمان للمنطقة، وكل حديث عن صفقة سياسية تعدها الولايات المتحدة لتكريس الوجود الصهيوني والدولة اليهودية في المنطقة، تبرز صورة زعيم السعودية الشاب في الواجهة. الشارع العربي سبق اي تحليل سياسي، واي وقائع واسرار تكشفها وسائل الاعلام العالمية، حول الدور الموكل الى محمد بن سلمان القيام به لتمرير الوجبة الصهيونية الجديدة المقدمة على طبق اميركي. المتظاهرون الفلسطينيون في الاراضي المحتلة، هتفوا ضد الموقف الاميركي والتواطؤ السعودي، واحرقوا تحت حراب الاحتلال صور محمد بن سلمان، الى جانب صور بنيامين نتنياهو، ودونالد ترامب، تنديدا بالقرار الاميركي. المعلقون السياسيون صوبوا على الدور السعودي في القرار الاميركي والتغطية التي ستقدمها المملكة للعدوان الاميركي الجديد. والانظار كانت مصوبة على اجتماعات الجامعة العربية لمعرفة السقف الذي تسمح به السعودية للموقف المطلوب على الصعيد العربي. وفي خضم انشغال الأمة بكافة مستوياتها، بمعركة التصدي للقرار الاميركي، واجهاض مفاعيله، وصولا لاجبار الادارة الاميركية على التراجع.. كان شغل الصحافة السعودية الشاغل، الدفاع عن المملكة ودورها، احساسا بقوة الهجمة، وسط حالة ارتباك وقلق تعكس مخاوف الامراء من انكشاف دورهم المتواطئ مع الولايات المتحدة، عبر ما سمي بصفقة القرن.
إذن لا بد من تشتيت الإنتباه
لقد عمل الاعلام السعودي طويلا وحثيثا لتضييع البوصلة العربية، وصرف نظر الشعوب العربية عن فلسطين والقدس، والصراع العربي الاسرائيلي، ليحل محله صراع مفتعل مع ايران على اسس مذهبية وطائفية، والتفريط بالصراع القومي لمصلحة صراعات مذهبية عبثية لا طائل منها ولا نهاية لها. واليوم، بدل ان يركز الاعلاميون السعوديون على العدوان الاميركي الجديد والذي يهدد بكارثة جديدة ـ قارن البعض بحق بينها وبين وعد بلفور قبل مئة عام من الآن ـ راحوا يصوبون الهجمات، ويشنون الحملات الاعلامية على جهات اخرى، بل على طائفة واسعة من الأعداء، تراوحت بين النظام الإيراني، وحزب الله، وانصار الله في اليمن، وإعلام الحمدين وحلفائهما، والإسلام السياسي في بعض الدول، إضافة الى تركيا وحماس والاخوان المسلمون.. بينما حدد الكاتب عثمان الصيني ثلاثة مصادر للاستهداف في مقاله في صحيفة الوطن تحت عنوان: (قدر الكبير أن يعاني من النفاق السياسي). هؤلاء الاعداء الذين يشوهون صورة المملكة بنظره، هم: بقايا اليسار؛ ومن ترسخت لديهم الصورة النمطية عن دول الخليج منذ الستينات؛ واصحاب نظرية إسلام البترودولار، والإسلام السعودي والوهابي، والإسلام النفطي والفقه البدوي. وهناك أيضا قطر التي تتعمد بنظره تشويه سمعة السعودية. وترافقت الحملة الدفاعية السعودية، مع استمرار حملة سابقة استهدفت تشويه الفلسطيني، واتهامه بالخيانة، وتحميله مسؤولية الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين والدعم الاميركي والغربي لها. كتبت عزة السبيعي تحت عنوان: (متى تصبح فلسطين قضية الفلسطينيين الأولى)، ورأت ان: (الحل في يد الفلسطينيين أنفسهم، أن يعترفوا بأنهم سبب ما يحدث فيها، وسبب ضياعها الأول، وأنّ لوم الآخرين لا يفيدهم، بل يعمّق أخطاءهم، ويحرمهم فرصة إصلاحها). وبلغ التحريض مداه في ما كتبه هاني الظاهري، في مقال استعرض فيه قصة مختلقة ومفبركه على مقاس اهدافه بعنوان: (معيض والماء الفلسطيني!). يقول الظاهري بلهجة تحريضية عنصرية ضد الفلسطينيين ان: (الإساءات الدنيئة التي يوجهها بعض الفلسطينيين للسعودية ورموزها ومواطنيها هذه الأيام، تذكرني بحوار مع أحد السعوديين الذين جاهدوا بأنفسهم وأموالهم عام 1948 في فلسطين، وهو العم معيض بن موسى الجندبي الزهراني). ولكي تكون حبكة القصة مكتملة، فإن بطلها العم معيض توفي قبل سنوات عدة، ولم يبق من شهود على الحادثة الا الراوي.. وهو الكاتب نفسه. نقل الظاهري عن العم معيض أن بعض الفلسطينيين كانوا يعملون لدى الإسرائيليين ويبيعون لهم الغذاء واللباس، «وأتذكر أنني كدت أموت من العطش يوما وتوجهت إلى مزرعة أحدهم طالبا بعض الماء، فما كان منه إلا أن طردني دون أن يسقيني قطرة، وهددني بإرشاد اليهود إلى مكاني، بل إن أحدهم أرسل أبناءه ليقذفوني بالحجارة». ولتبرير التقاعس السعودي، يرى عبد الله فدعق ان فلسطين: (قضية من لا قضية له).. بينما يسأل الصحفي خالد السليمان في مقال له: لماذا يكرهنا هؤلاء العرب؟ وقد أغاضه أن الأعلام السعودية تحرق في المظاهرات إلى جوار الأعلام الإسرائيلية والأمريكية، كما أغاظه أن ملوك وأمراء الخليج يشتمون من على المنابر!
الإعلام الغربي
الا ان هذه الحملة السعودية التي تأتي في سياق الفتنة الاقليمية وتستخدم قاموسها التحريضي، تتجاهل ان كشف الدور السعودي جاء من مصادر غربية، ومثله التشكيك بما يقوم به محمد بن سلمان. صحيفة «نيوزويك» الأمريكية قالت، مطلع سبتمبر الماضي، إن الجولات التي أجراها وفد ترامب في منطقة الشرق الأوسط لم تكن ناجحة، ولم تؤت ثمارها المرجوة حتى الآن. وصحيفة «هآرتس» ذكرت في 25 مايو الماضي، أن رؤية الرئيس ترامب التي نقلها إلى القادة الذين التقاهم في قمة الرياض «تقوم على أن التقريب بين إسرائيل والدول العربية مدخل ضروري للتوصل إلى السلام في المنطقة”.
وفي اليوم نفسه ذكرت صحيفة «يسرائيل هيوم»، أن ترامب أبلغ رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، خلال اللقاء الذي تم في بيت لحم، أن «جوهر مبادرته هو وضع خطة إقليمية شاملة تقوم على التفاعل بين إسرائيل وجيرانها العرب في إطار مبادرة السلام العربية أولاً، بما يفتح الطريق إلى التسوية المرجوة للقضية الفلسطينية”.
والرئيس الأمريكي، بحسب المفكر المصري فهمي هويدي «لديه صفقة واحدة تتمثل في الدمج التدريجي لإسرائيل مع العالم العربي، وإغلاق ملف القضية الفلسطينية بذريعة مكافحة الإرهاب، وهو يعتمد في ذلك على شركاء عرب بالأساس”. صحيفة نيويورك تايمز الأميركية تحدثت عن مبادرة سعودية للتسوية الفلسطينية – الإسرائيلية منحازة تماماً لإسرائيل تتضمّن أن تكون إحدى ضواحي القدس المنعزلة عن المدينة بجدار الفصل العنصري عاصمة للفلسطينيين (يقصد أبو ديس).
وبحسب الصحيفة الأميركية، فإن الطرح السعودي جعل كثيرين في واشنطن والشرق الأوسط يتساءلون عما إذا كان ابن سلمان ينفّذ التزامات الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أجل كسب رضى الأميركيين، والعمل على الضغط على الفلسطينيين. وذكرت نيويورك تايمز أن لقاء بن سلمان مع عباس تمّ بعد أقل من أسبوعين من زيارة صهر الرئيس الأميركي ومستشاره جاريد كوشنير إلى الرياض لبحث خطة السلام الاميركية.
كما ذكرت وكالة بلومبيرغ في الثاني من ديسمبر أن جاريد كوشنير، زوج ايفانكا ابنة الرئيس، وكبير مستشاري البيت الأبيض، يخفي عن وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، تفاصيل مهمة لمفاوضاته مع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، حول صفقة القرن. ويتخوف تيلرسون، حسب المتحدثين لـ “بلومبيرغ”، من أن المفاوضات بين كوشنير وابن سلمان قد تزيد من تعقيد الأوضاع في المنطقة وتتسبب بفوضى. وفي العاشر من ديسمبر كشف تقرير إسرائيلي عن تدخل سعودي وضغط قوي يقوده ولي العهد محمد بن سلمان لدفع الفلسطينيين للقبول بمبادرة أميركية تنتقص كثيرا من حقوقهم، وفي مقدمتها قضية حق عودة اللاجئين، وحدود دولتهم المستقبلية. وجرى التدخل السعودي خلال اللقاء الذي جمع، ابن سلمان مع الرئيس محمود عباس، الذي دعي على عجل إلى الرياض، حسب التقرير، الذي نشره موقع فضائية «آي 24 نيوز» الإسرائيلية، وترجمته صحيفة القدس العربي. ولتأكيد هذه المعلومات التي باتت شائعة ومسلما بها في الاوساط الاعلامية الغربية، أفادت وكالة «رويترز» في الثامن من ديسمبر بأن السعودية تمارس ضغوطاً من وراء الكواليس على السلطة الفلسطينية لتدفعها نحو تأييد خطة السلام التي يعدّها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. ونقلت الوكالة عن مصادر فلسطينية أن ولي العهد السعودي ورئيس السلطة الفلسطينية ناقشا الشهر الماضي خلال اجتماعهما في الرياض تفاصيل الخطة المسماة «صفقة القرن”. وبحسب مصادر «رويترز»، قال بن سلمان لعباس «كن صبوراً فسوف تسمع أخباراً جيّدة، إذ أن عملية السلام ستنطلق». وبحسب مسؤولين عرب فإنهم يقولون في أحاديثهم الخاصة إن الرياض تشارك فيما يبدو ضمن استراتيجية أمريكية أوسع نطاقا لوضع خطة سلام إسرائيلية فلسطينية لا تزال في مراحلها الأولى. ولم يعد خافيا ان القرار الاميركي الاخير يأتي في سياق المرحلة التنفيذية الاولى لصفقة القرن التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، وازالة اخر العقبات امام دمج اسرائيلي في النظام الاقليمي.. وان النظام السعودي على علم بالخطة وشريك في تنفيذها. رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، لم يكتف بالترحيب بالقرار الاميركي، بل اكد في تصريحات نقلتها قناة سكاي نيوز عربية(الإماراتية)، إن أي اتفاق سلام مع الفلسطينيين يجب أن يتضمن اعترافا بالقدس عاصمة لإسرائيل. وهو ما اكده اخيرا اثناء لقائه مع الرئيس الفرنسي مشيرا الى استيعاب الفلسطينيين لحقيقة أن القدس عاصمة إسرائيل سيُحقق السلام، معتبرا ذلك شرطا جديدا لاي مباحثات مع الفلسطينيين. كما جدد نتنياهو التأكيد لماكرون ان الكثير من الدول العربية تدرك الآن أنّ إسرائيل ليست العدو بل هي حليف حيوي. وهذه هي القاعدة الحيوية في المهمة الجديدة التي يضطلع بها الامير محمد بن سلمان. اذ ان كل المؤشرات تؤكد ان التحركات التي يقوم بها الملك السعودي غير المتوج، بتفويض كامل من ابيه شبه المقعد، ليست تحركات عشوائية بل هي استراتيجية مترابطة يشرف على تنفيذها عشرات المستشارين الاميركيين وبعضهم من اليهود الصهاينة، الذي يعملون في مؤسسات استشارية يستخدمها محمد بن سلمان لاعداد سياساته وبرامجه الاقتصادية. واذا كان وزير الخارجية الاميركي يشكو من اختراق محمد بن سلمان دائرة البيت الابيض الضيقة، ومشاركته في تنفيذ مخططات سياسية داخل وخارج المملكة، بالتعاون مع اقرب مستشاري الرئيس ترامب، فإن ذلك يعتبر كافيا لمعرفة الاطار الذي يتحرك فيه النظام السعودي في المرحلة الراهنة.
الخلاصة
لا شك ان هامش المناورة يضيق على حلفاء الولايات المتحدة التي تجد نفسها مضطرة لقطف ثمار الربيع العربي، وما احدثه من دمار، للتقدم خطوة اضافية في مشروع الشرق الاوسط الجديد. الا ان هذه السرعة لا تتيح الوقت الكافي لحلفائها لتثبيت مواقعهم واقناع شعوبهم بأن يما يفعلونه ليس خيانة عظمى بحق مقدسات الامة.
ومع اشتداد الصراع حول القدس اليوم، والانقسام الحاد الحاصل بين محور التطبيع ومحور المقاومة، بات النظام السعودي في حرج ومأزق حقيقي: الوفاء لالتزاماته امام راعيه الاميركي والانكشاف امام شعبه، او التراجع وخسارة الدعم الممنوح له من الخارج. خياران احلاهما مر، واللعبة اقتربت من نهايتها!
بقلم : عبدالحميد قدس
ارسال التعليق